نصوص أدبية
أمين صباح كُبّة: المقامة الإدارية
حدّثنا ماجد بن وسام قال: نزلت في دائرة السور، في أرض قاع الهامور. لاستكمال المراجعات ولإتمام الجلسات، فقد غيّبني صاحب هذا الكلام، وانشغل عن قصتي بسرد الأوهام، وقد ضاع عافاه الله بالهيام، عندما صار قصخونًا للغرام. وإنّني لست بصدد ذكره وذكر مقاماته، ولست هنا لأذكّره بخيباته. فما فيه يكفيه، والله وحده القادر على أن يشفيه. وما هذا بحديث عن الأصلع التائه ولا عن همومه، وإنّما هو حديثي خططته بدمي، ورويته بفمي. ولم تكن كتابته في الحسبان، لأن صاحبنا اهتدى بأن لا يكتب في حزيران، ولكن ما جرى جرى وما صار صار، وها نحن نرويه في أواخر آيار. وقد دخلت مفتول العضلات واضح السمات، ناسيًا هموم ما فات، وما كانت لحظة إلا فات. غولٌ مفتول، ليس به طول، جسده مقوّسٌ كالهلال، ووجهه مدوّرٌ كالبرتقال، يمشي على عرج، ويخوض بانحنائته في اللجج، لا يفقه بالأمور، ولا يبالي بما يجري في دائرته ويدور، بجيبه ختم، وفي يده قلم، يوقّع به مستعجًلا بلا هدى، كالعاصي عندما يلاحقه الردى. وحوله تدور أشباه الجميلات وأبناء الأمهات. يطوفون في غرفته كالرقيق، حتّى توهّم أنّ مكتبه البيت العتيق. وقد كانت لي معه صولات وجولات، واتفاقات وخلافات، ولكنّ حقارته محت ما له من حسنات، فلمّا اهتديت إلى إدارته للإجارة، قابلت صنفًا من مطبّليه، وقد كانت خولة بنت وشاح الشهيرة بالبطّة منهم، قالت: يا ماجد العجل العجل، فلمديرنا أمراضٌ وعلل، قلت: عافاه الله من السقم، وأبعد عنه الوجع والألم، قالت: ألمه ألمي وسقمه سقمي فهلّا أثلجتنا بحلو كلامك، وألقيت علينا بعضًا من خواطرك وأوهامك، فهذا الوجه الحسن أولى بالغزل من غيره. قلت: عافانا الله من الغزل وشرّه، وأجارنا من وجهك وشرره. ومن تقلّبات ألوانه، ومن غموضه وبيانه، وأعاذنا من أنفكِ، من تعرجاته وتقوسّاته، ومن انحشاره في ما لا دخل له به، اعلمي يا خولة إنّ الغزل لغير شريكة الحياة رخص فلا يعوّل عليه. ولمّا استدارت خولة وذهبت مذعورة لمحني حكيم بن عاصم وقال حيّاك الله يا ماجد وأثلج قلبك المذعور الفاقد، هلّا رأفت بهذا المدير، فإنّه لرغباته أسير، وقد غلب على عقله سوء التقدير، وإنّه وإن كان بمقام أبيك، فتوسّل به لعلّه يستخطيك. فقلت: الشكوى لغير الله مذلّة، ومصيبتي معه لا تحتاج إلى أدلّة، فمزاجه متقلّب كالفصول، وطبعه على الدنائة مجبول. وأنت يا ابن عاصم ألم نربّك فينا وليدًا ولبثت في حمايتنا بضع سنين؟ فلمّا اشتد عودك وطال، وجرى في يديك مال، خفّ عقلك ومال، وذهب خيط الرجولة فيك وزال، وصرت منشغلًا بالقيل والقال. ولما اشتد بي الغضب جمعت الغول مع أتباعه المطبّلين، وانتقمت لما كان في يوم ثمانية وعشرين، وخطبت بالقوم بلسان عربي فصيح وقلت: لا تهرول لمن يشتري فيك ويبيع، ولا تكن للباطل عبده المطيع،
الطيبون باقون كملح الأرض، والأشواك زائلة، وحتّى حين جفافها لا ترتقي أن تكون حطبًا (لا تسمح لأودية الهموم والمطامع بأن تشتّت عليك قلبك، فليكن همّك واحدًا هذه قيمتك، والأرزاق على الله) ولا تسكت عن الحق وإن انغلب، ولا تصفّق للباطل وإن غلب، وكن خجولًا سوى في اثنتين الهوى والغضب.
فلما أتممت ما قلت جرّني المدير وقال: إخرس لعنك الله لقد فضحتنا. أنا صاحبك الذي فرقّتك عنه الأيام، أنا صاحب الطالع والأعجام، وأنا بائع الأكاذيب والأوهام، أنا شيخك المقدام علي بن أبي ناصر الرسّام.
قلت: ويحك هذا أنت يا خسيس، حسبتك قتلت شهيدًا في الأحداث، فأنت أحدوثة في كتب التاريخ والتراث. فقهقه واللعاب من فمه يسيل، وقال أجّل حديثنا في سيرتي فهو طويل، ولنا حديث في الليل. فتركته وأخذت إجازتي وخرجت.
***
أمين صباح كُبّة