نصوص أدبية
أحمد الحلي: حكاية الجندي سالم
كنا متحلّقين حولَ القصعةِ حينَ وقعت أعينُنا على ثلاثةِ جنودٍ جددٍ تم نقلُهم إلى وحدتِنا العسكريةِ المرابطةِ على خطوطِ النارِ، فهمنا بعدَ ذلك أنهم مشمولون بقرارات لجنةِ شرحبيل المتعسفة، تلك اللجنة التي أفرغت المعسرات الثابتة تقريباً من ذوي الإعاقةِ أو ممن تم اعتبارُهم غيرَ مسلّحين ليزجّوا بهم في جبهات الحرب، وقد أرسلَ مساعدُ الآمرِ إثنين منهم إلى القَدَمةِ الإداريةِ لأن لديهما توصياتٍ من بعضِ الجهات، أما الثالثُ وإسمُه سالم فقد قررَ أن يستبقيَه معنا في الخطوطِ الأماميةِ، وقد لاحظنا انه كان رثّ الثيابِ بطريقةٍ مزريةٍ وأنه لم يكن به عوقٌ جسدي يُبرّرُ كونَهُ غيرَ مُسَلّحٍ، وقد سرت بين الجنودِ شائعاتٌ وهمهماتٌ بأنه يفتعلُ إصابتَه بنوباتٍ من الجنونَ وأن بعضَهم شاهده في مدينتِه البعيدة بكاملِ اناقتِه، وقد أتيحَ لي أن أراقبَ سلوكَه عن كثبٍ، كان يتسكّعُ بين مواضعِ مقرّنا، في أحدِ الأيّامِ أرهفتُ السمعَ لهمسٍ خلفَ موضعِنا، اقتربتُ بخِفّةٍ منه فإذا به قد انحنى على طابورِ نملٍ وهو يغذّ السيرَ باتجاهِ أحدِ الثقوبِ وسمعتُه يخاطبُ نملةً : إذا كنتِ أنتِ تختبئين في هذا الثُقبِ، فأين سنذهبُ نحنُ ؟
كان بعضُنا يُشفِقُ عليه فيدَعونه لتناولِ الطعامِ أو الشاي معهم، لاحظتُ أيضاً انه كان شاردَ الذهن لا يتكلم إلا ببضعةِ كلماتٍ يُتمتمُ بها هلِعاً حين يصدرُ إليه أحدُ الضباطِ او نوّابِهم امراً ما، لا سيما وانهم وجدوا أنه من الأفضلِ عدمُ تنسيبِهِ للفصائلِ القتاليةِ واقتصارُ دورِهِ على الأشغالِ، وفي حقيقةِ الأمرِ فإنه تضررَ كثيراً من هذا الإجراءِ، وذلك ناجمٌ عن كثرةِ الأشغالِ وتنوّعِها بين حفرِ المواضعِ وتحميلِ وتفريغِ الأعتدة حتى لا يكادُ يجدُ وقتاً لحكّ رأسِهِ كما يقولون، مع المخاطرِ التي يتسبب بها القصفُ المعادي المستمرُّ وتناثرُ الشظايا . ومع ذلك لم يشأ سالم أن يعبّرَ عن تذمُّرِهِ أو شكواهُ لأحد .
في احد الأيامِ عاد من إجازتِه الدوريةِ وقد لاحظَ الجميعُ أنّ بيدِهِ مظلةً شمسيّة، مع أن الوقتَ لم يكن شتويّاً أو صيفيّاً .
في صبيحةِ اليومِ التالي وبعدَ فترةِ الإفطارِ مباشرةً باغتتنا نوبةُ قصفٍ عنيفٍ، فأسرعَ الجميعُ للإختباءِ في مواضعِهم الدفاعيةِ، ولكننا شاهدنا من فتحات المواضعِ الضيّقةِ سالم وهو يخرجُ إلى العراءِ فاتحاً مظلَّتَه وهو يضحكُ بهستيريةٍ
ثم رأينا المظلَّةَ وهي ترتفعُ في السماءٍ،
بعد أن توقّفَ القصفُ خرجنا لنتفقَّدَ خسائرَنا ونطمئنَّ على سالم، بحثنا عنه في كل مكانٍ فلم نجد سوى أشلاءَ متناثرةٍ هنا وهناك .
***
أحمد الحلي