نصوص أدبية
قصي الشيخ عسكر: واترلو
واترلو رواية جيب اغترابيّة
هكذا
من دون مقدمات
وجدت نفسي في هذا المكان البعيد القريب.
أمامي ساحة حرب مذهلة مساحة واسعة تحدّها تلال من ناحية الشمال وبعض التلال من الشرق. بعض القتام في الجو وبعض إشراق وهناك على بعد خطوات مِنّي جيشان يتحاربان، فيهم من يرتدي الأسود والأحمر، وعند الجانب الآخر جيش بملابس ترابيّة، كانت المسافة بينهما قصيرة، أحدهما يقتل الآخر ولا أحد يموت، بنادق قديمة يحملها جنود يجثون على ركبهم يطلقون النار على آخرين.. مشاة يتقابلون في صفّين يوجّه أيّ صفّ رصاصه نأحو صدور عدوّه فيقابله الصفّ برصاص ولا أحد يموت.
ولعلّني أبصرت مدافع عن بعد بين التلال والأجمات.
يبدو الوضع خطيرا.
لا أحد يأسف.
ولا أحد يخاف أو يموت..
حرب حقيقيّة من دون موت.
ويبدو لي من خلال حواسي الأخرى أجد الجميع يبتسمون... بعضهم فرح.. والآخرون تلوح الراحة على وجوههم حتّى لأكاد أظنّ الموت وديعا لايحشاه أحدٌ مثل قنفذ أليف يلتفّ على أشواكه ولا يرغب في أن يزعجه أحد.
كأنني أعبّرِ بهذه الحرب عن مشاعري الباردة.
أريد قتلا ولا موت
وعنفا ولا أذىً
أظنّ أنّ المعركة بدأت قبل وصولي بساعات.
وبّما قبل دقائق.
أو كانوا ينتظرونني وحين لم ألتفت إليهم بدؤا الحرب على أمل أن أصل.
لا شئ يأتي من فراغ... حدّثت نفسي
هل كانوا ينتظرونني أم أبالغ لأجد لنفسي موقعا في هذه المعركة القاسية.
كان الجنود يتراكضون، أرى قذائف مدافع بعيدة خلف التلال تحصد بعضهم، أحيانا يمرّون بي فأصبح في وسطهم، حالة من عدم المبالاة والبرود تجتاحني فلا يخطر الموت على بالي.
لا يهتمّ بي الجنود، ليت أحدهم سألني من أنت أو وجّه بندقيته نحوي يستنطقني وإن كنت أجهل كثيرا من الأمور أوّلها أني لا أدري تفاصيل كثيرة عن حياتي، وفيّ رغبة أن أعرف. استوقفت أحدهم. جندي في العشرين من عمره، أشقر ذو عينين ثاقبتين:
سألته:
- ماذا تفعلون.
قال ضاحكا بلغة أفهمها ولا أعرفها:
- نحن جند الإمبراطور نمارس القتل : القتل وحده مهنتنا نَقْتُل وَنُقْتَل.
وغادر، فهرعت إليه، لمست كتفه، قلت بإلحاح بلغة يفهمها وأظنّه لا يعرفها:
- أين نحن.
تحولّ عني إلى شجرة كستناء برّيّة ضخمة ثمّ استل من نطاقه العريض سكينا قذفها إلى جذع الشجرة، فانغرزت فيه إلى النصل:
- أنا مشغول بحدث عظيم ولستُ متفرّغا لتفاهاتك إذا نطقت بحرف واحد ستكون في قلبك.
وغادر تاركا السكينة في الجذع.. تساءلت :
كيف وصلت إلى هذا المكان وماعلاقتي بالأمر؟
كل من المتحاربين، وباعثي الفوضى يفهم أحدهم الآخر، من دون لغة ما، غاضبون، وفرحون، من يبكي ومن يضحك، لا تبدو الدهشة على يضحك ولا الغضب على قسمات من يصرخ:
زعيق
غضب يتطاير
إحساس واحد يجتاح المتقاتلين وأنا منهم.. البرود واللامبالاة في كل الحالات:الفرح الغضب الحزن السخط الرضا.. أنا الحاضر الغائب الذي يفهم العالم من دون لغة، ويفهمني الآخرون، مجرد أن أفتح فمي وماعلى الآخرين إلّا أن يفعلوا ذلك.
قد يكون النظر يكفي:
وحركة الشفاه.
يدفعني فضول يلحّ من دون خوف ولا فرح:
لايشغلني من أين أتيت أو كيف جئت؟ يمكن أن أؤجل هذا التساؤل إلى وقت آخر. فيّ فضول يدفعني إلى أن أسأل:أين أنا الآن.
في هذه اللحظة فقط. ماكان أو مايكون أؤجله.
قلت أجرّب مع جنديّ من الطرف الآخر، فقد يكون أصحاب الملابس ذات اللون لخاكي القريب من لون الأرض، أكثر لطفاً. في الثلاثين من عمره:
- سيدي من أنتم؟
مسح على رأسي بلطف:
- نحن جند صاحب الجلالة، وهكذا أفعل مع كلبي حين أعود بعد الحرب.
تجاوزت سخريته:
- أين نحن الآن؟
- لا عليك أنت أسيري.. (مطّ شفتيه) لن أقتلك، فالموت هنا لا يحقق الرغبة. زسأطلق سراحك!
على الرغم من كلّ ذلك، فقد رأيت ساحلا قريبا، وجزيرة أخرى، خارطة على الأرض بعيدة عن أقدامي. أشتاق إلى الخوف.. في هذه اللحظة أحب االحزن.. ربما الفرح وحده لا يكفي.. ساعتها فهمت بعض الأمر. أنا على أرض يتقاتل أمامي جيشان عظيمان، وهناك بحر وجزيرة أخرى أراها تربض مثل أسد ظهره باتجاه الأرض التي يتقاتل عليها الآخرون.
رسم ساخر
للجزيرة الأسد التي لا تعير اهتماما لما يجري
في اللحظة المناسبة رأيت جيشا آخر يقدم من ناحية الغرب عبر التلال :
أبواق
مشاة
مدافع تطلق نيرانها على رؤوسنا.
فرسان الخيول يندفعون مهتاجين ويتلاشون من نظري.
حصاد آخر، يسقط قتلى كثيرون من ذوي الأحمر والأسود، ويبتشر جنرال اللون الآخر أسمعه يقول:جاء الجنرال بالإمدادات لو تأخر خمس دقائق لتعرضنا لهزيمة رهيبة. عليكم بالفرسان. أبيدوهم. يبتسم وأعترض على قوله:
سيادة القائد هل تقول لي ماذا أفعل؟
لا يلتفت إليّ، يظنني، أنا الذي لا أعرف كيف جئت، يظنني جنديا صغيرا، على الرغم من أن لون ملابسي يختلف عن لون جنود الجهتين المتحاربتين. لا أبصره، ولا أميّزه فقط أحسّه، فأدرك أني أرتدي ملابس تختلف عن لون الملابس الأخرىالتي يرتديها الجيشان المتقابلان.
تبقى طلقات متفرقة هنا وهناك.
فرسان سقطوا من على خيولهم، ففرت الخيل مذعورة بأيّما اتّجاه مثل كلاب أصابها السّعار، وهناك فارس قُتِلَ أو جُرِحَ فعلقت رجله بالركاب وكانت الفرس تسحله معها نحو تلة بعيدة. أظنّ حسب بصري وسمعي أنّ الحيوانات من خيول ودواب تجرّ المدافع وكلاب مدرّبة تشتمّ الأرض أنها أكثر في هذه الحرب عصبيّة وحسّاسيّة من الجنود الذين لايبالون، ولا أنسى نفسي.
كل ما أعرفه عن نتيجة المعركة أن الخوف والتعب والجنون ظهر على الخيول والكلاب والسّناجب التي احتمت بالأشجار أكثر مما رأيته على الجنود المتحاربين أنفسهم الذين وجدوها لعبة تثير المرح والنشاط.
مع ذلك لا أحد يريد أن يقتنع أني أراقب فقط.
أبصر...
منذ البداية حتى النهاية أتتبع الحدث من دون أن أجد أي شئ يدفعني إليه.
لكن الآخرين الذين أنهوا تلك اللعبة اللذيذة على وفق ما أتصوره التفتوا إليّ. ربما جذبتهم ملابسي الغريبة.
أو
مكاني
ولعله على أقل تقدير هاجسي الذي يشبه هواجسهم.
وتصوّري الغامض عن معركة شاركت فيها ببصري وتحمّسوا لها ببرود.
جنود الفئتين متشابهون تماما:أشكالهم وجوههم عيونهم، قد لا تميّز جنديا عن الآخر، وفيهم من ذوي االملابس السوداء والحمراء ومن أصحاب الملابس ذات اللون الخاكي.
اقترب مني جندي أو ضابط كبير الرتبة. كانت عيناه تحدِّقان بي:
أنت ماذا تفعل هنا؟
سيدي لم أفعل شيئا.
صرخ فيه الضابط ذو القميص الخاكي:
أتركه لي أنا أحقّق معه نحن الذين انتصرنا
تقدم عسكري آخر وقال:
أنت أسير مثله وسنحاسبك بطريقة أخرى.
انسحب العسكري بهدوء.
لم يظهر عليّ أيّ اضطراب.. الطرفان الغالب والمغلوب يراني أسيرا، وأظنّ الحرب مازالت جارية مادمت فيها لأنّ الآخرين انشغلوا بي، من ملابسي التي لا أكثرث للونها ولا أعرفه إلى الآن عرفوني. أدركوا أني غريب عن الطرفين، القاتل والمقتول.. المنتصر والمهزوم بعضهم _وهم قلّة من الطرفين - ظنّوني أسيراً مشتركاً انشغلوا عن أسراهم بي، أنظر إلى نفسي فلا أرى جسدي عاريا ولا أتبيّن ملابسي، لكنّي لم أشعر قط بالخوف لمشاركتي باللعبة الخفية:
من أنت، ماسمك؟
ياسيدي لا أعرف صدقني أعرف أنّي أنا!
من غير انفعال سأل:
من أين جئت؟
لا أعرف ولا أريد أن أشغل نفسي بذلك!
لم جئت إلى هنا؟
لا أدري.
تأمّل قليلا، كنت أفهمه من دون أن أعرف بأيّة لغة يتكّلم، وكان يعرف لغتي، في هذا المكان وهذه اللحظة ينسى الإنسان فيه كلّ شئ ويعرف أيضاً جميع المعاني فلا مكان ولا زمان غير هذا المكان والزمان، والوجوه التي يراها كلها شقراء وبيضاء، قد يرى سوادا وظلالا، ولا يدرك الليل من النهار، الخوف كالحر والبرد يتلاشى مهما كانت النتائج، والحرب نفسها تسلية لاتثير قلق طرف أو من يربح أو يخسر:
إلى الرافعة...
تقدّم نحوي أربعة جنود من ذوي القمصان الخاكي، حملوني إلى الساحل في حين ظل المنهزمون والمنتصرون يراقبون.
ظل الخوف بعيدا عني
والأسف كلمة فارغة المعنى
لست أبالي
قلت لنفسي :وليفعلوا ماشاؤوا بي فأنا أحسّ أنّ الموت مازال بعيدا عنّي بل هناك فاصلة ما في حياتي تشير إلى واقع لا أستطيع الهرب منه إلا بمعجزة وليس هناك شئ سيئ سوف يحدث.
وضعني الجنود على رافعة خشبية بهيئة منجنيق أعدوه ليقذف الصخر، البحر تحت بصري أزرق تخالطه خضرة. يكاد يخيل إلي أنه يغص بمخلوقات كثيرة لا أعيرها أيّ اهتمام ولا تثير في نفسي انطباعا ما. قد تتحوّل إلى حيوانات أليفة مثلي !
ماذا تراهم يفعلون وقد رأيت ذوي الأحمر والأسود ينسحبون، يلملمون خيامهم وأشلاءهم، قائدهم القصير يطلق لموكبه العنان، من الصعب في هذه الحالة أن تتبين مشاعر المنهزم فضلا عن المنتصرين لأنّك أنت نفسك لاتدرك مشاعرك، الدهشة نفسها تنسلّ من روحك ثمّة، فاصلة بينك وبين الأشياء التي يفترض أن تعرفها، وشيئا فشيئا أرى العالم الآخر يتحرك كأنما وجودي هو الذي يثقله، ربّما سيكونون في حال أفضل لو تخلصوا منّي،
لون ملابسي.
شكلي
سحنتي تحتلف عنهم..
- أطلقوه... إلى البحر...
هكذا قال الذي يقف خلف الرافعة المنجنيق!
فرحت أرتفع وأهوي.
2
حين قذفتني الرافعة باتجاه البحر التفتّ فرأيت كلّ شئ يعود إلى طبيعته. فرغت أو كادت ساحة المعركة من المتحاربين وظهر الهدوء على الأرض التي خلفي.
رويدا..
رويدا...
رحتُ أهوي نحو البحر، وليس في بالي أيّ خطر. تحميني مشاعري الباردة إلى الحدّ الذي جعلت فيه ابحر أليفا، رأيته لايغامر ليؤذيني بكل مافيه من موج شرس، كواسج أو حيتان. لقد ظلّت مشاعري باردة في الماء كما كانت على الأرض دقائق المعركة الغريبة أو أيامها، لا يهم الوقت أمّا الذي يشغلني فهو شئ آخر أنّ العالم إلى هذه اللحظة لم يعد يؤذيني سواء البرّ منه أم البحر.
رحت أضرب الماء بيدي ورجلي.
لا تعب قطّ.
وعن بعد لاح لي شبح سفينة مهترئة قديمة ذهني الملئ بساحة الحرب والجنود، رسم لها عن بعد صورة هيكل عظمي لحوت كبير يطفو على البحر، يمكن أن تكون أشياء كثيرة غابت عن تصوري، أمّا حركات جسدي.. المشي... الجلوس.. فهم المأمور جيدا والتوقّع عما يحدث فتلك مهارات لا أنساها مثلما، في الوقت نفسه، نسيت أصولا أخرى لا أعرفها عن نفسي.. من أنا ؟ كيف جئت إلى هذا المكان.. جسدي يحترف العوم والمشي. لا يمكن أن أكون قد انبثقت فجأة في هذه الدنيا الغريبة من دون مقدمات.
لا أشكّ أنني مارست هذه الهوايات في زمن ما ومكان ما إذ لا يُعْقل أنّ مخلوقا مثلي انبثق هكذا فجأة في الحياة من دون طفولة.
أضحك على نفسي لكنني يمكن أن أؤجّل بعض الأمور إلى فُرَصٍ أخرى.
من حسن حظّي أن البحر ساكن، فلا ريح ولاموج.. أضرب بيديّ ورجليّ الماء لعلني أصلّ إلى السفينة، لا وجهة غيرها أمامي. وكنت آمل ألا تكون مثل سراب في الصحراء يراه العطشان ماء.
ماذا لو ظهر لي كوسج.
حوت قاتل
لا أعير الأمر اهتماما
مجرّد خاطر عابر
فيّ هاجس يشير إلى أن البحر يمكن أن يكون صديقا
ويشطّ ذهني نحو دلفينٍ صديق. أمامي حديد طاف أعوم إليه.
أعوم وأفترض معاني ثمّ ألغيها،. أظنني بحاجة إلى بعض القلق والشكّ والخوف.
راحات يداي تصارعان الماء، والسفينة تقترب مني.
ليست سرابا.
ولا هي بهيكل وعظام.
معدن..
حديد صدي . وكلما اقتربت لعيني رأيتها أكبر وأكبر.. سوى أنّي لا أشعر بجهد كثير، المسافة كانت حقّا طويلة مابين السّاحل الذي قُذِفتُ منه والباخرة البعيدة.
ثمّ
عرفت أنّه خداع بصر جديد.
سراب بلونٍ آخرَ...
سراب لايخدعك بل يحوّل الأشياء البعيدة عنك إلى طبائع أخرى.
المهم أنّك أبصرت شيئا يشخص أمامك.
حقيقة هادئة وسط الماء لا كما عهدت الوضع على البرّ من حركة وصخب وفوضى.
إنها هي السّفينة التي رأيتها عن بُعْدٍ غير أنَّها لم تكن من حديد لها مقدمة وقمرة في الخلف ونافذة، تيقنت، وهي على بعد أمتار قليلة، أنّها من خشب قديم، وهناك أشنات أكلت بعضها، وبريق صدئ، يشع من سوائل لزجة، ببريق باهت أقرب إلى الصفرة والقتام. قد تخفى كثير من الحقائق، والدليل الوحيد على وجود السفينة أنها علقت بسنّ صخري منذ سنوات فانحشرت بين دوائره ومثلما حاصرها الصخر فعلقت به مرت عليها سنوات طويلة ليتآكل بعضها، وتخيِّم العفونة على جوانبها وتحيط الأشنات بجانبيها.
كنت أضع يدي على صفحتها:
فأنزلق.
رغوة لزجة منعت راحتي من الالتصاق بها..
سقطت في حيرة
دهشة مع أني تجاوزت الدهشة في معركة رأيتها وعاشرتها قبل أن أرمى في البحر.
كيف أصعد إلى سطحها، ويداي لاتثبتان على صفحتها، اندفعت أبحث عن منفذ آخر وطفت إلى جانبها الآخر من جهة الخلف، ولم أتبين ألا ظل القمرة على الماء وحين أصبحت عند الصفحة الأخرى، أبصرت سلما قديما ذا درجات هرأة، وسطري حبال ينحدران من السطح إلى الدرجة الأدنى.
ابتلعت نفسا عميقا من الهواء ثمّ نفثته كأنّي أثأر من الفراغ الواسع الذي يمتدّ أمامي على الماء.
ودفعت صدري باتّجاه السّلّم
راحت يداي تتشبثان بالحافتين الخشبيتين لكن يدي اليسرى انزلقت ومال جسدي نحو الماء. كانت هناك لزوجة تركتها أشنات اخضرت على الحاجزين وبعض رطوبة من قواقع وأشنات تغطي الحاجز. هلا رآى أحد هذه السّفينة الهيكل قبلي؟انتبهت :أمر لايعنيني فَلِمَ أتعمّد أن أبتكره أم أدّعي أنّي أتشاغل بأيّ سؤال يخطر على بالي ليحول بيني وبين اللحظة الرّاهنة. استعدت قواي وقبضت بيدي اليمنى حاجز الدَّرَج المحاذي لصفحة السفينة، واندفعت بجانبي الأيسر نحو العارضة الأشدّ لزوجة التي تحاذي الماء. أصبحت يداي كلتاهما قابضتين على الحاجز الأيمن لأروح اتحسس بقدميّ الدرجة الأولى التي تناثر عليها الماء.
أبصر كلّ شئ ولا أبصر
لا أظنني في حلم
أو
أظنني في منزل وسط بين اليقظة والحلم.
هل عمت بملابسي. الجنود الذين أرسلوني إلى المنجنيق لم يجردوني من ثوبي. هل يَعقل أنّي لا أرى ثيابا تسترنيـ وأراها فلا أعرف لونها؟
بحذر خطوت قدماي السلم درجة درجة. يد تقبض على الحاجز، وأخرى تتحرك لموضع آخر، أعطيت الحاجز اللزج ظهري. يالها من رحلة شاقّة، كانت أكثر جهدا من النظر إلى حرب بين طرفين غريبين عنك، وأكثر صعوبة من العوم في البحر.
وبعد مسيرة طويلة ارتقيت سطح السفية.
ساحت فيها عيناي..
عنبر فارغ
مقدمة متآكلة
حبال تكدست وشراع ممزق ملقى بجانب حلقة من حديد ثبتت بإحكامٍ أمامَ فتحة عريضة يسدّها غطاء ذو مقبضٍ خشبيٍّ ثخين.
وغطت عينيّ مفاجأة غريبة!
عظام طيور
وحشرات يابسة
وجثة نورس كبير مات عن قرب، قبل بضعة أيام، فانبعث منها رائحة حادة..
لم أر طيرا أو حيوانا أليفا سواء على اليابسة أم الماء مع ذلك عثرت على بقايا هياكل وأشنات.
قد تلوح في المستقبل. لِمَ لا.
الآن بدأت أستعيد بعض حواسٍّ فقدتها عندما شهدت ببصري وسمعي المعركة الكبيرة.
أشعر ببعض التعب وحيرة !
دهشة حادة
واستغراب.
لا أفكر الآن برفع الغطاء والنزول إلى العنبر.. أرجأت الأمر إلى وقت آخر. قد يراودني النوم فأهرب إليه، أما الآن فالمقصورة في خلف السفينة هي التي تشغل اهتمامي، فخطوت نحوها حذرا من أيّما زلق. كدت أهوي إلى العنبر فقد داست رجلي على مكان نخر فترنحتُ واستعدتُ ثانيةً قواي، وتمايلت باتجاة المقصورة لأستريح قليلا. دفعت المصراع برفق، فانحدر إلى الظلام الدامس داخل المقصورة نورٌ ضبابيٌّ ملفّعٌ بالرطوبة ودوار البحر، فأبصرت عيناي ما في الداخل من مشهد ثقيل.
سيدة بثياب مهلهلة رثّة في الثلاثين من عمرها منفوشة الشعر بثياب مهلهلة رثّة تجلس، موثوقة بحبل غليظ، على كرسي معدني أخضر اللون، خرساء تحدّق جهة الباب حيث اقتحم عليها النور !
للوهلة الأولى خلتها ميتة.
متخشبة
أم
مومياء
أثارت هيئتها أسفي واشمئزازي. ، لقد استعدت بهذا المشهد حواسي الأخرى وظلّ الخوف بعيدا عني، اقتربت من المرأة الموثوقة لأتأكد من أنها مازالت حيّة. قلت
- سيدتي!
لا جواب لكنها حركت شفتيها. فرحت لأني وجدت إنسانا أيَّ إنسانٍ أتكلّم معه بهدوء.
- هل تفهمينني.
فجأة
كوّرت شفتيها وبصقت بوجهي.
تراجعت إلى الخلف:
- أيها الغبيّ كان يمكن ألّا تأتي أبدا!
قالت عبارتها بنفور، فسألتها مثل طفل برئ:
سيدتي أستطيع أن أفك وثاقك.. أساعدك، نحن لا يمكن أن نكون قساة مع من يساعدنا.
ابتسمت بخبث:
غبي لأنّك أضعت واترلو.
أسيرة..
مختطفة
مجنونة..
أشياء غريبة تظهر أمامي في هذا العالم، هذه امرأة خطفها قراصنة وسجنوها في السفينة البالية، ففقدت عقلها، ثمّ غادروا لسبب ما فتركوها لتلقى حتفها.
آخر الاحتمالات التي في جعبتي. فأيّة واترلوا، وأيّة معركة تتحدّث عنها.
- لا أخفي أنّي كنت أراقب معركة قبل أن يقذفوا بي إلى البحر فأصل حيث أنت ولست الذي ساهم فيها لا ربحت ولا خسرت.
عادت إلى حدّتها:
- بل أنت الذي خسرت.
- كيف أكذب عليك أنا الذي لا أتذكر اسمي أولا أعرف كيف جئت إلى هذا العالم؟
قالت بابتسامة غريبة:
سأحدّثك عن كلّ شئ.
حاولت أن أتودد:
- هل أفك وثاقك أولا؟
أشبه بالغضب:
لم يحن الوقت بعد.
بفضول:
لكن من أنت سيدتي؟
سأخبرك في آخر المطاف. (تطلعت فيّ بإشقاق) ألا تريد أن تعرف من أنت؟
نعم، ولتذكريني باسمي لو تفضّلت!
لاحت على وجههامسحة برم:
- ليكن اسمك، على وفق الزمن الذي جئت منه، حالم، وآمل ألا تقاطعني.
نعم.
- لتفترض أنّك جئت من القرن الحادي والعشرين، اسمك حالم، تمارس الطب.. التجميل.. تغيّر القبيح إلى جميل، والشاذ من أشكال الوجوه، والأطراف، وغير المألوف إلى أشياء جميلة.
ماذا تقول السيدة الموثوقة؟وأين مارست هذا؟وفي أيّ زمان ومكان؟:
- لكن ياسيدتي ذاكرتي لا تعي مامرّ من أحداث كأنّي تعرضت لحادث فأصبت بفقدان الذاكرة.
- قلت لا تقاطع، افترض أنك في البلاد العربية أنت تتحدّث الإنكليزية والعربية، نحن الآن في القرن التاسع ومزيج من قرون سالفة، ولأنّك تبحث عن الجمال فقد نمت غريزة الحلم في داخلك فلم تكن لتقدر على أن تكبحها حتى تحولت إلى أنك لوحلمت لأصبح الحلم واقعا، فلا تستطيع أن تتحرر منه.
نسيت ثأانية ني عادتها على ألا أقاطع:
- ماذا عن أهلي.. أسرتي.. أصدقائي ؟
- هذه أمور ثانوية لا دخل فيها لواقعك الحالي لك إنك تعيش الآن في عدة قرون امتزجت ببعضها والمزيج بدأ بالقرن التاسع عشر، إذ كانت أقرب الأحلام إليك معركة واترلو، حينما نمت حلمت أنك فيها وانهزمت إذ ليس نابوليون من انهزم وليس الإنكليز من غنموا فأصبح حلما حلمته واقعا وأصبحت العودة إلى القرن الحادي والعشرين حراما عليك.
مثل طفل:
- لكن هل أستطيع أن أنام فأحلم؟
بابتسامة غريبة:
- بلا شك غير أنّ أحلامك ستكون باتجاه الماضي، أيّ حلم يراودك سوف يكون ماضيا تعيشه، وواقعا لا تتحرر منه إلا بحلم آخر ينسيك ماعشته في السابق.
لعبة غريبة أمارسها، وهذه السيدة الموثوقة تبدو مرّة بريئة ومرّة خبيثة تطالعني بعيني كوبرا فأجدني أصدق براءتها وأشكّ في خبثها:
وَلِمَ لا أغفو فيراودني حلم عن قرون مازالت في الزمن الآتي.
هزّة من رأسها:
- ذلك محال فيما يخصّ الآتي..
أفهم ولا أفهم:
- سيدتي يراودني شك. منذ التقيتك قبل دقائق غمرتني كثير من الهواجس التي فقدتها فهل من لمحال أن أرجع إلى المستقبل الذي جئت منه حسب الزمن الحالي أو على الأقل لما محرم عليّ العودة إلى المستقبل؟
- نعم محال ولا تكن طفلا في اسئلتك لأن المستقبل وهم لم يتحقق.. الماضي تحقق أصبح واقعا ويمكن استعادته نحن الآن في مرحلة واترلو وأنت الخاسر لم تعد تملك من زمن ماقبل الحلم سوى اللغة التي يفهمك بها الواقع الذي تعيشه وتفهم به الآخرين والمهارة التي كنت تمارسها.
أنا في ورطة. ورطة حقيقيّة. لا يمكن أن أرجع إلى زمن جئت منه. سيدتي الموثوقة تنسبني إلى حادثة غريبة، في هذا الواقع دخلت حربا لست طرفا فيها ولم أكن أحد أسبابها كنت مرابقا لا أكثر، عاقبني المنتصرون والمنهزمون بأن رموني في البحر. يقال على لسان السيدة إنّ عليّ أن أتعايش مع الواقع، أقبل بمرحلة واترلو التي انتهت بهزيمتي، سأعرف الآخرين وأعرف أني يمكن أن أسمعهم بلغة ما، وأراهم بملابس ما، أناقشهم وغالبا ما أقنعهم، فأظلّ صاحيا، أو أنام لأعود في حلم يصبح حلما واقعا من جديد في عصر سابق.
الأحلام تتحداني.
والمستقبل نفسه يتمرّد عليّ.
لكن كيف أستطيع أن أنجو من النعاس إذا ماداهمني ذات يوم، تقول السيدة:
- لماذا سكتّ ما الذي راودك؟
- ماذا لوعشت واقعا جديدا وراودني النوم؟
- لن يحدث ذلك ولن تشعر بالحاجة إلى النوم إلا إذا دفعك الفضول لتدخل تجربة جديدة لن تكون في صالحك قطّ تذكَّر أنّي حذّرتك لن تعود إلى عصر آت في حلم جديد بل إلى عصر أقدم وأقدم وربّما تطاردك الدينوصارات والثلج..
لقد اقتنعت تماما بما تقول. اقتربت منها بعد أن كنت رجعت للوراء حالما بصقت في وجهي، الحقيقة لا أشعر برغبة في معرفة المزيد عن ماض قد أكون عشته في مكان ما ذات يوم، ولا يراودني الحنين إليه. لقد بقيت لي بعض من مشاعر لكن ليست بالقسوة نفسها أو إلى درجة تجعلني أشعر بالحنين والكآبة حدّ الإفراط. :
- هل تقولين لي من أنت.
ابتسمت ابتسامة حنونة :
- على الأقلّ تصوّر أني حلمك الذي لم يتخقق بعد.
- إذن سأفكّ وثاقك!
- لن تقدر لاتكن أبله لا تضيّع الوقت بالأسئلة عليك أن تقفز من السفينة وتعوم إلى السّاحل الآخر.. المسافة ليست بعيدة، هناك ستجد حرفتك ولا تشعر بالرغبة للنوم.
ورحت أفعل ما أمرتني به!
3
كانت هناك على الساحل بعض الأشكال الغريبة.
إنّهم بشر
كائنات مثلي يبدو عليها القبح في بعض أطرافها.
رأيت نساء ورجالا لهم ولهنّ أنوف طويلة مفرطة الطول كخراطيم الفيلة، وهناك من لهم آذان طويلة أو من له أذن مثلي تماما والآخرى مثل أذن الفيل، والحمار..
عيون قبيحة
أو عمياء جانب مبصرة
وجوه علاها الصدأ والجدري والبثور
اليد اليسرى ذات مخالب أو اليمنى تقابلها يد لا نقص أو زيادة فيها وربما الاثنان معا
شخص برجلين مشوهتين أو واحدة منهما.
أشكال أفقدها التشوّه في الأطراف أيّة مسحة من الجمال ولكي أكون على بينة من أمري أقول إنهم على النقيض من أبطال المعركة المنسوبة لي (واترلو) أولئك الشّقر الطوال الذين يشبهون الملائكة تماما.
لا أحد مثلي رآى من قبل إنسانا بيد غريبة أو رجل غريبة أو امرأة تمشي بثلاثة أرجل مثل الكنغر بعض هؤلاء الآدميين له ذيل طويل يستطيع أن يلفّه على شجرة مثلما يفعل فيل ضخم بخرطومه.
ربما هم - كما خطر بذهني أوّ مرّة تقع عليهم عيناي- بقايا لأشخاص كانوا أنصاف بشر وأنصاف حيوانات عاشوا زمن الأساطير ولعلهم آلههة انتقمت من آلهة أقوى فقذفت بهم إلى هذه الجزيرة في هذا الزمن المختلط في ذهني فلا أدري أيّ قرن يكون.
مع ذلك يبدو هؤلاء الناس أليفين مسالمين، حين رآني بعض أفراد منهم أخرج من الماء إلى الساحل اندفعوا ينادون الآخرين...
كذلك الأمر مع أبطال واترلو والسيدة الموثوقة: بلغة أفهمها ولا أعرفها.
وخلال دقائق تجمعت الجزيرة كلّها حولي.
رجال...
نساء...
أطفال...
قابلوني بترحاب مذهل.
رجل وامرأة يخطوان نحوي
كان الرجل طويلا برجلين معقوفين والمرأة بأصابع مشوّة طويلة.
جميلة بأطراف مقرفة...
جثيا على ركبهما أمامي ووضعت المرأة طاقة الورد التي تحملها بين قدمي.
ورد.. زهور. زأيّ طاقة أراها.. أشمّ رائحتها.. ولا أفهم أيّ وردٍ هو.
لم يكن من الصعب عليّ أن أفهمهما.. مثلما فهمت لغة في حرب انهزمت فيها كما قالت لي السيدة الموثوقة، فهمت لغة هؤلاء ذوي الأشكال الغريب.
بشر مشوهو الأشكال بعقول كاملة لاينقصها شئ.
ولا أظنني وجدت فيهم أيّ معاق بعقله، قد يبدو لمن يعيش بينهم أن عوق أجسادهم مرعب جدا غير أنّهم مسالمون لايدخل بعضهم مع بعض في أيّ صراع.
وليس في نيّة أيّ منهم الاعتداء على الآخر.
وحينما رأوني بشكلي الذي أنا عليه، ولا نقص يبدو في جسدي، حسبوني الإله الذي حلّ في جزيرتهم، تلك الجزيرة النائية عن العالم التي ظهرت لي بعد واترلو.
مان عليّ بعد المعركة المزعومة أن أعوم من القنال من الساحل الأوروبي إلى ساحل الجزيرة البريطانية قبل أن ألمح السفينة وأقابل السيدة الموثوقة فأستريح وأواصل العوم من دون تعب ولا خوف أو إرهاق. أين اختفت الجزر وظهرت مكانها جزيرة المشوّهين؟
حالة غريبة من تداخل زمنيّ هائل لست بقادر على فهمه. تقول السيدة الموثوقة إنّي جئت من القرن الحادي والعشرين، ولم أحمل من سماته سوى مهارتي في اللغة ومهارتي في التشريح.
أستطيع أن أجمّل الاشياء القبيحة.
هذا على حد زعمها. تجربة اللغة عشتها في واترلو، وعشتها معها، ومع هؤلاء الذي جعلوني إلها يقدمون لي فروض الطاعة لكوني بنظرهم إنسان متكامل. يغريهم شكلي.
يظنوني الأنقى
والأحلى
مهارتي الأخرى على حدّ زعم سيدة السفينة، أجربها فيهم.
سأبذل جدا كبيرا في أن أعيدهم إلى صورة متكاملة تجعلهم بصورة متكاملة مثل صورتينوإن كان ذلك يستهلك جهدي، أمّا الوقت فلا شغل لي فيه مادمت لا أستطيع أن أعود إلى المستقبل الذي يمكن أن يكون عدما.
لكن
ليتني أفهم، إذا كان المستقبل وهما كيف نمت وحلمت فيه بالواقع الذي أعيشه الآن، وكيف تداخلت واترلو في الواقع البعيد عنها من خلال هذه الجزيرة التي أحيا عليها مع هؤلاء المشوّهين. هناك بعض اللبس سوى أنّي لا أقدر أن أظلّ في حيرتي تلك، وما عليّ إلّا أن أعمل بالمهارات التي عندي.
اخترت مكانا وسط المدينة المشوّهة وبدأت في القطع والإضافة والتعديل
بدأت مسحة الكآبة والحزن تخفّ من على الوجوه.
لا أشكّ في أنّ أهل الجزيرة المشوّهة نظروا إليّ بصفتي إلها يدخل مدينتهم. غحتاروا لي مكانا وسط المدينة، وراحوا يزوّدونني بكل ما أحتاجه من طعام وشراب ولباس. وإذ يقابلونني ينحنون لي وينزاحون عن طريقي. ظنوني ذلك الإله الطيب الذي حلّ في جزيرتهم لينُزل عليهم بركاته وخيره العميم.
لم يروا كائنا متكاملا من قبل وكنت أرغب في أن أزيل عوقهم.
ثمّ بدأت أعمل.
المشرط بيدي..
ومهارتي التي ورثتها من قرن موهوم معي.
أوّل خطوة إنّي بدأت بالأطفال، فتعلّق الناس وهم يرون أبناءهم وبناتهم الصغار يعودون إلى شكل يطابق شكلي.
تجارب أرهقتني
وقد تدرّجت في تجاربي حسب العمر، الأصغر فالأكبر، أعمل طوال النهار، ولا أنام بل لا أقدر على النوم، وكلما مرّ نهار ازدادت هيبتهم لي، وقدموا لي القرابين.
هذا الإله العظيم الذي راح يزيل العوق، ويجعلهم طبيعيين مثله تماما إله متواضع
يمشي بينهم في الشوارع
يلاطفهم
أبدو رحيما
كان العوق في كل منهم يؤذي صاحبه ويعيقه عن الحركة والكلام، أما هذا الإله افإنه رحيم. زمسالم. زخرج إليهم من البحر ذات يوم فأحسن إليهم، وكان عليهم أن يتخلوا عم كلّ هاجس قديم وجدوه من قبل لقوى تغيب عنهم رؤوا مصائرهم فيها.
لقد انتهى بجهودي القبح ولم تبق إلا حالة واحدة يمكن أن أتفرّغ لها غدا أو اليوم
مع ذلك فقد غاب عن ذهني، أنا الذي قدمت من قرن ما لا أتذكره، والإله حسب نظر هؤلاء السكان الذين أجريت فيهم مشرطي فاصبحوا قطعا من الجمال تتحرك، مع ذلك أقول غابت عن عيني الإله حقيقة جديدة أذهلتني.
يوم عانى السكان من نقص فظيع، نسوا ايّ خلاف بينهم.
خين كانت أنوف بعضهم طويلة، وآذان آخرين، مشوهة، وأيدي نساء ورجال متورمة ومتقيحة، ولا أحد يخلوا من نقص وقتها كانوا أليفين، انشغل كلّ منهم بنقصه الفظيع عن الآخرين.
كان أحدهم يساعد الآخر.
لا يعرفون الخصام أصلا
ولا الشجار
فضلا عن القتل والجرائم.
نعم يقدمون الولاء والقرابين لمن جعلوه إلها ذلك الذي جعلهم مكتملي الخلقة يقدرون على العمل، ويمارسون حياتهم من دون عائق يثقل عليهم حركتهم ويحول بينهم وبين ما يرغبون.
في الوقت نفسه...
ومع مرور الوقت ظهرت مشكلة أخرى.
يمكن أن أسمّيها أثرا جانبيا للجراحة.
فمثلما تكون للحبوب، والمضادّات نتائج سلبيّة كان للجمال أضا نتائجه السلبيّة التي غاب عن ذهني تصوّرها وأنا منهمك في عملي الجراحي.
الآن أصبح كلّ مافي المدينة جميلا، ومع الجمال ظهرت مشاكل جمّة،
كان الجمال يحفّزهم على ألّا يحتمل أحدهم الآخر في بعض الأحيان.
يكره
يحب
يغضب
ينفعل
أخذ الخوف والشكّ يتسرب إليهم. ، وهناك من ظنّ أنّه الأنقى والأفضل.
ولم أمكم قادرا على أن يصبحوا بدرجة واحدة من الصفاء والعذوبة.
قدرت أن أزيل القبح وأجعلهم طبيعين فوجد كل منهم نفسه الأنقى
وربّما تطاول أحدهم في الخيال فظنّ نفسه على شاكلتي أنا الإله الذي جعلته بصورة تشبهني إلى حدّ بعيد.
ولم يجرؤ أحد منهم على مخاطبتي
لقد أصبحت في حلّ من أي عمل متفرغا للمشاهدة من دون أن أتدخّل أو أشارك في النصح ولم يدعني أيّ منهم لتدخّل في حل أي نزاع خشية من هيبتي فهاهم يعرفون أنّي يمكن أن أعيد بمشرطي من أغضب عليه.
هكذا ظنّوا
وكنت أظنّ أنّي انتهيت من عمل المشرط بعد أن نشرت الجمال في الجزيرة ورحت أفكّر باتجاه آخر يخفف من الآثار السلبيّة لعملي.
كانت هناك بعض حالات شجار ظهرت...
لأسباب تافهة حسب ظنّي.
وقد فوجئت بالحالة الأخيرة التي اقتحمت عليّ المكان بكلّ هدوء.
كانت صامتة هادئة
امرأة بوجه مقرف
مشوّه ذي شفتين متورّمتين
وعينين غاضبتين شيطانيتين
- أين كنت؟
ظلّت صامتة فظننت أنّها خرساء، فتحاشيت الحديث معها، وفضّلت أن أتعجّل بالمشرط، وحالما انتهيت..
استرحت...
أين كانت هذه المرأة وكنت أظنّ قبلها أنّي عالجت الجزيرة كلّها.
فتشت في كل مكان
زرت بيوتها
وتأدت من حدائقها وبيوتها
واسترحت تماما أنّي عملت عملا لايمكن أن يؤثّر فيه إلا الزمن والسنوات ولا تهدمه إلّا الشيخوخة.
رحت أقصد حالات القبح والتشوه أرصدها وأصحبها معي إلى وسط المدينة حيث عيادتي، ولم تخفق أيّة حالة وضعت المشرط فيها، أمّا هذه المرأة فعجيب أمرها:
هي التي قصدتني..
اقتحمت عليّ عيادتي يجللها الصمت:
- سيدتي أين كنت؟
.......
- مااسمك؟
.......
- عمرك؟
...
- هل تعرفين حالات أخرى لم أكتشفها بعد.
.....
اندفعت بأسئللة المتلاحقة أظنّ أنّي أقدر أن أحفزها على النطق أو أثير فيها غريزة الكلام:
أيسكن معك أحد؟
......
- ماذا تعملين.
وعندما يئست بدأت مع المشرط.
أقص
وأضيف
وألحم
ثمّ
راح القماش الأبيض يلتفّ على وجه السيدة التي كانت على ما أظنّ آخر مسخ يتحوّل إلى بني آدم لاغبار عليه.
وخلا فترة الانتظار، وفي لحظة غير متوقعة جاءني كبير القوم، الشخص الذي قدم إلى الساحل لحظة خروجي من وقدّم لي فروض الطاعة باسم الآخرين.
كانوا يرمون طاقات الورد أمام مسكني، ولا يجرؤ أيّ منهم إذا خطوت إلى الخارج أن يتحدّث معي، ينحنون إذا مررت بهم، يبتسمون، ويتباهون أمامي، ويظهرون سعادة مفرطة إذا حضرت احتفالا لهم، وكان كبيرهم قد ألقى عند الباب بعض الورود وحمل بيده مبخرة عبق بها جو الغرفة ثمّ نطق بعد الإنحناء وتقبيل الأرض أمامي:
سيدي لا أحد ينكر فضلك أنت الذي جعلتنا نقبل أشكالنا فنفخر بها بعد أنت كنّا لانطيق أنفسنا
أنت يامن خرجت من الماء
يا من لم يلدك أحد سوى البحر الدائم
حقّق غايتي إذ أنا أول من اختارني هؤلاء الناس حين كانوا بأشكال مقرفة مثلي لنقدّم لك فروض الطاعة.
أنا شبيهك ياسيدي جعلتني بالهيئة مثلك فهل يدوم فضلك علينا لتبقى سلالتي إلى الأبد ظلّا لك تنوب عنك في البلاد!
أنهى الرجل صلاته، فتطلّعت إليه بعينيّ الثاقبتين، وأشرت إليه براحة يدي فكفّ، وتراجع إلى الحلف حتّى توارى.
وبقيت أنتظر أن أرفع اللّفافة عن وجه مريضتي الأخيرة، فدحل عليّ شاب في الثلاثين من عمره، جثا على ركبتيه وأنشد:
أيّها السيد الكبير
تقبّل قرابيننا وشكرنا
لقد تغيّر كلّ شئ أيّها السيد الكبير
كنا قبل أن تحلّ فينا كان يحكمنا شيخ ونحن مشوّهون
والآن أصبحنا نتمتع بالجمال بفضل بركتك
أنا واثق أيّها السيد من أن الجمال وحده هو الذي يحلّ فينا
وأراني أكثر واحد قربا من سيمائك
فهل تختارني لأكون ظلّك
ولك قرباني.
ومثلما فعلت مع الشيخ القديم، أشرت إليه فخرج.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ إذ راح أكثر من رجل وامرأة يدخلون إلى مقرّي الذي عدّوه معبدهم، بعضهم شباب، وهناك كهول، وفي حالات، وقف أمامي مراهقون، كلّ واحد منهم يدّعي أنّه الأقرب إليّ والأكثر شبها بي.
صلاة ودعاء
وادعاء أنّ الأمور تغيّرت كثيرا بعد أن تحوّلوا بفضلي غلى صيغة أخرى.
ولم أكن أتكلّم حفاظا على هيبتي، وجلالي بينهم.
ودخل عليّ ذات يوم مراهق في التاسعة عشر من عمره، شاب وسيم، رأيت فيه الجمال والوسامة ولم أتذكّر كيف كانت صورته يوم أجريت عليه مشرطي، ألقى بكلّ هدوء وثقة حزمة وزهور متباينة الألوانوتراجع بعد أن انحنى:
أيها السيد الكريم لقد تفضّلت وجعلتنبي في أحسن صورة
كنت أكره نفسي
إذ أرى صورتي أرتاب فيها وأرتاع منها
أذني الطويلة أم شفتي القبيحة
أم المرايا والمياة التي نقشت عليها وجهي في يوم ما
والآن!
سيدي لا أطلب شيئا
لا أريد أن أكون ظلّا
أريد فقط إلّا أن أصنع المعجزات بفضلك
أصارع الوحوش
أطير
أخترق الحواجز
اجعلني بفضلك ياسيدي الرجل الخارق
ادرك أنّها أحلام شباب ربما راودتني حين أكون عشت في واقع آخر قبل حلمي هذا الذي لا أستطيع منه فكاكا إلأ بالتناوم والنوم لمَّا يراودنْي بعد، فقد بقي المشرط بين أصابعي وحالما خرج الشاب أدركت أنَّ عليّ أن أعود إلى مريضتي الأخيرة والوحيدة، تقدّمت من السرير ورفعت القماش الأبيض بتؤدة عن وجهها...
فوجئت...
فوجئت حقّا
بوجه آخر
وجه أصيل غير غريب عنّي
تلك السيدة التي رأيتها من قبل...
السيدة الموثوقة في السفينة.
حقّا
كانت آخر هؤلاء المشوّهين.
في ذلك الوقت بدت منفوشة الشعر في هيئة يرثى لها وصورتها الموثوقة المتعبة الرَّثة لم تخف مسحة الجمال من على وجهها.
ابتسامة واسعة تلوح على محيّاها.
كيف تسرّبت من عمرها وقطعت عليّ الزمن الذي اخترته في علاج مرضاي السابقين إذ بدأتُ من أصغر طفل. ربّما مات بعض كبار السنّ المشوّهين قبل أن يصل إليه المشرط. ح، وهذه السيدة تركت جيلها لتبقى آخر من يلتحق بقائمة الذين يتجرّدون من أشكالهم القبيحة.
واترلو
أم
السفينة...
البحر والجزيرة!
إذن حسب أيّ احتمال يخطر ببالي
كانت الوحيدة القادرة على قطع وثاقها ومغادرة السفينة بسلام.
أنا إذن أقف على مجموعة ألغاز.. أرض لا أعرفها وجذور لا أعيها ولا أحد يحلّ اللغز في حين هناك من يظنني إلها!
- أهذه أنت؟
- أتعجب من ذلك؟
- كلّ شئ محتمل!
- مشكلتك أنّك لا تقرّ أنّك تعيش الواقع تتصوّر نفسك في حلم.
المفاهيم تختلط في ذهني وأتمنّى أن تعود إليّ جميع انفعالاتي كاملة من خوف وغضب وحزن لا بعضا منها:
- ألم تقولي إنّي أعيش الحقيقة بعد أن تسربت من القرن العشرين البعيد عن زمننا عقلي يختلط كيف تسربت من ذلك الغيب الوهم إلى هذا الزمن الماضي البعيد بحرفتي ودخلت واترلو وعمت في البحر حتى وصلت إلى هنا فأصبحت الإله الوحيد.
هزّت كتفيها سخرية، واقتربت منّي:
- كلّ شئ تمّ عن طريق الحلم. لقد قادك هوسك في الجمال المطلق أنّك إذا حلمت بقيت في الحلم وتجرّدت من الزمن الذي تعيشه. فعشت أكثر من واقع، وكلما عشت في عصر وغفوت ثانية حلمت فأصبح حلمك واقعا لن تتخلّص منه إلا بحلم جديد.
قاطعت بتأفف:
- نحو القرن الذي جئت منه؟
بضيق هي أيضا:
- قلت لك من قبل ذلك محال، لن تتحوّل إلى وهم، حين تنام إذا قدرت، ستحلم بعصور ماضية أنت الآن في أجمل عصر، أمّا إذا غامرت فستعود إلى عصر أقلّ رقيا من هذا العصر الذي أنت فيه إله، هؤلاء حولوك إلى إله، وفرضوا له الطاعة المطلقة وليس هناك من ماض يقبلك إلا بصورة أكثر نقصا. ستكون مسخا أتحب ذلك؟
صمت طويل يستهلكني، فجأة أقول:
- لحد الآن لم أعرف اسمك؟
أطلقت ضحكة ناعسة ناعمة فيها رائحة التفاؤل:
أنا حلمك الآخير.
- نعم
- هذه هي الحقيقة !
- لم أفهم.
- كلّ أحلامك تجمعت فيّ فعبرت بك من قرنك إلى واترلو ومزجت بينها وبين الماضي بشكل يصعب عليك الرجوع، وها أنت تصبح إلها، لن تكون وحدك، أنا معك الإلهة.. لست وحدك.
هاجس شكّ يراودني:
- لكن ماذا لوقدرتلو تحديتكِ وغفوت، فحلمت بماض ردئ ؟
فهزت رأسها هزّة صارمة:
- محال لن تقدر(وضحكت ساخرة ضحكات مُرّةً) ليس هناك من إله ينام. !
استهلكني صمت، طويل حتّى خلت أنّي أتحجر.. أصبح صنما، لقد جلبت الخير والجمال إلى هذه الجزيرة الناقصة المشوّهة ولم أقدر أن أمنع عنهم الشرّ الذي عرفوه، كانت تتطلّع فيّ ولعلها قرأت هواجسي، فاقتربت منّي، ووضعت يدها على كتفي، وهي تقول بنغمة عذبة:
- لن تغفو.. ولن تحلم أنا الإلهة حلمك الأخير !
وكنت أضع رأسي على كتفها وأحلم وأنا بكلّ يقظتي وعنفوان هواجسي.
***
د. قصي الشيخ عسكر