نصوص أدبية
علي فضيل العربي: السيّـد
- انتبه أيّها السيّد. سحق حذاؤك قدمي.
التفت السيّد إلى مصدر الصوت المشبع بالألم والأنين وصرخ:
- ليتني سحقت جسدك يا نذل، كدت تسقطني لولا عصاي وكلبي، يا لك من عبد حقود.
- أقسم لك يا سيّدي، أن حذاءك الجلدي الصلد، المستورد، قد رفس قدمي الحافية.
- لا تقسم أيها الجرذ النتن. أردت عرقلتي بغرض إيذائي وإسقاطي أرضا لأمسي محل سخريّة أمام المارة من أمثالك.
- لا، أيها السيد، أنت الذي أردت إيلامي دون سبب. وكأنّ الواجهة ملكك، والطريق طريقك.
- وتطيل لسانك أيضا. ومهما يكن فأنت لست أهلا للحديث مع أسيادك. هذه عاقبة تقصير المسؤولين عن هذه الواجهة البحريّة الجميلة. كان عليهم أن يخصصوها لنا فقط. أما أنت فإنك تفسد علينا متعة التنزّه. تلوّث نسائم البحر، وتستهلك الأوكسجين دون فائدة.
- أيّها السيّد. بدأت قدمي تؤلمني. انظر إلى كدمات حذاءك الخشن.
و رفع مولود قدمه كي يراها السيّد، لكنه تجاهل الأمر ونهره قائلا:
- الكلاب هي التي ترفع رجلها عند التبوّل.
- أنا وأنت من تراب، ووطننا واحد، ومصيرنا واحد.
- صه، ماذا تهذي يا مغفّل؟ ألا تعلم من أنا؟
انتابت السيّد نوبة قهقهة. بينا طوقت الدهشة ميلود وسمّرته الحيرة.
ـ2ـ
كان السيّد بدينا، ذا وجنتين متوقدتين كأرجوان الأصيل.على جسده بدلة سوداء براقة كبدلات السحرة، وربطة عنق متدلية على بطنه المنتفخة كبطن حامل في شهرها التاسع. بطيء الخطو كمن يتمشى على كثيف رمل. يتوكأ على عصا بديعة الشكل واللون، وكلبه أمامه.
قبل أيام زاره طبيبه في قصره. وبعد فحصه بدقة وعناية أخبره:
- نسبة الكولسترول عالية، والسكر فوق المعدل.وهذا خطر على حياتك.
- لكنني لم أوقف الدواء يوما.
- لا مفرّ لك من الحمية. الدواء وحده لا ينفعك. الوقاية خير من العلاج يا سيّدي.
واستفاض الحكيم في الشرح. وكتب له وصفة من الممنوعات، كاللحم والدجاج وطائفة من السكريات، والأطعمة الفاخرة.
- سوء التغدية لا تعني الندرة فقط يا سيّدي، بل الأكل بشراهة، ودون ضوابط. كل ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه، يا سيّدي.
تفحّص السيّد الوصفة. امتقعت سحنته. رمق الحكيم من خلف نظارته، ثم ردّد:
- وماذا آكل إذن؟ لم تدع لي شيئا ممّا أشتهي.
- عليك بأكل النخالة، والإكثار من شرب الماء، والمشي كل يوم، والأفضل أن تتمشى على واجهة البحرلاستنشاق نسائمه.
- ولكنّني أحب الأكل. بماذا سأملأ هذه البطن؟ أأعذبها؟
وقبل المغادرة، أوصاه بوجوب الالتزام بالحمية، والسير بكرة وأصيلا، وإلا فاض شحمه، وتوقف قلبه واختنقت رئتاه، وكان مآله الموت.
لما تناهت إلى سمعه كلمة (موت) ارتعدت فرائصه، واقشعر بدنه حتى نضح جبينه عرقا باردا. ثم قال:
- حاضر يا حكيم. سأفعل.
ـ3ـ
لم يتعود المشي أو التنزّه على واجهات بحر بلاده. ربّما هي المرة الأولى أو الثانية. لولا إلحاح الحكيم. كأنّ نسائم بلاده لا تروق مقامه. كم من واجهة بحريّة إفرنجية عرفها، منذ علت به الدنيا، وأصبح من رجالات الأعمال في بلده. وينعتونه بالمليونير ؛ صاحب (الشكارة) فنسائم بلاده في نظره لا تصلح إلا للفقراء والمعدومين.
لم يولد غنيّا. ولم يرث مالا وفيرا عن أبيه، ولم يتملّك معملا، أو مزرعة، أو قصرا، أو مجرد دكان، ممّا خلّفه المحتلون الأوربيّون وراء ظهورهم، عندما رنّ جرس الاستقلال والحرية. لكن الفتى صفوان - الذي أصبح سيّدا – والذي ارتمى ذات ليلة في أحضان العاصمة، حافيّ القدمين، أشعث الشعر، طاويّ البطن، ناسيّا خبز الشعير، وكسكس البلوط، وحبيبات الزيتون المنقعة في الماء والملح والبسباس البريّ، وكوخ أبيه الذي لطالما حاصرته الخنازير. ناسيا أيضا قرّ الشتاء، وعواء الذئاب، وصفير الريح الشرقية المشبعة بالرطوبة، وروائح العرعار والصنوبر الحلبي.
دخل ماخور السياسة. وقد لا تأتي الفرص إلا مرة واحدة، كما يقال، وباسم النضال، أصبح مجاهدا وهوالذي لم يطلق رصاصة واحدة على المحتل. كانت رصاصته الوحيدة تلك التي أطلقها ذات مساء على كلب الجيران. أتقن فنون الكذب والمجاملة والتملق والتسلق والتملص والنميمة والخداع والديوثة. وألفى نفسه مديرا عاما برتبة وزير. امتلأت جيوبه، وطالت مخالبه، واشتدّ عوده، ونبتت له شركات أمام البحر ووراءه. من يحاسبه؟ فالسيّد صفوان لم يأخذ إلا حقّه. لم يضع يده في جيب أحد. بل هو ريع البايلك اقتسمته النفوس الجشعة، الطمّاعة. أما مولود فلا يعدو كونه خرقة بالية موضعها القمامة. مواطن بلا مواطنة. واجبه السمع والطاعة والقناعة والصمت. وإن تكلّم فلا يتعدى حدود الهمس. وإلا هوت على دماغه العصا الغليظة. ليته ولد أخرس حتى لا يزعج السيد صفوان بصوته الخشن.
وللتذكير فقد سقط مولود منذ أسبوع فقط مغشيا عليه أمام مدخل البلدية. حملوه إلى عيادة كل الناس، والتي يأتيها الطبيب متأخرا، متثاقلا مرتين خلال الأسبوع. فحصه على عجل، وأمطره قائلا:
- أنت تعاني من سوء التغذية.
- عليك بالأكل.
وذكر له قائمة من المأكولات كاللحم والأسماك والفواكه المحلية والمستوردة وووووو
فتّش عن مهرب أملا في الإفلات من شباك الحقيقة المرّة، الدامية.
- ليست لي شهية يا حكيم.
- صحتك في الأكل ياهذا. سأسجّل لك أدوية تفتح شهيتك.
وكادت القطرة أن تُفيض كأس أحزانه، وتدغدغ رواكد همومه. أيبوح له بمكنونات يومياته؟ أيفتح له كراسته السوداء سواد حبات التوت البرّي؟ أيعترف له، أنّه لم يذق طعم اللحم والدجاج والسمك منذ مدة؟ أيقول له، أنّه نسيّ مذاق الموز والتفاح والجبن؟ ولولا أكياس الحليب التي يقف من أجلها في الطابور ساعات، لكان الدود قد نسيّ طعم جسده النحيل. قد لا يصدقه، ويتهمه بالافتراء وكفر النعمة. ويقول له: أنت إنسان طمّاع وحقود وكذّاب. لقد منحتك الحكومة عملا وبيتا وبطاقة شفاء وأبناؤك يتمدرسون ويأكلون مجانا ويذهبون في حافلة النقل المدرسي يوميا ويعودون. ماذا تريد أن تفعل لك الحكومة؟ تزوّجك بامرأة ثانية؟ تعطيك مالا وأنت نائم في حضن زوجتك؟
ونبح كلب السيّد صفوان. يبدو أنّه لم يستظرف المكان. قال السيّد:
- أيّها الشرطي دوّن:
ـ قبيل غروب شمس هذا اليوم، تعرّض السيّد صفوان - والذي كان يتنزّه رفقة كلبه – إلى اعتداء سافر. حيث وضع أحد الجرذان قدمه تحت حذائه الفاخر بغرض إسقاطه. ولولا لطف الله ورحمته، لوقعت المصيبة. وقد كانت نية هذا المخلوق كسر ظهري وفقر بطني وقتلي. وذلك بسبب دوافع الحقد الطبقي. اكتب كل شيء. لا تغفل حرفا واحدا. أفهمت؟
و نبح الكلب ثانية: (هوهوهو)، وكأنه يخاطب صاحبه:
(أحسنت يا سيدي. أدّبه حتى لا يتجرأ مرة اخرى. نحن أيضا في مملكتنا عندنا أمثاله. لو أنّ كلبا من فصيلة هذا المخلوق رفس قدمي، أو عض ذنبي، فمصيره الإعدام).
ثم ربت السيد صفوان على كلبه وقال:
- لا تقلق يا عزيزي. لو كنا نتنزّه على واجهاتنا البحرية هناك، ما أصابنا مكروه. لكن هذا مصير من يتنزّه في واجهة بحرية يقصدها كل من هبّ ودبّ، ولا تقدّر أمثالنا.عفوا إن كنت أرهقتك معي.
و تشمم الكلب ساقيّ مولود، فـأوجس مولود خيفة، وقلبه يعصف غيظا، وتمنى لو خنقه،
ثم ردد:
- حتى أنت أيّها الكلب النتن. ألم يكفيك ما نالني من صاحبك؟
قال الشرطي بفظاظة:
- لا تتزحزح حتى لا يعوجّ الخط.اثبت جيّدا. دعني أكتب تقريري بهدوء حتى لا أعيده من أوله. لا تتعبني.
وكان الشرطي قد اتّخذ ظهر مولود طاولة لكتابة تقريره.
- عفوا، استمر، ولينكسر ظهري، وتتناثر فقرات عموده الفقري، ويبتلعها البحر.
و أحيا دونه. ماذا أفعل به؟ وإن تعبت من الوقوف، فاركب فوق رقبتي، واكتب ما شئت حتى تشرق شمس الغد. من أنا كي أعترض؟
ثم استدار نحو السيّد صفوان وقال:
- هل تريد إضافة شيء آخر يا سيّدي؟
- لا بد من جعله عبرة لمن تسوّل له نفسه إيذاء أسياده.
- ارحمني يا سيدي، تعبت من الانحناء. ظهري انكسر.
نهره الشرطي قائلا:
- صه يا وقح. أترفع صوتك في حضرة السيّد؟
- ظهري ليس طاولة.
- وهل أكتب على مؤخرتك يا طويل اللسان؟
- أرأيت، أيها الشرطي، كم هو حقود، لا يحترم أسياده ولا الحكومة.
- كان جدّ أبي مجاهدا في جيش الأمير عبد القادر، وأبي استشهد في جبال الظهرة، وأمي طحنت وخبزت وخاطت الأعلام. وأنت، هل كان جدك وأبوك وأمك كذلك؟
- تعب كلبي من الوقوف. هيا انصرفا. أود مواصلة التنزّه رفقة كلبي.
أدرك مولود أنه مُدان مع سبق الإصرار. وأن قانون الواجهة البحرية لا يحميه من كدمات الأحذية الصلدة ورفسها الدامي.
(تمت)
***
بقلم: الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر