نصوص أدبية
مزهر جبر الساعدي: الطريق لا يزال طويلا
كانت الساعة قد تجاوزت الساعة السابعة مساء كثيرا عندما نظرت لها. استرخيت على الكنبة في محاولة مني للتغلب على قلقي واضطرابي وخوفي وتوجسي من أن يكون حدث لها أمر ما. لكن، سرعان ما تذكرت؛ من انها تتأخر قليلا عن موعد عودتها من مراجعتها الدورية للطبيبة للفحص وتنظيم بروتوكول العلاج، في أغلب الأحيان. وجدتني والجدران تحوطني؛ أتنفس ضوعها في جميع موجودات الشقة من السرير والمرآة وبقايا غرفة النوم، جسد من عطر وضوء. تمسكي بها كتمسكي بمكونات وجودي. إنما حين اشارت عقارب الساعة الجدارية امامي الى الثامنة مساءا؛ انتابني القلق عليها كثيرا، فقد قالت لي، في أخر اتصال لها معي، في الساعة الواحدة قبل انتهاء الدوام:- مؤيد، سوف أتأخر، لأني سوف اذهب في نهاية الدوام الرسمي، الى عيادة الطبيبة، فقد حجزت عند سكرتيرتها، عبر هاتفها في مساء امس لمساء هذا اليوم؛ لأكون اول من تدخل للمعاينة. اعذرني فقد نسيت ان اخبرك. سوف اكون في البيت قبل الساعة السابعة او في الساعة الثامنة على ابعد احتمال. اتصلت بها. سمعت الرد البارد من المجيب الألي:- الرقم المطلوب مغلق او خارج التغطية. ظل هذا الرد البارد يتكرر مع كل اتصال لي برقم زوجتي. عندما اقتربت عقارب الساعة، من الساعة التاسعة مساءا؛ قررت ان اغير ملابسي واذهب الى عيادة الطبيبة. كان الطريق الى الساحة؛ حيث توجد هناك؛ عيادة الاخصائية النسائية، زحام السيارات فيه، شديد جدا، الى درجة الاختناق.. حين بلغت التقاطع الذي يسبق الساحة؛ توقفت. الزحام شديد، ارتال السيارات المتوقفة؛ شكلت انساق متوازية على مدى الرؤية، ممتدة بمسافة لا تقل عن كيلومتر عن التقاطع. ثار استغرابي هذا الزحام مع اني في جميع المرات التي امر فيها من هذا التقاطع؛ كان زحام السيارات شديدا، إنما ليس بهذا الاكتظاظ وهذا الامتداد. تأففت. أخرجت سيجارة من العلبة. بدأت ادخن والقلق والخوف يهزان نفسي بألم أوجع قلبي.. أقترب شاب مني، من هؤلاء الشباب الذين يبيعون قناني المياه الى اصحاب السيارات المارة في التقاطع، ضرب بأصابع يده، زجاج نافذة الباب الى الجانب مني. انزلت زجاج النافذة، التي كنت قد اغلقتها؛ حين فتحت التكييف، وأنا ادير محرك السيارة؛ استعدادا للانطلاق. قال:- الانتظار سوف يطول كثيرا جدا، وربما يستمر لساعات، حاول ان تخرج من التقاطع. قلت له مستفهما:- لماذا؟ قال بسرعة وكأنه كان قد اعد الجواب مسبقا:- مسلحون هاجموا رتلا امريكا قبل ساعة، واحرقوا دبابة من دباباتهم. اطفأت المحرك، ووضعت رأسي على الوسادة الكائنة فوق مقعد القيادة.. في احد المساءات، رجعت مهمومة من عيادة الطبيبة، كانت المراجعة الثانية لها، على ما اتذكر. كان وجهها مصفرا وشاحبا. لكنها لم تقل كلمة. أنا ايضا من جانبي تركتها، لم اشأ ان اضغط عليها؛ كي تبوح بأسباب همها، فقد ذهبت الى الطبيبة، وهي مشرقة ومتفائلة تماما. كانت قبل اسبوع من الآن؛ قد فاجئتني، بعد سنتين على زواجنا، قالت لي في الليل، في الصالة حين كنا معا نسهر على فلم كان يجري بثه من احدى القنوات، لم اتذكر اية قناة كانت، فقد عادت في المساء من زيارة، كانت قد قامت بها الى مدينة العمارة، لمدة اسبوع :- مؤيد اريد منك وليدا؛ ان يضفي الحيوية والدفء على هذا البيت، ذكر كان ام انثى لا فرق عندي في الحالتين. افصحت عن رغبتها هذه، من دون اقل او ادنى مقدمات لكن من قوة المفاجأة؛ سكتُ ولم اجبها، ربما لعدة ثواني، او اكثر قليلا. في النهاية وبعد ان امتص عقلي قوة الصدمة، اجبتها:- لكنك يا سمية خلال السنتين، رفضت هذا الامر رفضا تماما، بل انك اصررت على تناول الموانع كي لا يكون هناك حمل وأنا قبلت بهذا الوضع نزولا عند رغبتك تلك. اجابتني:- هذا صحيح يا مؤيد. إنما حدث امرا خلال الاسبوع الفائت؛ غير موقفي هذا، تغيرا كاملا. في سفرتي لوحدي، فقد كنت انت مشغولا بعملك، لذا، لم تصحبني؛ الى مدينتنا العزيزة، العمارة. كانت الزيارة هي لمعاودة خالتي المريضة، التي كما تعرف؛ تعيش وحيدة في بيت واسع وكبير/ مطل على نهر دجلة، في حي عواشه. في الاسبوع الذي امضيته معها، اكتشفت كم كانت خالتي وحيدة ومتألمة، وتشعر بالوحشة في بيت واسع وكبير. حتى انها كما هي قد اباحت لي ما في صدرها من فراغ مخيف وحزين وقاتل. في الليلة الثاني لي معها، في البيت، وهذا هو ما جعلني، امضي بقية ايام الاسبوع معها، على عكس ما خططت واتفقت معك؛ على ان ابقى معها يومان واعود. فقد تدفقت بالحديث عن الليل الذي تعيش هي، فيه وحيدة تماما:- في الليل افز مرعوبة على اصوات غريبة جدا. هذه الاصوات على الرغم من غرابتها فهي معلومة لي، او ان نبرات اصواتها في هذه الليالي الموحشة والمخيفة؛ اعرفها تماما، فهي لزوجي الذي رحل قبل عدة سنوات، لكن الغرابة في هذا كله؛ هو ان صوته كان اشبه ما يكون بالنواح او ندب النادبات في المأتم او في بكاء من رحلوا بغتة من غير سابق معرفة او انذار. اجلس على منامتي، احدق مليا في ظلمة الغرفة. اشرب قدحا من الماء، واستغفر ربي. احاول ان آهدىء نفسي. لكن من الغرف الأخرى اسمع اصوات هي كما هو صوت زوجي؛ اصوات بكاء ونواح يفطر القلب كما هي بذات الدرجة تبث الرهبة في نفسي. أنها يا بنيتي اصوات امي وابي اللذان رحالا عن هذا العالم قبل عقود خلت. ان هذا الوضع يتكرر معي في كل ليلة، من ليالي السنة، قبل اكثر من ثلاث سنوات. :- يا مؤيد هذا هو ما دفعني للاهتمام بموضوع الأنجاب وليس هناك اي امر اخر. في السنتين الماضيتين؛ سمية زوجتي لم تعر، موضوع الحمل اية اهمية، بل رفضته رفضا كليا. من جانبي كنت في ذلك الوقت؛ منشغل بها، في علاقة حميمية فارطة الرقة والنعومة. لذلك ومن دون اقل تفكير موضوعي وعقلاني، وبالذات في السنة الأولى على زواجنا؛ تعطل في داخلي، فعل العقل، توقف عن ان يأخذ مساحة اكبر من مساحة العاطفة، مما قاد الى ان تظل مخرجاته، تعتمد على مدخلات الحب والعاطفة التي ينتجها الحب، ورأي ورغبة وزوجتي في وقتها؛ فقد رفضت الحمل في السنتين المنصرمتين. كي تتحوط ان لا يحصل الحمل؛ اخذت بانتظام تتناول موانع الحمل. طال الصمت اكثر مما يجب. ثم اني شعرت بثقل هذا الصمت على نفسي، كما أني من الجانب الثاني؛ اردت ان اعرف اسباب همومها التي عادت محملة بها، بعد مراجعتها للطبيبة. سألتها:- ما بك؟.. ثم انتبهت الى غرابة سؤالي لها، قلت لها بسرعة مصححا سؤالي:- ماذا قالت الطبيبة؟ اجابتني والحزن يقطر من كل حرف من جميع حروف كلماتها، التي تدفقت من فيها؛ قالت الطبيبة:- السبب الرئيسي؛ ضعف الرحم. لا شىء يفيد، ألا بمتابعة العلاج لتقوية الرحم، حتما، نخرج بنتيجة، أكدت الطبيبة. عليك فقط بالصبر. على الرغم من انها؛ استمرت لعدة سنوات؛ بأخذ العلاج بانتظام؛ لكن الحمل لم يحصل بعد مرور تلك السنوات من المراجعة لذات الاخصائية، مع مواصلة العلاج باستمرار من دون انقطاع، باستثناء سنوات الحصار. حتى في سنوات تلك، لم يحدث ان توقفت عن اخذ العلاج، لعدم توفره؛ لأكثر من اسبوع او اسبوعين على ابعد فترة من الانقطاع. تاليا بعد الاحتلال توفر بكثرة، في الثلاث سنوات الأخيرة حتى الآن. وجدتني في السنة الأخيرة في حيرة وألم وخوف، ليس لأن الحمل لم يحصل مع أنه يشكل وجع دائم في جانب من جوانب روحي، قلقي وخوفي عليها وبالذات في الاشهر الأخيرة من الآن، التي بدأت فيها؛ لا تنام ألا القليل من الليل. في أغلب الليالي، توقظني حركتها في الصالة، عندما تنسل إليها، من غرفة النوم خاصتنا بسكينة وهدوء تام. في أحد الليلي رأيتها أمامي، تبكي وفي حضنها رضيع في الأيام الأولى من ولادته. كانت غرفة النوم مظلمة. انتزعت جسدي من دفء منامتي. في الحقيقة لم تكن تبكي، كانت تنوح، نواحا مرا، يفطر القلب. كان الرضيع ينزف الكثير من الدم من جبهته حتى تحول ثوبها وقماطه الى اللون الأحمر. كان هناك أفعى مرعب ألتف حول رقبتي، كدت أختنق. مسكت الافعى من رأسه، بقوة او بكل ما في ذراعي من قوة، حاول التملص من قبضة يدي، إنما أنا بدافع من خوفي، من ان يفلت مني، فقد كان يحاول ان يغرز اسنانه في رقبتي؛ لذا، بعزم وحسم شديدين؛ ضغطت على عنقه، حتى تمكنت من ان افصل الرأس عن الجسد، رميت جسده ورأسه بعيدا عني. رأيت رأس الافعى يزحف الى الركن المظلم من الغرفة خاصتي. اندفعت بسرعة الى غرفة زوجتي التي لم تزل تنوح. عندما اقتربت منها، تأكدت من أن الرضيع، فراق الحياة. سألتها:- ما الذي جرى؟ . صرخت في وجهي صرخة شقت سكون الليل. فززت مرعوباً، أحدق في ظلام الغرفة، لم تكن هي معي، وجدتني نائما وحدي ولا أدري، كيف ومتى أنسلت وغادرت. بكاء يأتيني من الصالة. أنها هناك؛ تناجي بدمع القلب؛ ظلام الليل. وضعتها في حضني وتجولت شفتاي بالقبل على وجهها ومسحت بلل الدمع من على خديها. في تلك الليلة ظللنا نتحادث بحميمية ما تبقى من الليل الى أن أبلغتنا طلائع الفجر بقرب شروق الشمس لصباح جديد. في تلك الليلة تيقنا؛ لابد من التعايش مع الواقع والذي لا مفر منه. الشيء الأكثر أهمية، متابعة العلاج. ألمتني الذكريات هذه. تخلصت منها. نظرت الى الطريق. رأيته قد ازداد ازدحاما بالسيارات. نظرت الى ساعة يدي؛ كانت عقاربها تشير الى الساعة العاشرة. تمتمت مع نفسي:- لقد امضيت ما يقارب ساعة من الانتظار. قررت ان اعاود الاتصال. أتصلت، تواصل الرنين في الطرف الأخر ولم ترد. مرة، مرتان، ثلاث... ولا تجيب. قلت:- "ربما هي في الطريق الى البيت ولا يسعها الاجابة. أو، لم تزل في غرفة الفحص. لأنتظر. لم تمض سوى دقائق ورن هاتفي. نظرت الى الرقم المتصل، كان رقم زوجتي. وجدتني اشرق بالفرح. دست على زر الاتصال؛ سمعت صوتا لرجل أبح. أرعبني، حطت امامي جميع مخاوفي. سألتني بصمت كلي الاطباق على لساني:- أين هي؟ لم أسأل المتصل. كنت في سحابة الصمت الثقيل المحمل بالخوف والتوجس و رهبة القلق. إنما الرجل صاحب الصوت الابح، ان هذه البحة في الصوت والذي اكتشفتها لاحقا بعد ثواني؛ انها كانت خنة ألم؛ لصوت مختنق بالوجع؛ عندما ابلغني بملخص ما جرى مع محاولته طمأنتي على حالة ووضع زوجتي. وصلت الى المستشفى الكندي، ودخلت الى اروقته، حتى وصلت الى مسافة امتار عن باب صالة الطواريء، لأن المكان كان مزدحما بالناس، والهاتف في يدي. وأنا أقترب أكثر، من زحام الناس أمام صالة الطوارىء. نواح وبكاء ولطم وصراخ، كأني اسمع صراخا في مقبرة. لم أحتاج للسؤال، فقد كان هاتف زوجتي هو الجواب؛ رأيت احد الممرضين؛ يقف وحيداً وعيونه تفتر على الداخلين. في يده هاتف زوجتي، مثل كتاب صغير.. قال الممرض بعد ان عرفني او أنا من عرفته بنفسي، لم اعد اتذكر؛ هل هو من عرفني أم أنا من عرفته بي؛ عندما رأيت هاتف زوجتي بيده :- أنها في العناية المركزة. أما المفاجأة الأخرى، التي تتعلق بالجنين، عندما سمعتها؛ هزت أعماق روحي وضاعفت من ألمى، بت لا أقوى على الوقوف، كدت أسقط على البلاط، لولا ان أمسكني الجراح، أخذ يهدئني ويربت على كتفي وينظر الى الممرض بغضب ومن ثم قال:- لا عليك ماهي ألا أيام وتخرج كما كانت قبل الانفجار. أما الجنين، لم يتجاوزالشهرين؛ وأنتما لم تزلا شابان، أمامكما طريق طويل... ساعتان، جالس على الكرسي؛ أنتظر أن تصحو من الغيبوبة بفعل التخدير والذي يستمر تأثيره لساعات كما أبلغني الجراح قبل أن يغادر. العملية صعبة؛ البعض من الأمعاء ممزقة وكانت خارج الجسم. حط الليل وعم الهدوء والسكون. أتأملها وهي غائبة عني. قلت لها:- متى تخرجين من عالم الغيبوبة...اصحِ.
***
مزهر جبر الساعدي