نصوص أدبية

نضال البدري: اتصــال

مرت ثلاث شهور دون اتصال، او سؤال منه، تاركها تغوص في بحر من الحيرة، وفي كل مرة تبعث له برسالة، يصلها الرد خذلان وانتظار بات لا يحتمل.

كانت تمشي ببطء في الأزقة الضيقة، تخشى أن توقظ وقع خطواتها، حبات الرمل التي تكسو الشارع الذي مازال نديا، محتفظا بقطرات المطر، مثل قلبها نابضا بالأمل..لا يجف أبدا.

لم تكن تؤمن بالخرافات يوما، حيث كانت تقولها وترددها دوما: " لا يعلم الغيب الا الله ".

ها هي اليوم تحمل فنجانها بيدها مستسلمة لهواجسها، متوجهه لبيت العرافة أم جابر، التي تتناقل النساء همسا، وتتحدث عن قدرتها وموهبتها التي تثير الحيرة والغموض في وجوه الأخرين.

كانت تجلس القرفصاء متقوقعة حول نفسها، نحيلة الجسد، خافته الصوت، تراقب بعينيها الكلمات قبل أن تصل الى أذنيها، قلبها يخفق سريعا، وكأنه يمد يده نحو السماء، داعيا من الله أن لا يخذلها.

انتظرت بفارغ الصبر محدثة نفسها: هل سترى أم جابر، الخط المرسوم في اعلى الفنجان؟ هل ستقول لي هناك اتصال؟ هل ستعرف أنه رحل، وأني لن أتوقف يوما عن تصديق ذلك!

دفعت أخر دنانيرها، وكأنها تشتري وعدا، لا تنبؤا.

أمسكت العرافة الفنجان، أمالته نحو صدرها، وهي تمد عنقها، حدقت به طويلا.. صمتت.

- فنجانك ملئ بالمفاجآت اليوم، أنني لم أشاهد مثله قط!! رفعت أم جابر أصبعها برمزية، أرى ديكاً يقف على جدار عالي!

انتفضت الفتاة من مكانها، شهقت: ماذا يعني ذلك؟!

أجابت العرافة بهدوء: يعني أن هناك خبرٌ سارٌ سيصل اليك.

اقتربت منها وهي تزحف بأمل، انفرجت سرائرها بابتسامة عريضة.

- وماذا بعد؟

- أنظري، هناك خط طويل مرسوم بشكل دائري في أعلى الفنجان.

فرحت في سرها، تنهدت، محدثة نفسها: هذا ماكنت أنتظره سألتها ماذا يعني ذلك؟

- سيأتيك أتصال منه، ربما عبر الهاتف.

هزت برأسها نعم، مع أنها لم تر أي خط، سواء كان قصيراً أو طويلاً!! كانت فقط تتشبث بكل ما يسمى " علامة ".

رفعت أم جابر حاجبيها، وهي تٌحدق طويلا في قعر الفنجان: هل أنت على علاقةِ قديمةِ به؟

-  نعم نحن نحب بعضنا.

- لا أقصد هذا، هل التقيتما لوحدكما سويا في مكان ما؟ وهل كان هناك تماس جسدي بينكما؟

- توهج وجهها واحمرت وجنتيها كلا أبدا!.

صمتت ام جابر، قالت بتردد: أرى رجلا وامرأة يجمعهم سرير واحد، لكن وجهيهما في أتجاهين مختلفين، ربما تكونين أنت، أو تكون هي!

- ماذا تقصدين "هي"، نعم لربما هو على علاقة بغيرك! والله أعلم.

لم تبكي، لم تجب، فقط ظلت تراقب حركات العرافة وتنتظر ما تقوله.

تابعت العرافة: أرى سلما مكسور الدرجات، تصعدينه عدة مرات، دون أن يؤدي الى باب، أنت تتقربين منه دوما، لكنه يشيح بوجه عنك، تنهدت ثم استأنفت القراءة من جديد.

- نعم انقطعت أخباره عني.

- ارى امرأة ببطن منتفخ، لا أحد بقربها وحيدة تصارع المخاض،هل لك أخت أو قريبة حبلى؟

هزت رأسها ببطء، لا تعرف ما الذي يعنيه ذلك!.

- أطرقت العرافة قائلة: أنه الحزن، فهو ينمو مثل جنين في بطنك، لا يريد الخروج، أنت تحملين هما كبيرا يا أبنتي ..

ثم فجأة تغيرت نبرة صوتها، قطبت حاجبيها، وقلبت الفنجان في نصف دائرة، عليك بالحذر..

 - ماذا هناك؟ سألتها بخوف.

-  ارى ثعبانا في قعر الفنجان.

قربت الفنجان من وجهها، لعقت أصبعها المصبوغ بالحناء، وضغطت على صورة الثعبان وكأنها تسحقه.

وضعت الفنجان على الأرض ونهضت.

-  خلاص.. قالتها العرافة وكأنها تختم قـدر، او تغلق بابا.

لم ترد، أعطتها أخر ما تبقى من دنانيرها، نهضت بهدوء، وضعت حجابها فوق رأسها، مشت نحو الباب، في الخارج كان الغروب قد بدأ، رفعت رأسها نحو السماء، لا طيور، ولا شيء في الأفق، شعور بالغربةِ يسيطر عليها، وهي تمشي على غير هدىٍ، عيناها تحدقان في الارض والخذلان يترأى أمامها، أخرجت هاتفها وكادت تعيده الى الحقيبة،

لكنه أهتز فجأة، نظرت الى الشاشة، لم يظهر لها أسمُ، هناك فقط رقم مجهول، رفت ابتسامة خفيفة على وجهها، ثم تلاشت وبدون أن تضغط " رد "، أغلقت الشاشة وأكملت طريقها.

***

نضال البدري

 

في نصوص اليوم