نصوص أدبية
ناجي ظاهر: مؤسسة كورونا ومناقيش
فجأة.. وبسرعة غير محسوبة جيدًا، انقلبت الاشياء في المؤسسة شارعةً بالتغيّر والتبدّل، نام الجميع في الليل ليفيقوا في الصباح وقد تغيّر كل شيء. وبدلًا من رائحة القهوة العربية الاصيلة ابتدأنا نشم في الأصباح التائهة رائحة "النس كافيه". أكثر من هذا توصّل أفراد الادارة السابقة، ذكاءً أو تذاكيًا الى أنهم يفترض أن ينسحبوا تقليصًا لخسائر كورونية قادمة توقعوها شامّين رائحتها البائخة عن بُعد. نتيجة لهذا كله بات الوضع في المؤسسة أشبه ما يكون بِفَلّة حكم أو بسفينة غارقة، وبعد أن حمل رجالات الادارة السابقة ما خفّ وغلا ثمنه هاربين به ومولّين الادبار حالمين بليالٍ دافئة في أحضان زوجاتهم، برز نوع آخر من رجال الادارة غير المؤهلين ومن غير رجال المعرفة والخبرة، وراحوا بخبراتهم المحدودة يحاولون إعادة ترميم ما أفسدته مياه الكورونا في سفينة المؤسسة العظيمة، وكنت أنا الكاتب المتطوّع في المؤسسة أتابع الامر من بعيد وأفكر في كيفية الاستمرار رابطًا بين فترة ما قبل الكورونا وما بعدها.. وعلى لساني ألف سؤال وعلامة تعجّب، لهذا كان لا بد لي من أمرين أحدهما المكوث في المؤسسة أكثر ما يمكن من وقت والتفكير في تقييم أودي. وبما أن العين بصيرة واليد قصيرة فقد توصّلت إلى أنني ينبغي أن أخصّص ميزانية محدودة لشراء المناقيش من المخبز الواقع في الطريق إلى المؤسسة ووضعه في ثلاجتها الكبيرة.
بعد أن هدأت العاصفة وابتدأتُ بالتفّرس في الوجوه الجديدة، اكتشفت أنني أعرف معظم هؤلاء فبعضهم نبق كما ينبق الفطر بعد شتاء شديد والبعض الآخر كنت أعرفه وابتدأت بالتعرّف عليه كل يوم مجددًا كما فعلت هيلاري كلنتون مع زوجها في فضيحة مونيكا داخل البيت الابيض، المهم أنني بينما كنت أضع المناقيش في ثلّاجة المؤسسة.. شعرت بأقدام تقترب مني. والتفت إلى مصدر الأقدام لأراها تتخطاني وتعبر إلى الداخل. تركت مدخراتي من المناقيش وتبعت الاقدام، لاقف قُبالة صاحبها سعد. كان هذا واحدًا من الاصدقاء القُدم، الذين عرفتهم عن بُعد وربطتني بهم علاقات صداقة متقطّعة.. تحكمها المودة حينًا والمصادفة أحيانًا. وضع سعد يده على كتفي وهو يقول:
-ها نحن نجتمع مجدّدًا.. سنكون معًا.
هززت راسي علامة الموافقة، فتابع يقول:
-مؤكد أن أحدنا سيكون سندًا للآخر.. الوضع ليس سهلًا ويحتاج إلى هِمّةٍ ونشاط..
وافقته مرة أخرى بهزةِ راسٍ أقوى من سابقتها، فدبّ فيه حماس متجدّد، قال:
-هناك الكثير من الامور تحتاج إلى نفض.. وقلب سافلها عاليها.
بينما نحن نواصل الحديث بكلمة منه وهزّة راسٍ منّي، شعرت بأقدام تقترب من حيث توقّفنا، ولم تمرّ سوى هُنيهة سريعة حتى تبيّن لنا أن القادم هو الزميل سعدون. تركني سعد وتوجّه إليه كأنما هو عثر على مَن يَستمع إليه بعيدًا عن هزّات الراس المتواصلة، وفوجئت بالاثنين ينفجران بالضحك.. سألت نفسي عن سبب الضحك.. ضحكهما.. فلم أعثر على جواب.. ابتسمت مجاملة لهما، فما كان منهما ألا أن توجّها إلىّ قائلين بصوت كاد يكون واحدًا:
-مؤكد أنك ستكون عونًا لنا في تنظيم الامور وإعادتها إلى مسارها الصحيح.. المؤسسة تحتاج إلى دماء جديدة تضاف إلى القديمة.
وغمز الاثنان نحوي طالبيَن منّي الموافقة على اعتبار أنني واحد من بقايا الادارة السابقة وفلولها الحائرة، أرسلت هزّة أخرى إضافية من راسي، اعتبراها موافقة مني على الانخراط في إعادة البناء والتّرميم. وغمز كلٌ منهما للآخر ضمن إشارة أننا يجب أن نبدأ.
في الايام التالية فوجئت بالاثنين، سعد وسعدون، يدخلان المؤسسة مرتديين ملابس عمل خاصة ويدفعان بوابتها الحديدية الخارجية بأقدام مَن ينوى أن يقوم بثورة تغيّر وجه الكرة الارضية وليس وجه مؤسسة بسيطة في بلدة صغيرة يطلق على أمثالهما صفة مدينة تزلفًا ومجازًا. فتح الاثنان حقيبة كبيرة أحضراها خصيصًا لتنفيذ أعمال وترميمات في المؤسسة، وسحب كل منهما فرشاة طلاء وباليد الاخرى مجحاف دهان محترف. هجما على جدران مدخل المؤسسة وراح كل منهما يحف بمجحافه ويطلي بفرشاته ضاربًا فرشاة في الشرق وأخرى في الغرب. بعد أن لوّن الاثنان جدران المدخل بألوان مختلفة.. فبدت مثل جوكر يريد أن يحقّق النصر الحاسم النهائي في لعبته، جلسا يتحدّثان مبتسمين، وبإمكاني أن ألخّص حديثهما بكلمات قلائل: هذه المؤسسة تحتاج إلى نفض تاريخي.. بعد الكورونا سنجعلها توجّ وجًّا.. وسوف نُمكّنها مِن أن تتخذ مكانتها اللائقة بها في المدينة.. بعدها انهال الاثنان باللوم على الادارة القديمة، واتفقا على أن نجاح عملهما مرهون بالإجهاز على كل أثر لرجالات الادارة السابقة. ودفنه في حفرة عميقة بحيث لا يظهر لهم أثر" . على مَن يريد أن يقوم بثورة حقيقية في هذا الجوّ العربي الموبوء.. أن يهدم القديم وأن يبني الجديد الحقيقي مكانه"، قال الإثنان وصهلا مثل حصانين جامحين. في إحدى اللحظات الحاسمة رأيتهما هما الاثنين، وقد وقفا وراحا يهزّان ارض المؤسسة بدبكة فلسطينية ويُطلقان الاغاني والزغاريد الشعبية الرافعة من شأن العمل باليد.. تمهيدًا للعمل بالعقل.
للحقيقة أقول إنني لم أشاركهما عملهما هذا ولا صهيلهما ذاك، وحتى حينما توجّهت إليهما عارضًا عليهما المساعدة تقية.. تحسبًا وخجلًا، انبريا يقولان لي: نحن ما زلنا شبابًا بإمكاننا أن نقوم بالعمل على أفضل وجه.. أما أنت يا ختيار بإمكانك أن تواصل جلوسك في مكتبك.. لا أنكر أن شهامتهما المفاجئة هذه راقت لي قليلًا وشجّعتني على سؤالهما ما إذا كانت أعمال الترميم ستطول، فردّا عليّ قائليَن.. سنعمل على مهلنا.. في كل الاحوال لن نفتح أبواب المؤسسة في القريب.. يبدو أن حِبال الكورونا ستطول.
بعد أيام فوجئت بالاثنين يدفعان بوابة المؤسسة الحديدية بأقدامهما ويدخلانها متضاحكيَن.. وراحا يتجوّلان في غرفها وردهتها ناظريَن إلى الجدران الملوّنة بألوان الجوكر الشرس.. ما حدث بعدها أنني رأيتهما من زجاج غرفتي يهجمان على ثلّاجة المؤسسة.. يفتحان بابها الكبير ويأخذان بقذف مناقيشي مُتناوليَن إياها وقاذفين إياها عبر النافذة القريبة." الآن اكتمل عملُنا.. المؤسسة جاهزة لاستقبال روادها"، صفق الاثنان وراحا يرقصان.. عندها نظرت إليهما.. وراح فمي بالانفتاح حتى صار بوسع باب المؤسسة.
***
قصة: ناجي ظاهر