نصوص أدبية
ناجي ظاهر: مطاردة شيطانية
كنت في طريقي إلى بيتي في حارة سوق البلدة القديمة، عندما شقّ صوت غريب مألوف نوعًا ما ظلام الشارع متوجّهًا نحوي.
- ألست الناجي؟
مَن تُرى يكون صاحب هذا الصوت. إنني أعرفه ولا أعرفه في الآن، ولماذا هو يعترض طريقي في هذا المساء الكوروني الصعب العصيب؟. لم أردّ عليه، وحاولت أن أواصل طريقي فدنا مني:
- لماذا لا تردّ عليّ.. بماذا أنت مشغول عنّي.. أيها القاصّ المُبدع؟ تمهّل قليلًا أريد أن أتحدّث إليك.
شددت على حقيبتي الجلديّة وأدنيتها من صدري. وخطر لي أن أجاري محدّثي بكلمة أو أكثر ليحلّ عن ظهري وليدعني أمضي في طريقي، أنا ومدّخراتي من القصص الجديدة الهاجعة المسترخية داخل حقيبتي.
- أنا مشغول الآن بقصة جديدة. أجبته وأنا أحاول أن أمضي في طريقي. فاستوقفني:
- عمّاذا تتحدّث قصتك؟ .. سألني في محاولة واضحة لإطالة الحديث. أجبته وأنا اجذب كيس ملابسي إلى كتفي:
- سأنشرها قريبًا. بإمكانك أن تقرأها.. مثلما تقرأ أية قصة أخرى.
بدا أن إجابتي هذه فتحت له منفذًا آخرَ لمواصلة حديثه الثقيل معي، فتابع يقول:
- هل ستكون قصتك الجديدة عن الكورونا.. مثل سابقتها؟
هززت رأسي مرسلًا علامة الموافقة. ومحاولًا المضيّ في طريقي. إلا أنه عاد يستوقفني:
- انتظر قليلًا.. أشعر أن هناك مَن نقل إليّ عدوى الكورونا.. استمع إلىّ ما حدث ربّما يساعدك فيما سأقصه عليك في كتابة قصتك الجديدة.
انتابتني حالة من الرعّب. كورونا؟ ويلي إذا ما كان محدّثي قد أصيب بالكورونا ويا مصيبتي إذا ما نقل عدواه تلك إليّ. عندها ستكون النهاية ولن يكون بإمكاني مُعايشة حلم العمر في مواصلة كتابة القصص. ابتعدت عنه وجريت في الشارع الممّتد أمامي. وسط استعطافه إياي بأن أستمع إليه. وكنت أركض في ذلك الشارع أحمل حقيبتي القِصصية وكيس ملابسي، فأبدو مثل شبح يحمل كوخه القِصصي وينطلق في غابة لا نهاية لها. ركضت.. ركضت.. وركض هو ورائي طالبًا منّي الانتظار. إلا أنني أغلقت أذني ومضيت طائرًا في حالة هستيرية. حالة لم تمكّني مِن تبيّن الاتجاه، أهو وسط الشارع أم رصيفه، وبينما أنا أركض وهو يركض ورائي، شعرت بحافلة كبيرة ضخمة تنطلق باتجاهي، وتفصل بيني وبين مُطاردي. تعلّقت بأسفل الحافلة، غير مفكر إلا في أمر واحد ووحيد.. هو التخلّص من ذلك الكوروني المفاجئ. عندما توقّفت الحافلة في مركز البلدة. حرصت على ألا يراني سائقها فأتعرّض إلى سين وجيم. واحتمال عدوى أخرى متوقّعة، تقطع عليّ الطريق إلى بيتي وحلمي في أعماق سوق البلدة القديمة. ابتعدت عن الحافلة، وأنا أغبط نفسي على أنني تخلّصت من حادث كان من المتوقع أن يكون قاتلًا، وقبله عن كوروني موبوء. وجريت متعلّقًا أكثر من أي وقت آخر بحقيبتي القصصية وملابسي في كيسها الكبير. وكنت حريصًا على أن أصل غرفتي الصغيرة لمواصلة العيش على حافة الحلم وكتابة قصتي العتيدة.
انطلقت في شارع الكازنوفا باتجاه السوق. لأقف متأملًا منظرًا طبيعيًا مُبهرًا، هُيء لي أن أصحابه ملّوا مِن قِدَمه فقذفوا به إلى الشارع، لعلّ مفتونًا بالأنتيكات يأخذه ويكتب قصة في أجوائه القديمة. اقتربت من المنظر المجسّم بطريقة قديمة محبّبة. غير عابئ بنظرات فتاة تحاول أن تجمع أغراضها القديمة المعروضة على حاجز حديدي كاد يلتصق بجدار مبنى الكازنوفا. ورحت أتمعّن فيه. وأفكّر بطريقة سهلة تُمكّنني من إضافته إلى حملي الثقيل. بينما أنا أفكر في تلك الطريقة اللعينة، التفتّ إلى ملابسي لأراها مبعثرة هناك دون كيس، ولأرى بالتالي فتاة أخرى ترسل نظرتها باتجاه جدار الكازنوفا موحية إليّ أن تلك البائعة الصغيرة قد أخذت كيس ملابسي بعد أن أفرغته منها. انطلقت باتجاه تلك الفتاة فرأيتها تجمع اغراضها وتضعها واحدًا بعد الآخر في كيس ملابسي، قلت لها إنني بحاجة إلى ذلك الكيس، وإنها أخذته منّي دون أن تسألني كما تقتضي آداب التعامل، فأنكرت أن يكون ذاك كيسي، قائلة الاكياس كلّها تتشابه. وهذا الكيس ليس لك. وأرسلت نظرة حملت معنى غامضًا باتجاه موقع حقيبتي وملابسي ومنظري الانتيكي. لأفجأ باختفاء الملابس والحقيبة العزيزة الغالية. احتبست الكلمات في فمي، تاهت عيناي في عتمة الشارع. ترى مَن أخذ حملي الثمين العزيز؟. وتوجّهت وسط شرودي، رُعبي وذهولي إلى فتاة الكيس قُبالتي:
- مَن أخذ حقيبتي وملابسي؟ سألتها فردّت بنوع من الدلع المقصود:
- لا أعرف. شعرت من إجابتها هذه أنها تعرف، فغرست عينيّ في عينيها:
- قولي لي.. هل أخذت تلك الفتاة أغراضي؟ سألتها وتابعت:
- قولي لي مَن هي تلك الفتاة وأنا سأسامحك بالكيس.
ابتسمت الفتاة قُبالتي، وطلبت منّي ألا أدخلها في مشاكلي. بعد أن أقسمت لها أنني لن أتسبّب لها بأي ازعاج. أخبرتني بأن تلك الفتاة استغلت فرصة توجّهي إليها - حيث وقفنا- ، وحملت ملابسي وحقيبتي وانطلقت بالاتجاه المعاكس. نحو بيتها القائم في آخر الشارع، الدور الثاني. ركضت في الشارع، غير عابئ أنني إنّما أجري في الاتجاه المعاكس ومبتعدًا عن هدفي.. وبيتي، وصلت نهاية الشارع. فتحت بوابة الدور الاول وارتقيت لاهثًا الادراج المُفضية إلى الدور الثاني. فتحت الباب الخارجي للشقة المقصودة. لئلا تغلقه مَن استغلت الموقف وأخذت ملابسي وحقيبتي القصصية، وتحولُ بذلك بيني وبين استعادة ممتلكاتي الدافئة. نظرت في البيت كان يبدو فقيرًا. الخزانة مخلّعة الابواب. بقايا طعام موضوعة على منضدة في وسط المكان. وملابسي المسروقة للتوّ تنتشر على الارض، فاتحة أفواهها كأنما هي تودّ أن تستغيث بي طالبة أن تعود إليّ، غرست عيني في عيني سارقتي ساكنة الشقة:
- أعيدي إلي ملابسي. قلت لها. فردّت ببرود:
- وهل تعتبر هذه الخِرق ملابس؟ لو كنت أعلم أنها قديمة وبالية إلى هذا الحدّ ما كلّفت نفسي أخذها. قالت وتابعت:
- اعتقدت أنك لا تريدها.. لستُ بحاجة إليها.. خذها مباركة عليك.
- والحقيبة؟ أين هي.. سألتها بلهفة طريد مُلاحق. فردّت ببرود:
- يبدو لي أنك رجل مفلس.. لم أجد فيها سوى أوراق.. وتوقّفت ربّما لترى ردّ فعلي.. بعدها تابعت.
- إذا أعدتها إليك.. بماذا ستكافئني؟
- سأترك لك ملابسي كلّها. أجبتها بلهفة وسرعة.
قهقهت:
- ألا تُحلِّ فمي؟
عندها أخرجت كلّ ما في جيبي مِن أوراق نقدية.. وقذفتها تحت قدميها، فانحنت تجمعها، وأشارت نحو زاوية خفيّه هناك. اندفعت باتجاه تلك الزاوية. فأطلّت حقيبتي الغالية نحوي بعينين دامعتين. احتضنت حقيبتي بحنوّ وحنان، وربّتت على كتفها.. عانقتها، ونزلت الدرجات جريًا. ركضت في الشارع مثل حكيم عاقل اكتشف أنه مجنون للتوّ.. وركضت.. لأفاجأ بذلك الكوروني الثقيل يركض ورائي.. ولأزيد بالتالي مِن ركضي.. حاملًا حقيبتي القِصصية.. حلمي وخوفي..
***
قصة: ناجي ظاهر