نصوص أدبية

محمد الدرقاوي: شفاه تداهم الفراغ

كان شابا في العقد الثاني من عمره حين قدم اليه صاحب الورشة التي يشتغل بها عرضا مغريا لم يتمالك نفسه الا وقد هوى علي يدي ولي نعمته يقبلهما شاكرا ممنونا، صدر خافق وعيون تعانق البسمات

"اِسمعْ آولدي صالح !.. عشر سنوات وانت تشتغل لدي، أتيتني طفلا باكيا منتحبا من إخوتك الذين أكلوا حقك وما جعلوا لك نصيبا مما تركه أبوك، ويشهد الله انه رغم ترددي واعتراض زوجتي شغلتك وآويتك وأدخلتك بيتي كما لو أنك ابني، كنت عند حسن الظن وما رأيت منك الا الخير: صدق القول وأمانة السلوك ووفاء القصد، ولم تلاحظ عليك للا حبيبة زوجتي غير حسن الخلق ولا منك شكت بنتي للازهور يوما قلة أدب أو زيغ نظر..

أمس وأنا في حديث عائلي مع زوجتي حول الخُّطاب الذين يطلبون يد للازهور اقترحت عليَّ زوجتي:

"لماذا لا يكون صالح الزوج الذي يرضى عنه ضميرنا مذ دخل صبيا بيتنا، فهو مناسب لبنتنا؟.. " وقد قلبت الامر على عدة وجوه بعد أن شغلني بتفكير النضج الذي يجب ان يتسم به رجل حتى يتغلب على رواسب ظلت راسخة من معاناة سابقة ؛وأنت من هذه الناحية رجل ونصف، كما أن للازهور بنتي قادرة على ان تكون ربة بيت تتحلى بكل صفات المرونة والقدرة على التكيف مع التغييرات وعنك لا يغيب هذا الامر كما أنها ستكون أما ناجحة فقد سبق ان ساعدت أمها في تربية اخيها المتوفي، وهي لم تتوقف عن الدراسة الا بعد أن نالت الشهادة الابتدائية، لكن أنت يابني جئتني طفلا وكنت داخل بيتي منطويا على نفسك، حتى المدرسة لم يسعفك الحظ بالجلوس على مقعدها، لكن استطعت ان تملك الحرفة في ورشتنا بمهارة واتقان وذكاء حتى صرت اهلا لتكون معلما يسير مقاولة رغم صغر سنه..

يصمت الحاج قليلا ثم يتابع:

للأمانة وجدتك اليها أنسب من غيرك، رغم فوارق طفيفة ربما ذابت وانت معنا في البيت، فتشربت من عاداتنا وتقاليدنا، وصرنا نعرفك حق المعرفة، أقمت بيننا وحضرت معنا مناسبات عدة فخبرناك، فلماذا نهدي خيرنا لغيرنا؟

صالح يعرف للازهور معرفة يقينية، لم يلاحظ عليها يوما ما قد يشوه سمعتها بشك او حبة خردل من سوء الظن ولئن كان كثيرا ما يسرق اليها النظرات فتبادله بسمات الرضا فذاك لانها كانت تعده قريبا منها، الرجل الوحيد الذي يدخل البيت بإذن أبيها وفي غيابه، حتى أمها لا تتحرج أن يظل شعرها عاريا أو ساقاها مكشوفتان في حضوره وكما تقول عنه للاحبيبة:من خجله لا احد يعرف لون عينيه..

لم يفكر صالح يوما في أن الفرق الزمني الذي بينه وبين للازهور قد تجاوز عمره بكثير، فهي قد أطلت على الأربعين بينما هو لازال في بداية العشرين وما عزم مشغله أن يزوجها له الا بعد أن صار لقب بائرة يلازمها ومن أجله تقطر ماء عيونها، تلازمها التعاسة ويقيم التشاؤم في أعماقها مأتما.. لماذا يرفضها كل من رآها رغم طول قامتها وبياض بشرتها وعيونها الواسعة.؟.أنوثة لا تخفى.. صدر عال وقد ممشوق، لكنها مذ رفضت ابن عمتها لتفسخه ومجونه وعينه التي كانت على مال أبيها صار لايقبل بها أي رجل غيره وكأن يد ميت قد وضعت عليها، كل من اتى لا يعود، وقد أدركت للا حبيبة أن بنتها "انعمل لها عمل" حتى تظل عانسا والفاعل الجاني اللئيم عنها لا تخفى أفاعيل أمه..

خصص الحاج لبنته وزوجها "مصرية" ملحقة ببيته الرحب الفسيح بعد اصلاحات جعلتها اشبه بدويرة كل مافيها ينطق أصالة مغربية تبهر العيون وتثير الدهشة، ونظم عرسا لهما اقام به الحي واقعده حتى صار مضرب مثل في الكرم وتنويع المأكل والمشرب وشغل جوقين أحدهما لطرب الآلة والثاني للملحون.. ورغم هذا البذخ فما سلم الحاج من القوالين:اب اشترى لبنته البائرة صانعا صغيرا لديه..

عاشت للازهور ليلة ليلاء كأنها أميرة فاجأت صالح بما كانت تستبطنه من أحاديث النساء في السطوح وهو يجهله، وقد حاول أن يذيقها بتوجيه منها من متع الحب ما اغتبطت به وعوضت حرمان سنوات العنوسة.. يتعب صالح وتطلب المزيد ؛ مدقوقة فوق صدره بالمسامير ومن اللعب على صدره لا تشبع.. أمها للاحبيبة صارت لا تحملها ارض او تقلها سماء بسروال ابنتها الذي اعمى العيون التي تكلمت واخرس الشفاه التي نطقت بعد أن غاب عنها الخطّاب زمنا ثم كانت إقامة صالح في البيت مبعث وشوشات شك وغيرة من جارات كانت عيونهن لهفة على صالح بما منحه الله من جمال الصورة، رجولة بطول قد، وشعر غزير كشعر الهنود يحرك الأمهات وبناتهن برغبة..

من الشهر الثالث لاحظ صالح ان زوجته صارت تتثاقل، وتزداد مع الشهور سمنة، رقادها صار يطول وتكره أن تصحو، يتستر على ذلك بصبر، لكن ما أغاضه أنها صارت منطوية على نفسها، قلما تبادله حديثا واذا تكلمت أتت كلماتها سخطا ونخطا، وكلما أراد ان يلمسها بليل أظهرت تبرما وضجرا، بل في إحدى المرات ركلته وعنها أبعدته، فأنى له من ليال كانت تمنع عنه النوم وهي بين رقص وغناء كمراهقة صغيرة، وحركات كانت تثيره برغبة، فهي اليوم صارت تنفر حتى من عطره الذي كانت تهواه وهي من اخترته له بذوقها وتصر الا يخرج الا إذا بخته على صدره، تقبله وتعض شفتيه ، وقد تضطره للعودة الى الحمام قبل الخروج.. اليوم صارت كثيرا ما تظل في سريرها تسد دونها باب غرفة نومها، تمنعه الدخول عليها بعد ان تحمل النوم خارجه..

لم يجد صالح غير للا حبيبة يشكوها إهماله من قبل ابنتها وما ركبها من كراهية له بعد ان كانت تمنعه حتى من الذهاب لعمله، وقد سمعها تقول لبنتها ذات يوم:

ـ كُلي وقيِّسي.. خفي على صالح ودعيه يخرج لعمله فأبوك قد انتبه لغياباته الكثيرة..

بسمة واسعة تشرق على وجه للا حبيبة، وصالح يصف لها حالة للازهور: "بنتي حامل !!.. لك الحمد يارب، عوضت يأسي أملا..

هزات صدر بوجيب تغيب عنها العقل بحضور وتحكم ارادي، يرتمي بعضهما على بعض في عناق للخبر السعيد، "قريبا يجد الحاج حفيدا يعوضه ابنه المفقود "، تطوق صالح بذراعيها ضاغطة على صدره، فيبادلها العناق، لم تكتف بقطف قبلتين حارتين من خديه بل تجد اسنانها بشفته السفلى قد تحكمت تاركة نزيفا تألم له صالح والدنيا تدور به لا يدري ما أصابه، ثم تنسحب فارة منه وكأنها تخشى رقابة عليها لتتركه بين قذائف عقله والبيت من حوله يلف به ويدور..

ماذا أصاب للاحبيبة؟.. هل ما قامت به رغبة فيها قد تحركت، أم غيرة فيها قد غلت؟ مقارنة بالحاج زوجها فهي أصغر منه بكثير، لم يتزوجها الا بعد ان طلق زوجتين قبلها كانتا عاقرتين ثم تزوج للاحبيبة وهي لازالت طفلة لم تبلغ سن الرشد ، فوضعت له للازهور ثم ابنا اتى بعدها فمات جراء بوحمرون..

كيف تسمح للاحبيبة أن تتجاوز حدودها مع زوج ابنتها وهي تدرك خجله وتقديره لحرمات بيت انتشله صاحبه من الفقر والعوز وأكرمه بزواج من بنته الوحيدة؟

يتلمس صالح شفته التي ترسل ألما.. لا زالت تنزف اثرا من دم.. يخرج من البيت وكأنه يتلمس الطريق من غبش في عيونه، وهدير في صدره.. يقتعد كرسيا على الطريق لمقهى صغيرة ، يطلب قهوة وكأس ماء، يصبه دفعة واحدة في جوفة.. يترك ورقة نقدية بجانب كأس القهوة ثم ينصرف..

انزوى في ورشة العمل بعيدا عن انظار الحاج. كيف يستطيع ان يتطلع الي وجهه؟ قد يسأله عن جرح شفته !! ماعساه يقول؟.. هل يجرؤ أن يخبره الحقيقة كما تعود الا يحكي له الا الصدق؟وأن زوجته للا حبيبة قد عرت عن وجه غير ما عرفه عنها؟ كيف يجني على نفسه ويشتت بيتين دفعة واحدة؟..

أتى أحد المساعدين يخبره أن الحاج قد سافر الى احدى المدن القريبة لحضور جنازة متعامل معه، وقد انتظره طويلا قبل أن يوصي العامل بتبليغ رسالته الى صالح..

بسرعة يعود صالح الى البيت، يدخل على حماته التي كانت تعد حلويات في المطبخ، تنهض اليه وتعانقه بقبلة على خده ثم بسرعة تجر كرسيا وترجوه الجلوس قريبا منها فلديها ما تخبره به عن للازهور.. يتملاها بدقة، كانه لم يكن معها صباحا وكأن ما وقع حلم اختص به ولم تشاركه أحداثه..

"ماذا تريد أن تبلغه عن للازهور؟.. "

انتفاخ متورم في وسط شفتها العليا شده بانتباه وابعده عن متابعة التفكير، يغلي من داخله وهي بجانبه هادئة..

 "دم بارد ونظرات براءة قد حيرته "رغم أنها كانت تتطلع اليه بنظرة لا تخلو من معنى.ماذا تريد أن تقوله؟

ـ صالح ولدي!!.. كما تعلم فللازهورحامل، وان ما أصابها ربما هو من التهاب مسالكها البولية وهو نفس ما وقع لي حين حملت بها، كما ان نوعا من الاكتئاب مايلازمها.. وهي تبكي عما بدر منها..

اهتز صالح، كيف لم تخبره للازهور بذلك؟الم تكن تعرف بحالتها؟ كيف تستبطن كل ألاعيب الحب بمهارة وعنها تخفى علامات الحمل؟ وكراهيتها له هل هي ظرفية أم ستدوم؟ هل للعمر اثر على وحم المرأة؟..

تضع للاحبيبة ذراعيها على كتفيه كأنها تبعث السكينة الى صدره وعقله الذي انشغل بما سمع:

ـ يلزم ان تصطبر قليلا، أيام وتعود اليك للازهور بنفس رغبتها وكل ماتحتاجه الآن فأنا موجودة ألبيه لك !!..

تثيره العبارة ولها يهتز ، ماذا تقول حماته؟.. وكيف وجدت الشجاعة لتبوح به؟ ربما تأويله لكلام حماته هو غير ما تقصدته ، ربما غاب تفكيره في فرحة اكتسحته كونه سيصير أبا فلم ينتبه لما نطقت به.. وقبل أن تعود لعجينة حلوياتها تقول له:

اذهب اليها، حاول ان ترتاح بجانبها، ستجدها في انتظارك ربما لاكما تحب أن تلقاك لكن أخف مما صدر منها ظلما في حقك، لتكن أناملك إحساسا يصل دواخلها،.. لقد قمت بما يلزم وبقوة لاني أكره ان أرى ابني حبيبي وقد فقد سيطرته على نفسه واحساساته..

أنت ابني ياصالح، وأنا لك أم، فاعذرزوجتك يابني فرغم عمرها فهي تتصرف خارج ارادتها، وحبها لك لامثيل له فأنت حبها الوحيد

حاول ان تأخذها لطبيب ليكتب لها دواء لالتهابات مسالكها البولية

تتملى وجهه ثم تقول ضاحكة:

هل راجعت نفسك في مافعلته صباحا؟

مندهشا يرد:

وماذا أتى مني؟

ضحكتها لازالت تشرق في وجهه بمعنى فترد:

ـ الحمد لله ان كنا وحدنا والا رجمونا بالطوب والحجر..

منزعجا يقول: بربك ماذا فعلت؟

الا ترى شفتي العليا كادت تفقد امتلاءها الوَسَطي ، ولوما اسناني التي انقدتني بعضة على شفتك السفلى ما تركتني.. أنسيت أنك ارتميت علي بجهالة واجتراء؟.. انكتمت خوفا عليك وعلى نفسي؟.

أحس خجلا يطويه، اضلاعه تصطك داخل صدره، هل حقا هو من بادر بعض شفتها أم هي التي ارتمت عليه وشرعت من فرحتها بحمل ابنتها تقبله؟ كيف غاب عنه عقل وانشل له تفكير فصدر منه ماصدر؟.. كيف اعاب على حماته سلوكها وهو من ارتكب الجرم الكبير؟.. هل حقا أن حماته لم تكن الا في موقف الدفاع عن نفسها وشرفها من تهوره، ماذا لو اخبرت زوجها فيجد نفسه في الشارع لاعمل ولازوجة ولابيت؟.. ثقة بها، هوى على يديها يطلب عفوها ويحدثها عن شفته وما فعلته اسنانها، ويقسم انه لم يتقصد ما فعل وبه لم يشعر، وكأنه كأن مسلوبا من ارادته..

تعانقه وتطمئنه:

ـ لا عليك، اقدر انفعالاتك وأفهمها، كلانا كان يعيش أزمة فراغ، إهمال وقلق، رغبة بي قد طالت فاحتملت وآمنت بالنصيب والزمن، وبك قد حلت.. داهمت عنفوان شبابك وقلة خبرتك فتهورت...

زوجتك في الانتظار يا صالح فرفقا..

يخرج صلاح ويترك حماته للا حبيبة تكمل عجين حلوياتها عيون تدمع وزفرات تحرق الصدر..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

في نصوص اليوم