نصوص أدبية
ناجي ظاهر: لا تزعلي يا ليلى
يتخذ كلّ منّا نحن ابناء الاسرة الصغيرة، مجلسه في بيت ابني الاكبر، أختي ليلى تجلس إلى جانب ابنها وإلى جانبه تجلس زوجته تحتضن ابنها، أتعمّد أن أجلس قُبالة أختي ليلى، منذ فارقت أمي الحياة قبل نحو الثلاثة أعوام لم أرها تقريبًا، كنت أتذرّع حين تسألني لماذا لا تزورني بأنني مكسور الجناح، فكانت تصمت بانتظار كلمة أخرى لا أقولها، هي تعرف هذا جيدًا، فهمتني منذ كنّا صغارًا، فكيف لا تفهمني ونحن نطرق أبواب الكهولة بيدٍ واهنة؟ أقرأ في عيني ليلى عتبًا مشوبًا بعذر لا يريد أن يستقر له وضع، عتبًا قلقًا.
- لا تعتذر لا يوجد هناك ما يمنعك من استقلال الباص من الناصرة إلى حيفا. الطريق إلي هناك قصيرة، تواصل عيناها عتبهما.
صمت قبر يخيّم علينا أنا وليلى، نحن الاثنين، بين الجميع مَن يشعر بالخسارة الحقيقية، فقد عشناها بكلّ دَقة من دقات قلبينا المتعبين.
- إلى متى سيبقى أبوك مشرّدًا ووحيدًا؟
تتوجّه ليلى إلى ابني متسائلة.
- لا أعرف يا عمتي، لا أعرف، قبل فترة قلت لأمي إذا لم تسمحي لأبي بالعودة إلى البيت، لن أزورك، فردّت بالغنى عنكما أنت وهو. أنا لا أريد رجلًا يفّكر في الكتب والاوراق أكثر ممّا يفكّر بزوجته وأبنائه.
يردّ ابني.
ترفض ليلى منطقه، تتمتم:
- بإمكانكم، أنت واخواتك أن تقاطعوها، حينها ستضطرّ لاستقبال أبيك في بيته. أبوك كبُر قليلًا، بيت الواحد منّا فقط يتسع له. كلّ البيوت تضيق، خاصة حينما يتقدّم الانسان في العمر.
ابني يبتلع الكلام، لا جواب لديه يغرق في صمته. ينبري ابن أختي، لقد كبرت يا محمد أهمس بيني وبين نفسي، تنتبه ليلى لما أهمس به، تقول:
- العمر قصير يا أخي، بالامس كان ابني محمد صغيرًا، أنظر إليه أصبح بين ليلة وضحاها شابًّا متزوّجًا وأبًا لأبناء. عليك أن تفهم هذا.
تبتسم زوجة ابن أختي محمد وهي تهدهد ابنها في حضنها.
- إنني أفهمه يا حبيبتي، لكني لا أعرف ماذا أفعل. أقول.
- تزوّج. أنت كاتب معروف ومحترم وهناك ألف مَن تتمنّى الزواج منك.
تردّ ليلى بحسم.
- أنت تعرفين أنني محدود الدخل. لا أستطيع أن أصرف على بيتين. أقول وظلُّ حزن يخيّم على شفتي.
- لا تعطها نقودًا. هي لا تريدك. بإمكانك أن ترفضها أنت أيضًا. لتذهب إلى المحكمة. أنا واثقة من أنها لا تستحق أن تأخذ منك شاقلًا واحدًا.
- لكنها ما زالت على ذمتي. القانون يفرض علي أن أمنحها إمكانية للعيش بكرامة. ثم لا تنسي أنه يوجد لدينا أبناء يعيشون معها ويحتاجون للمساعدة.
تطفر دمعة من عين ليلى:
- أنت دائمًا هكذا، تعطف على الجميع ولا أحد يعطف عليك. طلّقها. أنا مَن سيزوّجك. يوجد لنا أقارب يقيمون في بلدة قريبة تعرّفت عليهم مؤخّرًا، هم مثلنا شتتتهم النكبة في عامها القاسي. بإمكاني أن أنتخب واحدة من بناتهم لأزوّجك منها. أنت الآن ما زلت قويًا بإمكانك أن تعيل نفسك. غدًا ستكبر من الافضل لك أن تتزوّج وانت قوي قليلًا.
- لكنني لا أريد أن اتزوّج. لقد فات الوقت. ربّما كان علي أن أزوّج ابنتي الاخيرة. لا أريد أن يرى أحد في زواجي سببًا لعدم ارتباطه بابنتي.
يتدخّل محمد ابن أختي:
- ليش بدهاش مرة خالي ترجعك على بيتك؟ شو هي بتفكر القانون بصفها بس؟ القانون بقلش إنك لازم تضيع في هذا العمر المتقدم.
يقول ويتساءل بعد صمت:
- مش ممكن انه يستمر هيك وضع. انت لازم تتزوّج.
يقول محمد مُثنيًا على كلام أمه، أختي.
- بقدرش إني اتزوّج. انا بديش اني اطلق مرة خالك يا حبيبي. بلكي بكرة رجعلها عقلها. وارجعنا زي ما كنا زمان. تزورونا في الناصرة ونزوركوا في حيفا.
أقول. وأتابع: انت بتعرف انه خالك كاتب قصص. انا قررت إني اتزوج الاوراق زي ما بدها مرة خالك.
يطلّ حزن شفيف من عيني ابن أختي يتبعه حزن آخر مشابه من عيني ابني الاكبر. يخيّم صمت على جو الغرفة. لم يعد لدينا كلام. قلنا كلّ ما أردنا.
- لو كانت أمي بيننا ما حصل هذا كله.
أقول. تتجاهل ليلى كلامي، تقول بنرفزة مُحبة:
- الحكي معك خسارة، انت بدك تموت لحالك. بس والله العظيم، قسما عظما، انه ما رايح يهدالي بال دون ما اني ازوجك. تقول وتضيف: والله اني ما رايحة اخلي حدا يحضر جنازتك. محدا بستحق.
في الخارج ونحن في طريقنا إلى الشارع. تمدّ ليلى يدها لتسلّم عليّ مودعة. تتمّتم على مسمع مني:
- لقد شاب شعرك. وتقلع بعض اسنانك. بدك تتزوج الكتب والاوراق يا اخوي؟ بدك تكتب قصص؟ ما انت صرت قصة ممكن يجيي حدا بكرة ويكتبها.
أنظر إلى السيارة وهي تولّي مطلقة دويًّا صامتًا. أشعر بغصة في حلقي. لم يتبق لي أحد. تجمّعوا كلّهم وانفضّوا بسرعة. هاأنذا عدت إلى وضعي السابق. أرسل نظرة إلى الفضاء البعيد فلا أرى سوى الخواء ينتشر في كلّ مكان. لا تزعلي يا ليلى.
***
قصة ناجي ظاهر