نصوص أدبية
لمى ابوالنجا: الكبت (1)
قالت لي أمي أنني ولدت يوم الثلاثاء الساعة الثالثة فجراً وأن ولادتها بي كانت يسيره ولكن كل شيئاً بدا عسيراً بعد ذلك.. الطقس كان شديد التقلب والسماء لم تتوقف عن المطر لثلاثة أيام متتالية لحفتني بالبطانية وغطت وجهي بطرف خمارها الأسود وركضت إلى البيت مسرعة خوفاً من أن تصيبني حمى.
منذ ذلك الحين وأنا أطيل النظر في الأفق سائلة السماء لماذا فتحت لي أبوابها لثلاثة أيام؟ ما الذي أقدمته كي تستقبلني إلى العالم بكل ذلك الأنين..
تنفست سواد خمار أمي في تلك اللحظات السريعة إلا أنه تغلغل لقلبي طويلاً ذلك اليوم حيث خلقت بتفاصيله الغير إعتيادية أكسبتني شاعرية..
لم أتم الثامنة من عمري حينما شعرت بعبء الوجود والسؤال حول من أين أتيت ولماذا!؟ لم أقتنع بأي إجابة مما سمعت ولعل أقسى الإجابات كانت لأخي الأكبر الذي أخبرني أنني قدمت للحياة في سوبر ماركت كهدية مجانية مع علبة حليب مجفف "
بالطبع لم تكن إجابته منطقية لي ولكني شككت بها..
ولدت بتلك المدينة الباردة كنا نقطع طريق الهدا الجبلي كل اسبوع "طريق وعر جدا ورحلة ساعتين نزولا من أعلى الجبل إلى أسفله بلا توقف للوصول إلى مدينة جدة
كان يلزمني أخذ منوم " قبل دخولنا الطريق أو أبقى بلا نوم قبل يوم من موعد عودتنا أو رحيلنا لأني لا أحتمل دوار الحركة، كنت أعيش مشاعر متناقضة.
أصاب بالآكتئاب قبل رحلة نزولنا الى جدة لأنني أحمل هم الطريق ولا أريد مغادرة البلد، كان قضاء ٣ أيام بمنزل جدتي الصغير وحكاياتها وتدليلها لي وهي تعتني بشعري بالزيوت والمساج والحناء ومتابعة برنامج "حروف وألوف" برنامج المسابقات الذي لم يربح به أية متسابق أو مشاهدة مسلسل "دنيا القوي" والرقص على أغاني محمد عبده أكثر سعادة لي من لقاء قريباتي حيث اضطر الى احضارملابس سهرة أنيقة معي لعزائمهم المفاجئة وضيوفهم البرجوازيين ومجاملة مجتمع لا أنتمي إليه..
و أصاب بالإكتئاب في طريق عودتنا من جدة، لأن تلك المفارقات الإجتماعية تشعرني بأنني أعيش في عالم ثالث أكثر بدائية..
ومع ذلك بقيت بقلبي أمنية وحيدة هي أنني أنتقل للعيش يوماً ما إلى جدة والإعتراف بي رسمياً ضمن أحد رموز الطبقة المخملية غير مدركة ذلك الوقت انني فتاة جبلية وان تلك البساطة قد إلتصقت بوجداني، بذاكرتي للأبد..
في رحلة عودتنا للطائف
بعد لهيب شمس مكة وحرارة أرضها ورطوبة أجواء جدة، أستيقظ وأتحسس زجاج السيارة البارد مجرد دخولنا لمنطقة الهدا، وعلى يسارنا سوق الفواكه الطائفي. افتح شبابيك السياره وأفرد شعري وأطلب من والدي يزيد السرعة. كنت أشعر بنشوة فظيعة والهوا البارد يضرب براسي. مرضت كثيرا في موسم الشتاء بسبب هذه الشقاوة"
كان بيت جدتي يقع في منتصف سوق البلد الشعبي. كنت انزل السوق اكثر من ٣ مرات باليوم بسبب أو بدون سبب حتى تفقد جدتي الهادئة الحنونة أعصابها وتوبخني ثم سرعان ما تندم وتراضيني بعشرين ريال اضافية بنزلة رابعة لمحلات أبو ريالين لشراء "الروج السحري" او "طقم الأظافر"
أو الذهاب للبقالة وطلب ماشئت منها والمبلغ "على الحساب"
والعشاء من مطعم الفلافل الشهير "ابوعنتر" وأنا أصارع النعاس بعد الإستحمام وانتظار جدتي تسمح لي أخيراً بالنوم
لأن النوم بعد الأكل يسبب تلبك معوي.
بسبب دلال جدتي لا اذكر أنها تفقدت ملابسي قبل الخروج من البيت على عكس والدتي طبعاً
أخرج مرتدية ثوبي الشعبي الأخضر المزين بالزهور الوردية و"شبشب أسود" حاولت أمي التخلص منه عدة مرات بلا فائدة، أنزع الربطة من شعري الطويل واتركه ينطلق معي كانت لدي قناعة أن تسريح شعري وربطه يفقدني هويتي..
كلما شعرت بالإكتئاب والوحدة.. انزل للسوق. تلك البقعة من العالم التي لاتتوقف عن الحياة..
كانت الضوضاء وأصوات الباعة ينادون على بعضهم وصراخ الأطفال تملأ قلبي..
أركض من السلالم القديمة وجدتي تصرخ لتحذرني كل مره من الدرج المتصدع الذي لم يصلحه أحد حتى موتها
أمر على بائعي الأقمشة أفتح لفة من القماش وأدور داخلها لألفها حول خصري حتى يصرخ بي العم عبد الوارث وأهرب للباب، وأنا أرى نفس الإبتسامة على وجهه، أخرج من عنده، أجلس أرضاً في البسطات أساعد العجائز في بيع العسل وال "المضير" عبارة عن أكلة شعبية مصنوعة من حليب الماعز المجفف، لم أكن أطيقه لكني أسوق له جيدا وحلاة السكر والليمون " وأسأل العجوز بخبث "ماهذه؟" لترد علي بلهجة لا افهمها، كثيراً مانجحت في تحقيق المزيد من أرباحهن لأنني بالطبع كنت أكثر صخباً وجرأة من بناتهن..
أو أقايض العجوز الأخرى على البيع مقابل "ألعاب نارية" تسمى "طراطيع الثوم" لإلقاءها بالصف ثاني يوم وإرهاب المعلمات..
أو ربما كيس كامل من ال "فش فاش" أو مقرمشات "أنا خليجي" وبعض التسالي الأفريقية "حمر، حلاوة حمر،حبحبوه، وبودرة غريبة لا اعلم مكوناتها للان لكني أبتلعت الكثير منها
بعد الإنتهاء من إزعاج البائعات أركض داخل السوق. يسرق قلبي منظر محلات الذهب على مد البصر. أتوقف عندها ألصق وجهي بالزجاج حتى يتسخ ثم أدخل أقيس الأساور والخواتم وأسرح بخيالي أنني أملك كل هذا الذهب، ثم أنزع تلك المجوهرات وأخرج
كنت أفعل هذا بشكل متكرر حتى انزعج بعض الباعة في معظم المحلات وشكوني لجدتي ومنعوني من الدخول والعبث بالذهب". ماعدا بائع في أحد المحلات البعيدة لم ينزعج مطلقاً من ترددي عليه واللعب بسلسلة على شكل "رجل الثلج" يتراقص عنقه وأقدامه مع الحركة مصنوع من الذهب ومزين بالياقوت والفيروز
لأتفاجأ في يوم بعدم وجود السلسلة بكيت كثيراً وقبل خروجي نادى علي وناولني علبة وطلب مني فتحها..وقال لي "سألت جدتك وقالت لي انك شاطرة بالمدرسة واخذتي ترتيب الأولى، هذه التعليقة اللي تحبينها وهي هدية مني لك"
ركضت نحوه واحتضنته واحتفظت بتلك الهدية سنوات طويلة وفقدتها في البحر لاحقاً
عند تخرجي من الثانوية وقبل أن تصاب جدتي بجلطة في الدماغ تفقدها القدرة على الكلام والحركة أهدتني خاتم زفافها"مرصع ب ٦ صفوف من الألماس". احتفظت به لغدر الأيام لكنها وضعت الأمان بين يدي ومازلت حتى هذه اللحظة احتفظ به وبها.
كبرت وتحققت أمنيتي وانتقلت للعيش بجدة لكني أدركت أن بساطة وجمال تلك المدينة هي ما تنتمي إليه روحي.
يتبع..
***
لمى ابوالنجا – كاتبة سعودية