شهادات ومذكرات

علي حسين: بعد 75 عاما على رحيله.. اورويل يشير باصبعه نحو ترامب

قبل وفاته بأقل من عامين كتب (جورج أورويل): " أكثر ما أردت فعله خلال السنوات العشر الماضية هو تحويل الكتابة السياسية إلى فن"، مضيفاً «عندما أنظر إلى الماضي، أرى أنني كنت أفتقر إلى الغرض السياسي حيث كتبتُ كتباً جامدة، وجملاً بلا معنى، وصفات زخرفية، وهراء بشكل عام".

كان أورويل يريد أن يرى نفسه " كاتباً سياسياً"، لم يدّعِ أنه فيلسوف سياسي، ولا مجرد مجادل في الشأن السياسي، لقد كان مؤلفاً للروايات، وكاتباً للمقالات، وقصائد، ومراجعات لا حصر لها للكتب، وأعمدة في الصحف. ولكن إذا لم يكن أفضل أعماله دائماً سياسياً، فقد أظهر دائماً وعياً سياسياً. بهذا المعنى، فهو أفضل كاتب سياسي في اللغة الإنجليزية منذ جوناثان سويفت، الساخر، والمحرض، الذي أثّر عليه كثيراً، الأمر الذي دفع أورويل لأن يطلق على سويفت لقب «مخرب حزب المحافظين".

لعل (جورج أورويل) الذي تمر علينا اليوم الذكرى الـ 75 على وفاته هو الكاتب الإنجليزي الوحيد الذي ازدادت شهرته وتأثيره منذ وفاته، ولا يزال يُعدّ الكاتب الأفضل عند جميع قرّاء الرواية.

بعد عقود من صدور رواية (1984) تساءل الناقد الأمريكي هارولد بلوم: " كيف يمكن لمثل هذا الكتاب أن يمارس نفس القوة على مدى أجيال قادمة»، لم يكن العالم هو الكابوس الذي وصفه أورويل، بل الحياة بشكلها اليومي كانت كابوساً يؤرقه، تنبأ النقاد بعد وفاته بأن شعبيته ستزول، لكن انقضت هذه العقود السبعة، ولا تزال كتبه تمثل إدانة للاستبداد. يكتب الناقد الإنجليزي الشهير (جون سذرلاند) أن تأثير أورويل على الأدب والثقافة: " جعلنا نضيف كلمة واحدة إلى لغتنا هي الأورويلية".

أيقن أورويل منذ وقت مبكّر من حياته أنه سيكون في يوم ما كاتباً، كانت طموحاته الأدبية مرتبطة بالشعر وكتابة المقالة، إلا أنه وجد في الرواية القدرة على التعبير عمّا يجري حوله، والطاقة على مواجهة الأحداث غير السارة، فخلق بذلك روايات أصبحت أشبه بعالم خاص يهرع إليه القراء عندما تؤلمهم مصاعب الحياة. وقد تكرّرت في مقالاته الصحفية عبارات عن حبّ الطبيعة، عدم الثقة بالمثقفين، الشكّ في الحكومات، الازدراء والتحذير ضدّ الشمولية، معاداة الإمبريالية والعنصرية، وكراهية الرقابة، والثناء على اللغة الواضحة، والفردية، والحرية، والمساواة، والوطنية.

يوصف أورويل بأنه شخصية غريبة الأطوار، يرتدي ملابس غريبة، وجاء إلى عالم الكتابة بطريقة غريبة أيضاً، وبرغم ملامح البؤس التي تبدو على وجهه، فإنه لم يكن منعزلاً. كان غارقاً في الأدب الفرنسي والأدب الروسي. يعرف المزيد عن السياسة الأوروبية والاستعمارية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين أكثر من معظم معاصريه من الأدباء والسياسيين. كانت لديه أشياء يقولها لا تزال ذات أهمية عالمية حتى اليوم، والحماس للكتابة لجمهور عريض، وليس لجمهور فكري بحت.

ولد جورج أورويل واسمه الحقيقي (إريك هيو بلير) في البنغال أيام كانت جزءاً من الهند التي تخضع للنفوذ البريطاني، يوم 23 من مايو عام 1903، وكان والده يعمل موظفاً في إدارة مكافحة المخدرات، وأمه ابنة تاجر خشب فرنسي، بعد عودة عائلته إلى إنجلترا دخل مدرسة إعدادية خاصة، بعدها استطاع والده أن يدبّر له دراسة بمنحة في كلية إيتون الخاصة بأبناء الطبقة العليا، وكان الكاتب الشهير الدوس هكسلي أحد أساتذته، لكن الفتى رأى حقيقته في مكان آخر، حيث يقرر فجأة أن يترك الدراسة ليرحل إلى بورما للعمل في (الشرطة الملكية)، هناك يكتشف المعاناة التي يعانيها البورميّون من جراء الحكم الإنجليزي، فيكتب روايته (أيام بورمية)، بعدها يسافر إلى فرنسا، ثم يعود إلى إنجلترا حيث يعمل في مكتبة لبيع الكتب، وكان في السابعة والعشرين عندما نظف بيتاً في لندن مقابل ربع جنيه إسترليني يومياً. أتعبه المرض، فكان يبدو أكبر من عمره، واعتقَد أنه لا يروق للنساء، ويسجل هذه الفترة من حياته في كتابه (متشرد في باريس ولندن). عندما تندلع الحرب الأهلية الإسبانية يذهب إلى برشلونة، ومن هناك يكتب تحقيقات صحفية لمحطة الـ BBC، ونجده يلتحق بالحزب العمالي للاتحاد الماركسي الذي يتبع (تروتسكي)، ويشترك في القتال مع القوات الجمهورية. يصاب في منتصف عام 1937 بجروح، ليعود إلى إنجلترا فيصدر عام 1938 كتابه (وفاء لكتلونيا) يروي فيه أسباب انفصاله عن حركة اليسار، عام 1943 ينضمّ إلى هيئة تحرير صحيفة (الأوبزرفر)، يتولى كتابة تقارير سياسية وأدبية، سنة 1945 تُنشر روايته (مزرعة الحيوان)، التي بيعت منها ملايين النسخ وتُرجمت إلى معظم اللغات، وقد حققت له هذه الرواية الشهرة والثروة، ورغم أن مرض السل تفشى في جسده إلا أنه استطاع عام 1948 تكملة روايته الأخيرة (1984)، ليرحل عن عالمنا بعد عامين من نشر الرواية في الحادي والعشرين من كانون الثاني عام 1950.

كان أول اسم مقترح لرواية جورج أورويل (1984) هو (الرجل الأخير في أوروبا). يقدم لنا أورويل في روايته هذه عالماً يحكمه نظام شمولي، وتدور أحداث الرواية في لندن التي يسميها أورويل «دولة أوشانيا العظمى»، حيث تدير شؤونها أربع وزارات، هي وزارة الصدق ومهمتها تزييف الحقائق، وإتلاف الوثائق التي تُذكّر الناس بالماضي، ووزارة السلام تتولى شؤون الحرب والإعداد لها، وزارة الرخاء ومهمتها تخفيض الحصص التموينية المخصصة للأفراد، ووزارة الحبّ التي تُعنى بحفظ النظام وتنفيذ القوانين. في الرواية ترافقنا صورة «الأخ الأكبر» في كل مكان، وهي صورة لوجه ضخم بشارب أسود كثيف، وقد كُتب تحت الصورة «الأخ الأكبر يراقبك»، ووسيلة الدولة في مراقبة الناس تتلخّص في استخدام شرطة الفكر دوريات بطائرات هيلوكوبتر تقترب من النوافذ وسطوح المنازل بهدف التجسّس على كل السكان.

كان أورويل قد صاغ لأول مرة مفهوم الشمولية بعد عودته من إسبانيا التي ذهب إليها أواخر عام 1936، في هذه الفترة يوجّه نقداً إلى الجمهوريين، حيث عزا انتصار فرانكو إلى سوء تصرف حكومة الجمهوريين وتفشي الخيانة. كان أورويل يؤمن بأن العوامل المشتركة كانت تظهر في الستالينية والنازية المعنية بالاحتفاظ بالسلطة وبسطها من قبل النخبة الداخلية للحزب. ومثل هذه الدولة ستسعى إلى حشد المجتمع كله كما لو كان من أجل حرب دائمة وشاملة، وهو الأمر الذي تلقفته الفيلسوفة الألمانية (حنه أرندت) وهي تكتب عن أصول الشمولية، في كتاب صدر بعد عام من رحيل جورج أورويل.

إذا أخذ المرء مصطلح " الكاتب السياسي" بمعناه الأوسع ليشمل الفلاسفة ورجال الدولة والأدباء في الفكر الإنجليزي، فإن ثلاثة أسماء تبدو بارزة بلا منازع: توماس هوبز، وجوناثان سويفت، وجورج أورويل.

لقد حاول أورويل أن يتتبّع في رواياته دوافع السلوك البشري، وقد وجد أن الحافز الأول لسلوك الإنسان السوي هو إثبات وجوده، وفي سبيل هذا الغرض أقر أورويل بحقّ الفرد في تحطيم القوانين إذا كانت جائرة أو ظالمة. كما اعترف بحقّ الجماعة في الثورة وتغيير النظم التي لا ترضاها، وقد استطاع أن يرسم لنا صورة لمصير الإنسان في عصر تسيطر عليه الآلات سيطرة تامة، ويسيطر عليه الطغيان نتيجة لانقسام العالم إلى معسكرات وتكتلات، ولوجود طبقة اجتماعية لا يرضيها إلا ممارسة السلطة وإذلال الآخرين.

كان أورويل يؤمن باستحالة أن يتجنّب الكاتب البحث في شؤون السياسة، وقد وجد أن الرواية هي أفضل وسائل التعبير في الكتابة السياسية، ولكن الرواية لا تزدهر إلا إذا كان الكاتب حراً، والمهم أن يكون مفهوماً، ولهذا اهتم أورويل بأن يكتب بأسلوب سلس لكنه جميل، وقد استطاع أن يجعل من الكتابة فناً متميزاً، عندما قدم للقرّاء رائعته (مزرعة الحيوان)

رفض العديد من النقاد روايته (1948)، واعتبروها بلا معنى، لكن الهدف كان عند أورويل هو الرغبة في كشف مساوئ الاشتراكيّين والسلطة المتسلطة. كان المجتمع الذي خلقه أورويل بديلاً للمجتمع الإنجليزي، يتساوى فيه السكان بكونهم لا يساوون شيئاً، وتنبثق حقائق مجتمعهم من الأيديولوجيا، والأيديولوجيا من السلطة. حيث تُلغى المشاعر التي بُنيت السلطة عليها سابقاً من حبّ الجار والعادات والوطن والتاريخ، ويختفي المنادون بها. كره أورويل الادّعاء والتباهي، وخشي أن يبدو أسلوبه متكلفاً، فبسّطه ليجعله أقرب إلى لغة الإنسان العادي الصادق الذي يفتح فمه ليقول ما يهمّه دون أن يزوق الكلمات، كان يقرأ كل يوم في كتب جوناثان سويفت وسومرست موم، كره الثروة والنجاح، وسعى إلى حياة روحانية من دون أن يؤمن بالكنيسة. دفعه تقشفه إلى العيش في جزيرة اسكتلندية حيث حاول كسب قوته بالصيد والزراعة، كان مريضاً بالسل وقد عجّل عيشه على الجزيرة في نهايته.

جلبت رواية (1984) شهرة عالمية لأورويل بعد رحيله، وخُلّدت عباراته «الأخ الأكبر» و «وزارة الحقيقة». توفي عن سبعة وأربعين عاماً ففاته الهجاء الذي كتبته صحيفة (البرافدا) السوفييتية وهي تصف روايته (1984) بـ. «كتاب قذر وحقير».

امس تم تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة للمرة الثانية، وفي المرة الاولى عام 2017، تصدرت رواية جورج أورويل "1948"1949 قائمة أمازون لأكثر الكتب مبيعًا. ويبدو أن الكثير من الناس اعتقدوا أن أورويل كان لديه شيء مهم ليقوله في تلك اللحظة السياسية.

في مقالته " ملاحظات حول القومية " – ترجمها الى العربية عدي الزعبي - التي كتبها عام 1945، ميز أورويل بين مصطلحي القومية والوطنية. بالنسبة لأورويل، كانت القومية هي "عادة تحديد الذات بأمة واحدة أو وحدة أخرى، ووضعها فوق الخير والشر وعدم الاعتراف بأي واجب آخر سوى تعزيز مصالحها".، وسارع إلى الإشارة إلى أن هذا يختلف عن مفهوم الوطنية، الذي عرفه بأنه "الإخلاص لمكان معين وطريقة حياة معينة، يعتقد المرء أنها الأفضل في العالم ولكن ليس لديه أي رغبة في فرضها على الآخرين".، ولكن الأمر ليس كذلك مع القوميين. إذ يزعم أورويل أن "الوطنية بطبيعتها دفاعية، سواء على المستوى العسكري أو الثقافي. أما القومية، من ناحية أخرى، فهي لا تنفصل عن الرغبة في السلطة". والقومي أشبه بالوالد الذي يتجول في كل مكان ويهين أطفال الآخرين من أجل رفع شأن أطفاله. إن مجرد حب الوطن ليس خطيرا في حد ذاته. إن جعل تقدم أمتك أو ثقافتك على رأس أولوياتك هو الامر الخطير للغاية.

كان أورويل يدرك أن القوميين عندما يجعلون من تعزيز أسلوب حياتهم أولوية قصوى، فإن لامر ينتهي بهم إلى وضع هذا الهدف في مكانة "أبعد من الخير والشر". وهذا يجعل القوميين عرضة لتأييد وسائل غير أخلاقية لتعزيز أسلوب حياتهم.

كان رد فعل ترامب على خسارة الانتخابات الرئاسية لعام 2020 مثالاً بارزا على هذه العقلية القومية. فقد سعى إلى تقويض نتائج الانتخابات من خلال الكذب وتشجيع التمرد. وعلى نحو مماثل، كان أنصار ترامب الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في السادس من كانون الثاني يتبنون عقلية قومية. وقد انخرطوا في وسائل غير أخلاقية لمحاولة تعزيز أجندتهم السياسية.

إن دونالد ترامب يفعل بالضبط ما تنبأ أورويل، فـ "أفكاره تدور دائما حول الانتصارات والهزائم والإذلال".، إن التركيز على المكانة التنافسية ليس فعلا وطنياً، بل هو قومية خالصة.

في مقال كتبه اورويل عام 1942 في منتصف الحرب العالمية الثانية، وتأمل فيه تجاربه كجندي متطوع في الحرب الأهلية الإسبانية، اكد فيه أن "تقاليدنا وأمننا في الماضي أعطتنا اعتقادا عاطفيا بأن كل شيء يسير على ما يرام في النهاية وأن الشيء الذي نخشاه أكثر من أي شيء آخر لا يحدث أبدا"، وأننا "نعتقد بشكل غريزي أن الشر يهزم نفسه دائما في الأمد البعيد".

كان أورويل قلقاً إزاء هذه الطبائع المتفائلة لأنه كان يعتقد أنها تتعارض مع ما يجري في الواقع. وعلى العكس من ذلك، كانت الأدلة تشير إلى أن الأمور لا تسير على ما يرام عادة من تلقاء نفسها. بل إن التحسينات الاجتماعية تتطلب عادة جهوداً متضافرة ويقظة ضد التراجع.

وفي مقال آخر من نفس العام، انتقد أورويل العديد من المثقفين الذين تعاملوا مع هتلر باعتباره "شخصية من المسرح الكوميدي "، لا تستحق أن تؤخذ على محمل الجد". وانتقد العديد من البلدان الناطقة التي ساد فيها الإعتقاد بأن هتلر كان مجنوناً تافهاً وأن الدبابات الألمانية مصنوعة من الورق المقوى".

اليوم نلاحظ إن ترامب يتحدث بشكل روتيني مثل المستبد، ونجد العكثير من الأميركيين يتسامحون مع مثل هذا الحديث، ويفشلون في التعامل معه باعتباره دليلاً على التهديد الذي يشكله للديمقراطية. ويبدو أن هذا يرجع إلى الميل الذي حدده أورويل إلى الاعتقاد الذي يسود المجتمع بأن الأشياء السيئة لن تحدث ــ على الأقل في بلد مثل امريكا -.لقد اعتقد أورويل أن من الجدير أن نأخذ احتمالات النتائج السيئة على محمل الجد. وهذه إحدى الطرق لفهم ما كان يخطط له في تشهر رواياته، " مزرعة الحيوانات " و" 1948 ".

عندما نعيد قراءة أورويل اليوم، سندرك انه كان محقا عندما اشار عام 1942 الى الهوس القومي ووصف امثال ترامب بانهم لا يتحدثون إلا عن " تفوق مجموعتهم القوية "، وان البعض منهم يمضي حياته وهو يعيش وهم المؤامرات التي تحاك ضده. لقد أدرك أورويل، أن فعل تزييف الواقع ليس إلا وسيلة لتأكيد سيطرة سلطة غاشمة.

لعب ترامب مثلما لعب " الخنزير " نابليون بطل رواية " مزرعة الحيوان " على مخاوف ناخبيهم، ليقدما نفسيهما كحماة لا غنى عنهما. يذكر نابليون الحيوانات بالتهديد الخطير المتمثل في عودة البشر، وعلى نحو مماثل، يعمل ترامب باستمرار على تأجيج مخاوف عامة الناس بشأن الهجرة، ومكانة امريكا، واوربا التي تسرق اقتصاد الولايات المتحدة. يسعى نابليون، مثل ترامب، إلى غرس الولاء في أتباعه.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم