نصوص أدبية
ذكرى لعيبي: البيت
القسم الثاني، الفصل (3) من رواية:
غابات الإسمنت
***
قضيت أسبوعا في منزل مديحة.. حياة رائعة؛ لكنها كانت تتذمر بعض الأحيان.. غير راضية عن نفسها، تعدّ ما تقوم به من عمل طعنة في ظهر زوجها المغدور.. وليس أمامي من حلّ سوى أن أصبّرها، فلا حلّ آخر ينتظرني أو ينتظرها، على أقلّ تقدير في المرحلة الراهنة، إلى أن تقتنع أن لا حلّ أمامها سوى قبولها بما هي عليه، ولو كان بيد النقيب ابتسام حلّ آخر يخرجها من السجن لما اختارت لها هذا الطريق.
علينا أن نقبل الحياة الجديدة، هذا هو قدرنا المكتوب ولا فرار منه.. إنها تثق بي كما تثق بنفسها، بدوري أروح أصبّرها وأخفّف عنها..
صحبتني ذات يوم إلى أطراف المدينة، بداية الصحراء، لم نتوغل في الرمال كثيرا، خشية أن نتعرض لحادث ما .. أوقفت السيارة وراحت تتأمّل.
تأملتْ طويلًا ولم أقاطعها.
ثم التفتت إلي وراحت تنشج.
سألتها:
ـ هل كان يأتي معك إلى هنا؟
ـ إنّه مكاننا المفضل حيث الفضاء الواسع، كان يريد أن يقول لي إنّه يحبني مثل الفضاء بلا حدود؛ لكنه لا يقولها بل يجلبني إلى هنا ليدعني أكتشف بنفسي.
يا صديقتي عندما تعشق المرأة رجلًا محددًا، رجلا تجعله سندها وحبيبها وخيمتها وبوصلتها، بصوتهِ وحده يهدأ أوار روحها، وفجأة تفقده لتعيش مخذولة خائبة.. فإنها
تشعر بشيء ما يتكسّر داخلها، ثم تتكسر أمامها مرايا الحياة، مرايا الحبّ، مرايا الثقة بالآخر، ومرايا الفرح.
لهذا لا بدّ من اختيار الرجل الصحيح، الرجل الذي يتفرّغ ليسأل، وليس الذي يسأل عندما يتفرّغ.
الرجل الذي يهتمّ قبل أن يحب، وليس الذي يحب ولا يعير أهمية لتفاصيل وجودكِ.
الرجل الذي يشعر بحاجتكِ إليه، حزنكِ وفرحكِ دون أن تُلمّحي بذلك، وليس الرجل الذي تستجدين منه المشاعر.
الرجل الذي يضع وجودكِ في رأس القائمة، وليس في طرفها.
الرجل الذي يجعلكِ تضحكين، وليس الذي يبكيك بقصد أو من دون قصد.
الرجل الذي يفتخر بكِ، وليس الذي يخبئكِ وكأنكِ "عار" أو "نهيبة".
الرجل الذي يشعركِ بقيمتكِ، وأنكِ نعمة في حياته.
الرجل الشجاع، وهذه تحتها ألف خطّ!
الرجل الذي يلجأ إليك ويعدّكِ أمّه وأخته وحبيبته وزوجته وعالمه.
الرجل الذي يطمئنكِ بأنكِ لستِ وحيدة، وأنه معكِ، متمسّك بكِ مهما حصل.
الرجل الذي يعصر روحه، ليغسل تعبكِ عندما تلمّحين له بتعبكِ.
الرجل الذي لن يخونكِ.
اختيار شريككِ بالحياة مهمّة صعبة.
أردتُ أن أطالعها بأفكاري، فخشيت أن أجرح صمتها أو أثير دموعها.
أدركت أنها امرأة تتظاهر بالنسيان، وأن الزمن مهما طال لن ينسيها الجرح الكبير الذي أصابها، مع ذلك حمدت الله على أننا.. أنا وهي أصبحنا تحت رعاية السيدة النقيب التي أصبحت لي كلّ شيء.
نهاية الأسبوع اتصلت بي ابتسام.
قالت لي مديحة: لعلها وجدتْ لكِ عملًا؟
ـ أتوقّع ذلك ياصديقتي.
ـ أرجو لك التوفيق من كل قلبي.
لقد راودتني في الطريق إلى حبيبتي ابتسام هواجس عدّة؛
لكنها احتمالات جميلة.. فها هو أسبوع مرّ ولم تتصل بي.. لعلها اشتاقت إلي، وما دمت ضيفة عند مديحة، فإنها تتحفّظ أن تدعوني لأبيت عندها ليلا، أما خلال النهار فيمكن أن تفكّر مديحة أنها دعتني لأنظّف لها الشِّقّة، أو أنها استدعتني لعمل ..
مهما تكن علاقتي بصديقتي مديحة قويّة، فإن علاقتي العاطفية بحبيبتي ابتسام لا بدّ أن تكون قيد السرّ، علاقة يجب ألا يجرحها سمع الآخرين وهمساتهم، مثل دم الإنسان حالما يخرج إلى النور والهواء يفسد، قوي ورقيق لا يحتمل أي إطلالة، أعرف أن صديقتي رفيقة السجن تعمل مثلي لمصلحة الشرطة؛ لكن أن تعرف عني أبعد من ذلك، فهو شأن آخر يُحسب له ألف حساب.
وصلت إلى بيت ابتسام، وقد وجدتها تنتظرني على أحرّ من الجمر..
لهفة واسعة وتنهيدة طويلة؛ ضمتني إلى صدرها بقوة، وعضّتْ مرات أرنبة أنفي عضّات خفيفة:
ـ أكثر من أسبوع أليس كذلك؟
ـ وهل تعتقدين أنه سهل عليّ؟
فأدّيت التحية:
ـ نعم سيدتي النقيب ابتسام.
فداعبت شفتيّ بإصبعيها:
ـ سُكّر، كلمة ابتسام من فمكِ.. قولي ابتسام فقط!
كنّا في الفراش نغيب عن الوعي، تتعانق روحانا ويرتعش جسدانا، تمسح خدّها بدمعي؛ لكنها لا تستطيع أن تكبح من الفرح والنشوة دموعها.
كلّ مرّة نصبح عالمًا قائمًا بذاته.. كونًا ملتهب المشاعر، أنا بين يديها وهي تركع تحت قدمي تقبّلني وتهمس أحبكِ.
لا أعرف عالما سواها، أشعر أني النور الذي يشّع من مشكاة قلبها، والعطر المترشح من زهرة ليلها، وأني حكاية شهرزاد التي لم تبح بها حتى اللحظة.. ليس لأن الفجر حلّ والديك صاح كما يقال؛ لكن لأن الخوف في عينيها لاح، أشعر أنني الحب بمعناه الذي أريده، حب خارج إطار العتمة والقضبان.
وفي لحظة صفاء ونحن نحدّق بسقف الغرفة قالت:
ـ ليست بشرى واحدة بل هما اثنتان.
ـ خيرا يا وجه السعد؟
ـ اسمعي؛ الشقة التي بجانب شقتي فرغت، وقد أخبرت المالك ألا يؤجرها لأحد لأنني أريدها لقريبتي التي هي أنتِ.
أخذتُ يدها ورحت أمسحها بشفتي وأغيب في شهيق ناعم طويل.
ـ يعني جارتك؟!
ـ يعني أننا لن نفترق أبدًا.
ـ والبشرى الثانية؟
ـ تخص عملك، ما زلت أسعى بها وسوف أحقق الأمر.. والتفتتْ نحو خدي تقبلّه: الحلاّقة بدأت تصفّي عملها في المحل، سأشتريه وتكونين أنت شريكتي ومديرته، هل توافقين؟
ـ هل يعقل أن أقول لا؟ وأردفت: لقد لاحظت بعض التغيير في المحل، هل لاحظتِ التسريحة؟
ـ رائعة وبإمكانك أن تعملي أحسن منها.
ـ آمل ذلك.
ـ سنضيف إليه، ونرّتبه.. وربما اشتري البناية بأكملها.
رجعت ذلك المساء إلى بيت مديحة، فلم أرد أن أثير شبهاتها بمبيتي في بيت السيدة النقيب.. الوضع الآن مختلف، وعلاقة الحب بيننا يجب أن تظلّ سرّية، حيث رحت أنتظر الانتقال إلى الشقة الجديدة والعمل الجديد بفارغ الصبر.
جلستُ على حافّة السرير في غرفتي المؤقتة عند صديقتي مديحة، وبين الرغبة في استقبال الغد بكل ما فيه، والرهبة من أناي التي تركتها تتلاشى مع بضع رصاصات، وعينين جاحظتين، وبركة دم، انتابتني صحوة متأخرة جدًا؛
ثمة من يبني وسط أكوام الحزن، ويطلق من الرماد عنقاء أيامه.. وثمة من يرمي نفسه وسط كومة جمر ليصير رمادًا.. أيهما أنا؟
هل بنيتُ ذاتي بتقويم صحيح من جديد؟
أشكُّ في ذلك..
لكن في ذات الوقت، أشعرُ أني سموتُ بنفسي نحو الصفاء التام، الصفاء من شوائب ورواسب ثقيلة، وزائدة لا نفع فيها سوى التأخر عن مواكبة الحياة وعيشها.
***
ذكرى لعيبي - ألمانيا