نصوص أدبية

جودت العاني: الحصان والنوارس والإنتظار..!!

الحلقة الأولى من قصة: المدينة الغافية في احضان البوسفور

***

سار في طريق متعرجة تحفها بيوت حجرية قديمة، وجدرانها وشبابيكها تطل مباشرة على الشارع، وعلى الرغم من قدمها، إلا انها بدت نظيفة تماماً إلا من اوراق الاشجار التي تجعل منها الريح  تدور وتدور لتقذف بها في زوايا المنعطفات.. تلك هي في حقيقتها أزقة قديمة لا تسلكها الحافلات، أنما كان للجياد نصيب فيها فضلاً عن العربات، التي تجرها الخيول في الزمن الغابر.

وهو يسير على الأرض المرصوفة بحجر اسود.. كان أولاد المدارس يتراكضون وعلى ظهورهم حقائبهم، فيما يمتطي البعض منهم، وهم قلة على ما يبدو، (دراجات) هوائية رآها بالكاد تقاوم أرضية الشارع الحجرية.. وعند المنعطف كانت هناك باحة عريضة تظللها الأشجار وفي ركنها صخرة منحوتة على شكل مصطبة يجلس عليها عادة المتعبون من كبار السن وهم في طريقهم الى منازلهم.

جلس ليستريح عناء التجوال البطيء في ذلك الزقاق الطويل المتعرج، وهو يتأمل قِدَم الأبنية والأبواب والشبابيك التي تآكلت بفعل الزمن، فيما كان ساكنوها يحرصون على دهانها بألوان جذابة كاللون الأزرق والأخضر والأحمر القرمزي، والتي تشع جمالاً من خلال اغصان الأشجار الخضراء اليانعة.

رجع بذاكرته الى طفولته الأولى حين كان يلعب في الزقاق بالقرب من بيته الذي تمر أمامه عربات تجرها الخيول، وكان يشعر بالسعادة حين يلحق بمؤخرة العربة ويجلس على القضيب الذي يربط العجلتين الخلفيتين الكبيرتين للعربة، بعدها يحاول ان لا يبتعد وينتظر أن يبطئ الحوذي حركته، واذا استمر بسرعته العادية فلن يستطع النزول والعربة تسير مسرع عكس نزوله.. وجازف مرة وترك قضيب العربة الحديدي، وسرعان ما وجد نفسه يتكور في الطريق والدماء تنزف من ركبتيه ويديه، وأحدهم يسرع في حمله لأسعافه بعد ان انهال عليه بالسب والشتم وعلى ابيه الذي سمح له بالخروج من البيت. !!

وعند ركن المنعطف حيث وجه الشمس، افترش الأرض رجل يبدو انه لم يبرح مكانه منذ فترة طويل.. اشعث الشعر يلبس كل ما لديه من ملابس ويتدثر بمعطف قديم، وكان يقضم شيئاً والى جانبه عربة حمل خشبية بدولابين وحصان هو الآخر يأكل من كيس معلق في رقبته.. تحيطه اشياؤه، مبعثرة هي حاجياته.. صحن وقدح معدني قديم معلق في مسمار الحائط  والى جواره انتصب كيس من القماش يجمع حاجياته.. والحصان ما يزال على حاله يلوك شيئاً ويحمحم بين الفينة والأخرى، وخاصة حين يمر احدهم من امامه عبر ذلك المنعطف الذي يغمره ضوء الشمس.

اخرج لفافة وحشر فيها التبغ ثم اطبق عليها بعد أن رطب نهايتها ثم لفها واوقد فيها عود ثقاب، وغاب في نفس عميق اطلق بعده حزمة من دخان ابيض تتدفق معه همومه المكدودة ، ثم التفت الى الحصان وتمتم معه ببضع كلمات لم يفهم منها شيئاً ربما قال له..لا تتعجل في المضغ لأن لدينا وقت كاف للراحة بعدها سنقوم بالتجوال معاً..التفت نحوه الحصان، ربما فهم هذه الكلمات، إلا انه اشاح بوجهه بسرعة الى جهة اخرى، أما صاحبه فقد استمر يأكل ما في الكيس الورقي الذي اخرجه من جعبته الجلدية المنتفخة الى جواره.

شعر بشيء من الرغبة في الحديث مع نفسه حين تمتم ثانية.. انه صديقي الوحيد في هذه الدنيا.. نعم ، نأكل معاً ونشرب معاً وننام في هذا الركن معاً، وهو لم يمتعض يوماً إلا مرة واحدة حين أرغمته على السير وهو لا يريد.. كان مصر على عدم النهوض، كان يود الأسترخاء والأستمتاع بشمس الظهيرة.. وما أزال اتذكر ردة فعله التي أخافتني تعبيراً عن الرفض والإذعان لأوامري.. لقد ادركت، منذ تلك اللحظة، أنه كما أنا لا اريد ان اتلقى أمراً من أحد، وفهمت ذلك.. أنا أحترمه الآن، ولا شيء يجعلني أختلف عنه.!!

حرك ذراعه وأزاح شعره الكثيف الطويل الأشعث الى الخلف ومرر أصابعه بين خصلاته ثم استدار ليعبث بشعر حصانه الذي سرعان ما استسلم بسهولة لتلك الحركة الأنسانية الودودة التي تشيع الحنان بين كائنين يتقاسمان العيش معاً في ذلك الركن المظلل لبيت قديم تطل من نافذته الأمامية زهور رائعة.

العالم كله من حوله يتحرك، وهو يراقب هذه الحركة بدون مبالآة، لأنها حركة يومية تكاد أن تكون متشابهة في بعضها، أما تفاصيلها فكانت لا  تحصى ولا تتشابه لا في الزمان ولا في المكان.

فكر مع نفسه.. ماذا لو كنت مكانه.. مكان الحصان؟ ربما سأكون أكثر سعادة وراحة وحرية.. وحين التفت اليه تسمرت عيناه في عيني حصانه الداكنتين وفكر، ما تراه يراني؟ ربما يراني مثله حصاناً.. أو مخلوقاً آخر اعتاد عليه في ذهابه وترحاله.. أشفق على نفسه وأخذ يرمقه بنظرات الحب والأحترام طالما كان معه طوال الوقت ولم يذهب مع غيره.. لقد تركه مرة ساعات في مكانه في ذلك الركن واقفاً او ممدداً يستريح عناء العمل الممل.

التفت صاحب الحصان صوب الصخرة التي يجلس عليها قاطع الطريق الجوال الذي أحب الأزقة القديمة المرصوفة بالحجر وبيوتها ذات الأبواب والشبابيك الملونة يغطيها قرميد أحمر تحول لونه الى كاكي معشوشب بحشائش تضفي جمالاً أخاذاً على بيوت الزقاق القريب من سور مدينة (Zeytinburnu) زيتون بورنو الجميلة القريبة من البحر.. وتمتم بكلام فهم منه.. أنت ، الى ماذا تحدق برب السماء؟

أدرك انه محط تساؤل، وعليه أن يجيب إن فهمه صاحب الحصان..

لاشيء لقد كنت انظر الى الحصان الجميل الذي يبدو انه يفهمك جيداً.!!

شعر العجوز بالراحة من هذه الأجابة.

وقال: هل تعلم انه رافقني منذ سنين حين هرب من صاحبه الذي يقسو عليه طوال اليوم.. لم أكن أعلم انه قد ارتاح إليَ حين ربتُ على رقبته وهو يسير الى جوار ذلك الجدار الحجري القديم المتهرئ، ومنذ تلك اللحظة تبعني الى حيث أسير.. لقد قطعت مسافات بعيدة وهو الى جواري.. من الريف الى هذه المدينة والى هذا الزقاق القديم منها.. لقد تولدت بيني وبينه ألفة منذ أكثر من ثلاث سنوات.

ومن أين تحصل على رزقك؟

ألا ترى العربة والحصان.. اني أعمل وأكسب.. ولكن ليس كل يوم.

ولماذا تفترش الشارع.؟

ألا ترى... وأشر الى الجدار الذي يتكأ عليه.. إنه بيتي.. فهو صغير ولا يسمح بدخول الحصان.. ففضلنا هذا الركن.

هل لديك زوجة أو أولاد أو أهل؟

كانت لدي صديقة.. تزوجنا ، ولم نشأ أن يكون لنا اولاداً.. ذهبنا ذات مرة الى البحر، تركتها تنزل لتسبح ثم غابت بين أمواج البحر.. ولم يرها بعد ذلك أحد.. أنتظرتها طويلاً.. إنها ما تزال تسبح هناك حيث الأمواج..!!، ألا ترى، أني ما أزال أنتظر عودتها من البحر؟ هي لم تتعرف بعد على حصاني، وأنا واثق بأنها ستحبه كثيراً.

وماذا كنت تعمل قبل ان تتعرف على فتاتك وحصانك.

أنا ادرس الأنكليزية في مدرسة المحافظة.

ولماذا غيرت مهنتك؟

أطرق رأسه الى الأرض وقال.. أنا هنا قريب من البحر، أترقب عودتها.. أنتظر عودتها.. انها ستعود ، أنا واثق انها ستعود.. ألا ترى النوارس وهي تصرخ، إنها تنبأ بعودتها أيها المغفل.. إنها ستعود.!!

***

د. جودت العاني

10/ 05 / 2024

 

في نصوص اليوم