نصوص أدبية
سنية عبد عون: الرقصة الأخيرة
يكاد البرق ان يخطف خضرة شجيرات الآس في مزرعتي المهجورة داخل جمجمتي اللعينة.. شح عليها المطر وتلاحقها عواصف متربة تضربها يمينا وشمالا.. في باب داري تناثرت اوراق باهتة مصفرة لا تكاد ان تحل شفراتها بالعين المجردة.. ربما تحكي حكايات وأسرار المدينة وتحمل عبق تأريخ منسي.. وتحكي قصص الصبايا التائهات بين ضجيج الوليمة..
في احدى زوايا مسرح المهرجين كان هناك عصفور يرقص فرحا للأيامه القادمة.. كأنه توا ولدته الحياة وكانت أمنيته ان يغفو بأمان ملء جفنيه.. وبالأمس القريب خرج من قبو تحت الارض لثلاثة عقود خلت انتشى الطائر وافرد جناحيه.. كان صبره ترياقا لتلك السنين..
وصلتني أوراق باهتة حملتها ريح ذات يوم في شهر خارج التقويم.. ريح متربة بعاصفة هوجاء غير رحيمة.. مذ كنت طفلة عنيدة.. كنت اقضم اظافري بعيدا عن انظار الآخرين.. وكانت أمي تتشائم كثيرا مني وتوبخني بقسوة لاذعة.. حذرتني ان لا اشعر بحالة من خوف اثناء العاصفة.. لكن. نبوءة المرأة الغجرية صاحبة العينين الخضراوين لازالت تطارني حتى في منامي.. كانت المرأة الغجرية تتجول في الطرقات والأزقة وتتنقل بعربتها التي يسحبها حصان شرس وحوذي ثرثار.. والغجرية تعرض خدماتها على نسوة الحي لكشف الطالع ومعرفة الأسرار فقد أخبرتني اني سأبقى أقضم أظافري وحتى أصابعي وستبقى عادة تلازمني الى الأبد وقالت.. ان زورقك سيغوص بين رمال صحراء مجهولة.. ليتها تنبأت عن ظهور الدجال وعن يأجوج ومأجوج.. وليتها أجابت عن سؤالي لماذا صلب المسيح.. ؟؟؟ ولماذا يثرثر حوذي العربة ويقول ما لا يفعل ويتباكى بين الفينة والاخرى.. انه لا يمتلك حتى قوة يومه.. وبين تجشؤه تخرج الكلمات
خطر سؤال في مخيلتي الصغيرة بشأن الصحراء المجهولة وكيف يغوص بها زورقي ولماذا.. لكن الغجرية غادرت المكان فحاولت اللحاق بها متقطعة الانفاس ولكن المطر ما زال ينهمر بغزارة فعدت ادراجي منكسرة الخاطر.. وكان المطر عزائي..
كانت امرأة أربعينية تشبه ممثلات السينما لكنها كانت بسيطة الملبس تتدلى من جهتي رأسها مجموعة من الأحجار الكريمة نضدتها الواحدة فوق الاخرى وحسب حجمها ثم تنتهي بأكبر تلك الاحجار تشع الوانها المتعددة والتي تشبه القوس قزح علقتها فوق وشاحها المذهب بخيوط لامعة
واتذكر في طفولتي تلك العاصفة المتربة ولا اكاد انساها أبدا رغم تقادم السنين لا اتذكر تأريخها لكنها كانت ساعة الفجر حين سمعنا قرعا على باب دارنا كاد ان يقتلعها.. واصلت سيري بحذر شديد.. انه رجل ضخم الهيئة مهيب الوجه اقتاد أبي رغم توسلاتي وأخوتي وصراخنا المرير.. كان أبي يهدّأ من روعنا وهو يردد.. .سأعود قريبا.. سأعود قريبا..
بدا تصرفه وكأنه يعرف كل شيء وقد استسلم بهدوء تام.. استدارت السيارة وارتفع صوت عويلنا ولم اعد اسمع صوت ابي
وحين استيقظت هرعت الى أمي وجدتها انسانة غريبة الأطوار لا تعير اهتماما لما يحدث في الأرض وكأن روحها تئن وجعا على أمر جلل ساقته العاصفة الهوجاء..
لم أدرك وقتها سبب تصرفها ولم أفهم ما تتحدث به ربما كانت تبسمل وتحوقل وتتعوذ من الشيطان.. ثم أردفت بلهجة قاسية.. تبا لرؤيتك المنحوسة التي تبدو بلا أمل..
تتخاطف سيارات الاسعاف ويعلو ضجيجها بين الزحام الذي لم يعد يفسح مجالا لموضع قدم.. كل يوم يموت عصفور صغير قادته قدماه الى ساحة تشبه ساحة سوق عكاظ مع اقرانه خلال تلك العاصفة.. كانت العواصف كثيرة وموت العصافير غدى أمرا مألوفا.. بعضهم يلقي قصائده المتأججة والبعض الآخر خذلتهم حبيباتهم وماتت في صدورهم الكلمات كأن لعنة الفراعنة قد حلت بين صفوفهم.
اقشعر بدني من تلك العاصفة وتلك الاوراق المتناثرة هنا وهناك.. هذه الليلة تذكرت عيني أبي الوديعتين وتمنيت ان انقل له خبر موت العصافير فهو قد قرأ كل تأريخ العالم ويرى ان ذلك خرافة لا محال..
الذئاب تنهش مخيلتي.. كنت اتابع أخبار التلفاز مع ابنائي حين تحدث أحدهم من قناة مجهولة قائلا.. ان هناك حريق مروع في سوق عكاظ الذي يكتظ بالناس في وسط المدينة..
وحين مرّ موكب الملك المفدى لم يعر اهتماما لذاك الحريق ولم ينتبه ايضا الى موت المئات من العصافير اليافعة الجميلة.. ولم يلتفت لعصفور البراري الذي حاصرته شبكة صياد معتوه غير مبال بأحلامه الندية وآثار أقدامه فوق رمال الشاطئ ليلة أمس مع أنثاه يأكلان ويمرحان ويجمعان عيدان الشاطئ لعشهما الجديد..
انجذب المعتوه لذاك العصفور وأخذ ينتف ريش جناحيه فكانت لعبته المفضلة ان يمسكه من خلال حزمة ريش بأم راسه فيتدلى العصفور المسكين بجسده راقصا على نغمات.. (شلون امك تركص بالعش)
***
قصة قصيرة
سنية عبد عون رشو