شهادات ومذكرات
محمود محمد علي: سهيل فرح ونظرية تناضح الحضارات
من أي مكاناً تُقارب روسيا، من إيفان الرهيب، وكاترين، والقياصرة، أم من الأمير القديس "فلاديمير"، أم من الراهب "راسبوتين"، من "لينين" أم "جوزيف ستالين"، من "يلتسين" أم من "بوتين".. روسيا الكنيسة الأرثوذكسية التي عصيت على السوفييت سبعين عاماً، وما استطاعوا دفنها، وعادت فاعلة في المجتمع والسياسة.. روسيا "بوشكين" و"تولستوي".. أم روسيا المستشرقة، أو الشرقية، أم روسيا حوار وتحالف الحضارات.
موجز عن سيرة العالم سهيل فرح
قصدت أن أستهل هذه المقدمة التمهيدية لأتحدث عن الباحث اللبناني البروفيسور "سهيل فرح " ذلك العالم والمفكر، والذي أصفه دائماً، بأنه يمثل بالنسبة لنا نحن العرب، واحداً من أبرز الوجوه الأكاديمية والفلسفية على الساحتين العربية والروسية على مدى العقود الماضية، والحاصل على وسام روسيا للصداقة الذي قلده إياه الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف عام 2011، وهو العام الذي تم فيه اختياره شخصية العام في ميدان العلوم في روسيا.
كما ساهم سهيل فرح في تدشين حقل معرفي جديد مرتبط بعلم الحضاريات. يطلع برؤية تكاملية علمية-منهجية تقدم رؤية استراتيجية جديدة للجيل الخامس من الحضارات على كوكبنا أطلقوا عليه تسمية الحضارة الإنسانية النووسفيرية، الذي يسعى ليكون بديلاً للازمات العضوية المستفحلة التي تعيشها حضارة الإنسان اليوم وعلى كل الصعد.
وسهيل فرح (مع حفظ الألقاب)، لبناني الأصل روسي الجنسية، وهو صاحب العديد من المناصب العليا في روسيا كرئيس للجامعة المفتوحة لحوار الحضارات، ورئيس تحرير القسم العربي لموقع روسيا العالم الإسلامي، ونائب لرئيس المعهد العالمي لبيتريم سوروكين ونيكولاي كوندراتييف، وعضو مجلس رئاسة المنتدى العالمي للثقافة الروحانية في كازاخستان، وهو أيضاً عضو أكاديمية التعليم الروسية والأستاذ في فلسفة العلوم والحضارات والأديان فى جامعتى اللبنانية وموسكو والمرشح لجائزة نوبل للسلام لأعوام 2018و 2019و 2020. وصاحب الكتاب الشهير "الثقافة تنقذ العالم" الذي ألفه بداية باللغة الروسية مع زميله الأكاديمي فؤاد ماميدوف، ومن ثم تم ترجمته للغة العربية من قبل الدكتور محمد قاجو و فكرته الرئيسية التي تقول بأن يمكن للثقافة في هذا الزمن الذي يكهرب كل مكوناته تيارات "اللاثقافة" أن تنقذ الإنسان في حال تحولها الى فلسفة حياة على مستوى القول و الفعل و اذا ما تعممت على كل مجالات النشاط الحضاري للبشر، يمكنها أن تلعب دوراً مهما في درء كافة أنواع التعصب والتطرف بين حملة الخطابات الدينية، أو الأيديولوجية، أو الفكرية، أو الفلسفية المختلفة. وهو كذلك عضو مجلس رئاسة المنتدى العالمي الحضاري يالطا ٢. ومنح في عام 2000 ميدالية بوشكين الدولية، وفي 2004 منح وسام الصداقة بين الشعوب.
علاوة على أنه أيضاً مثال للعالِم المتواضع، وهذه خصال حميدة جسدها في شخصه، وفي سلوكه، وفي كل حياته، فجاء كتابه ناطقاً بما في ذاته، كاشفاً عما في قلبه. وقد أفاض سهيل فرح إلى جانب ذلك كله، حباً ومودة، صدقاً وصداقة، شجاعة ومسؤولية في معالجة شؤون الوطن والأمة، لا بل شؤون العالَم الصديق وثقافات وشعوب هذا العالم، وأخصها الشعوب الروسية وحضارتها.. وكان ذلك بوحي من المعاني الخالدة والملهمة في قِيَم الأديان كلها وفي الثقافات الإنسانية جمعاء.
وُلد الدكتور سهيل فرح عام 1951. وبدأ مسيرته العلمية العليا من موسكو، فحاز درجة الماجستير في الإخراج التلفزيوني عام 1979، ثم ناقش رسالة دكتوراه في فلسفة التاريخ في الجامعة نفسها عام 1984 وحصل على درجة دكتوراه علوم في الفلسفة من جامعة نيجني نوفغورود عام 2000.
درس الفلسفة وتجديدا مواد الأبستيمولوجيا وفلسفة الحضارات في جامعة وهران وتابع التدريس في الجامعة اللبنانية منذ عام 1992، وهو أستاذاً زائرا في جامعتي موسكو الحكومية، وجامعة نيجني نوفغورود، وعضواً في أكاديمية التعليم الروسية، وفي أكاديمية العلوم الطبيعية الروسية، وكان قد شعل موفع رئاسة الجامعة المفتوحة لحوار الحضارات منذ عام 2013 وحتى عام 2021. وترأس البيت اللبناني من عام 2005 وحتى 2015 ، وكذلك تم اختياره مستشاراً علمياً لجمعيات ثقافية في روسيا، وألمانيا، وكازاخستان، والجزائر.
وقد صدر له أكثر من ثلاث وعشرين كتاباً، ترجم منها إلى العربية والروسية والانجليزية، تركز معظمها على موضوعات فلسفة العلوم وقضايا حوار وشراكة الحضارات والأديان والثقافات المتنوعة؛ حيث تلاقي أعماله صدى واسعاً في العالم العربي وروسيا على حد سواء.
ومن أهم كتبه "الحضارة الروسية.. المعنى والمصير" الذي يحاكي الحضارة الروسية بكل ما تحمله من تاريخ عريق ومن جغرافيا واسعة، وكتاب "حوار وشراكة الحضارات" الذي تم على أساسه وأساس غيره ترشيحه لجائزة نوبل للسلام، فيما ارتبط نشاطه منذ دراسته في جامعة موسكو في مطلع السبعينيات بموضوع حوار الحضارات وقضايا العولمة والمسألة الثقافية في الفكر الفلسفي العربي المعاصر.
منح الباحث سهيل فرح جوائز وأوسمة وميداليات حكومية وغير حكومية من أكثر من بلد. لعل أبرزها من روسبا وتحديدا وسام بوشكين للصداقة بين الشعوب الذي قلده إياه الرئيس الروسي ميدفيديف في عام 2011 , وتم أختياره في نفس ذاك العام شحصية العام في ميدان العلوم في دولة الإتحاد الروسي.
وقد حصل الباحث اللبناني - الروسي، عضو أكاديمية التعليم الروسية البروفيسور سهيل فرح على جائزة يفغيني بريماكوف لعام 2018 عن كتابه "الحضارة الروسية - المعنى والمصير" الصادرعن الدار العربية للعلوم (ناشرون) في بيروت. يذكر أن جائزة بريماكوف الدولية تأسست عام 2016، تخليدا لذكرى الدبلوماسي ووزير الخارجية ورئيس الوزراء الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف (1929-2015). وتخصص الجائزة لدعم الطاقات المبدعة المشاركة على نحو فعال في تعميق حوار السلام والتعاون بين الحضارات.
في هذا الكتاب يتحدث الدكتور سهيل فرح عن الحضارة الرّوسيّة، ذات الخصوصية في نشأتها وتطورها. يشرع بإلقاء نظرة بانورامية سوسيوثقافية وأنثروبولوجية عنها، تتوخى معرفة جبروت المكان والزمان على حراك الروسي في عالم دنياه، وفي توقه الأزلي للروحانيات. لقد كان لمقاربة سهيل فرح الأصيلة عن الحضارة الروسية عميق الأثر على لجنة التحكيم المكونة من أرفع الشخصيات المرموقة من بلدان الشرق والغرب، ليحصل على جائزة بريماكوف الدولية وذلك "لدوره الملحوظ في التقارب بين ثقافات وأديان الشعوب"، كما جاء في نص الشهادة الممنوحة له.
جديد أفكار سهيل فرح في نظرته الفلسفية للحضارة
ولما كان سهيل فرح يتعامل مع الأفكار كنمط من الوجود الحي؛ فهو ينفتح في عمله، على كل الصعد والمجالات، فنراه يقيِّمُ منظومة القيم، التي حملها الروس في تاريخهم. كما يحاول دراسة التجارب والفتوحات، التي قامت بها الأجيال الرّوسيّة، في المجال الأوراسي. يسلِّطُ الضوء على الإرث الثقافي والعلمي والروحي؛ مما تركته الشعوب الرّوسيّة عبر التاريخ في نقاط انتصاراتها وتعثراتها. يركز على دراسة الإرث الذي تمثَّل ويتمثَّل في وعي الروس لقوانين التطور في الطبيعة والمجتمع (العلم)، وفي الفهم الوجداني والسلوكي لأنماط التفكير والسلوكيات (الثقافة)، كما يسلط الضوء على حصيلة القواعد النفسية، والمثل والمحفزات (السلوكية النفسية، الإيديولوجية، الدين) ويرصد طرق نقل التراث الثقافي وأشكاله من جيل إلى آخر (القيم والتعليم). كما يهتم بالبحث عن نقاط القوة والضعف في الجيوبوليتك الرّوسي. كما يتناول عوالم الاقتصاد والثقافة في تاريخ روسيا المعاصر. ويختتم الكتاب برؤية مستقبلية تستشرف الحضور الروسي، في أوراسيا الكبرى وكذا في العالم.
عن الجديد في حقل المعرفة الذي تم على أساسها ترشيحه لأكثر من جائزة، فهو "يرتكز على مجموعة من المبادئ الأساسية. من الناحية المنهجية التي تستند الى الرؤية التكاملية العلمية، والتي تأخذ بعين الاعتبار المقاربة الفلسفية للحضارة، المقاربة التاريخية، المقاربة السوسيوثقافية والجيوبوليتيك، والمطلة أيضاً على علم المستقبليات لكوننا على حد قوله "ندرس الحضارة الكوكبية - الإنسانية ككل".
وأشار سهيل فرح إلى أنه يرتكز مع زملائه في الأكاديمية التي ينتمي اليها على "نهج معرفي، ملخصه أن الحضارة على هذا الكوكب مرت بأربعة أجيال من الحضارات، وكل جيل يعيش حركة دورانية حضارية معينة. علما بأن المرحلة التي تعيشها الحضارة الإنسانية المعاصرة تمر بمجموعة من الأزمات لعل أبرزها الأزمة الإيكولوجية بمعنى مشكلة الإنسان مع الماء، الهواء، البيئة عموماً، فعندما بدأ العقل العلموي يقتحم عالم الطبيعة غاب التناغم بين الإنسان وأمه الطبيعة".
وقال: "لمكونات كل ظاهرة في الوجود بما في ذلك السياسية، أو العلمية، أو الدينية؛ هناك طاقتان، الأولى بناءة والثانية مدمرة. في الطاقة العلمية، لا يوجد تقدم بدون عقل علمي. وإذا غابت القيم الأخلاقية عن العلم، يصبح مدمراً، ويدخل في المنطقة المظلمة، والمدمرة في الشخصية الإنسانية.
وأضاف: "نحن نشهد نهاية جيل رابع لدورة حضارية كوكبية، وما نراه اليوم أمامنا يشير إلى أن الكوكب في مأزق، لا بل مآزق عضوية في كل المجالات، وتجسيداتها ليست ظاهرة للعيان فقط في لبنان أو الشرق الأوسط. الحضارة الإنسانية كلها تعيش أزمة ايكولوجية، أزمة ديموغرافية؛ إذ يوجد انفجار سكاني في المواقع الفقيرة، وإنحسار سكاني في المناطق الغنية، والعرق الأبيض على عتبة أن ينقرض نظراً لوجود مشاكل في مناطقهم لأسباب عديدة منها ندرة وجود الأسرة، لا يوجد ولادات، تشريع الزواج المثلي، ناهيك عن الأزمات المستعصية في مجالات المال، الاقتصاد، الاجتماع والطاقة، وكذلك هناك أزمة قيم إنسانية كبيرة جداً".
وأعلن سهيل فرح في أكثر من مقابلة أجريت معه "بأن نظريتنا، التي تم ترشيحنا على أساسها لجائزة نوبل للسلام لمرات ثلاث، من قبل قسم أوروبا في أكاديمية العلوم الروسية مدعومة أيضا من علماء روس آخرين وأيضاً من قبل أكاديميين فرنسيين، وألمان، وأميركيين، تشير إلى أننا ندشن حقلاً علمياً معرفياً جديداً بعلم الحضارات، يدعو إلى حضارة من نوع جديد، حضارة النووسفيرا، تسود فيها حكمة العقل العلمي والعدالة، وتمثل القيم الإنسانية والسماوية المشتركة... وقد تصل البشرية إلى ذلك بعد الخروج من مآزقها العضوية الحالية إلى حالة بديلة، ستظهر بداية معالمها بدءً من بداية خمسينات هذا القرن".
بدائل الداروينية الإجتماعية والحروب
وقال: "لقد علمتنا فلسفة التاريخ بأن الحلول تولد من بطن الأزمات والمشاكل، مثلما يأتي السلام بعد الحروب، لذلك نحن نعمل على تفعيل حراك الشراكة بين الحضارات والأديان والمعارف المتنوعة، نظرا لوجود صراعات هائلة بينهم. ونسعى لفضح دائم للعقيدة الداروينية-الاجتماعية المسيطرة على عقل من بيده القوة والمال والسلطة والمعرفة في الغرب والشرق معاً... كما أننا نبين محدودية لا بل مخاطر كل عقيدة توتاليتارية بما فيها، لا بل، حصراً العقيدة الدوغماتية الدينية التي تعتقد بأنها تملك الحقيقة المطلقة، فكيف ذلك ونحن نعيش في عالم متنور مفتوحة عقوله على بعضها البعض".
وتساءل سهيل فرح: "إلى متى سيبقى الصراع بين الأديان، بين الإسلام والغرب؛ وعموماً بين الشرق والغرب، وهل سيبقى الصراع شاملاً بين منظومة القيم الليبرالية، ومنظومة القيم العلمانية من جهة والدينية من جهة أخرى، وهل سنبقى أسرى العقلية الداروينية التي تقول بأن الأقوى هو من يملي شروطه على الآخر أم علينا الانتقال إلى مرحلة انفتاحيه عقلانية أرقى بالعلاقات الإنسانية؟
وشدد على "ضرورة تجديد الفكر الديني عن طريق إدخال الطاقة الإيجابية لرصانة العقل ودفء القلب في الدين، وإبعاد الدين عن السياسة والايديولوجيا والانغماس في شرور الحروب"، وقال: "نحن نحاول أن نقول بأن هذه الكرة الأرضية حبلى بالأزمات، وما نراه هو أن الحروب تزيد إستفحال المشاكل الإقتصادية والاجتماعية والإيكولوجية والأزمة الديموغرافية والهجرة من الشمال الى الجنوب. في كل الحالات نعيش اليوم زمن الانهيارات الاكسيولوجية، فالاستبداد بالشعوب الشرقية يتزايد، ومنظومة القيم الغربية تترهل، ومنظومة القيم الدينية تشيخ".
وأعلن "أننا مع النظرية التي تقول بوجود 12 "بلوكا" حضارياً على هذا الكوكب، وكل بلوك عليه ان يفعل وينشط الطاقات الاكثر حكمة ووعياً ورؤية مستقبلية واستراتيجية بعيدة البصيرة والمدى في دواخل وعيه وسلوكه من أجل تجديد الطاقة الثقافية والروحية والاقتصادية لكل شعوب هذا الكوكب.
وثمة نقطة مهمة يؤكد عليها سهيل فرح، وهي عندما يتناول المرء المجال الجيوسياسي لحضارة ما، عادة ما يربطها بالعوامل الكبرى الفاعلة بصيرورة الأحداث ومصيرها، وبالتكوينات التاريخية المستقرة للأحداث وبالتحولات في المنظومات والعلاقات الدولية، وبالمفاهيم النظرية والتطبيقية التي تساعد على فك ألغاز التاريخ، وعلى إدراك العوامل التي أدت إلى تحقيق بعض الأهداف الاستراتيجية، وإدراك طابع الحروب العسكرية والاقتصادية والنفسية. ولكون المهمة المطروحة في هذه المقالة تسعى إلى الكشف عن نظرية تحالف الحضارات من وجهة نظر سهيل فرح، فقد سئل هذا العالم الجليل عن ذلك فقال: "الحوار باعتقادي، هو قيمة مطلقة بذاته، وهو اليوم أصبح مكسباً من مكتسبات الثقافة، والحياة السياسية السليمة والشفافة.. غير أن البعض ممن كان يرفضه بالأمس، أصبح يقدمه اليوم على أنه "الحل المثالي" لأي خلاف، أو اختلاف، أو نزاع. وبعد عقود وعقود على سيادة "الافكار الثورية" والتي كانت تعتبر الحوار مساومة وتسوية وتنازلاً، وبعد مرحلة تمجيد سلطة الحزب الواحد (ضمير الامة) والزعيم الأوحد (القائد الملهم وسبب وجود الامة)، إذا بنا ننعطف 180 درجة فيصبح الحوار مضغة تلوكها الأفواه ومشجباً تعلق عليه كل المزايا. فما العمل لتنقية الحوار من شوائبه وتطهيره من دواخله وليكون فعلاً أداة الشعوب للتفاهم والتعايش؟
فلسفة الحوار عند سهيل فرح
ولم يكتف سهيل فرح بذلك بل يقول: "يقوم الحوار بين مختلفين متعددين. فإما أن نؤمن بالحوار، وهذا يستبطن اعترافا بالتعدد والاختلاف، وإما أن نزعم بأننا متطابقون، فلا تكون لنا حاجة بالحوار. وكم زعم الكثيرون منا في الماضي أنهم يريدون قولبة البشر في قالب واحد، وكم حاولوا إكراه الناس على معتقد واحد. إلا أن حقائق الحياة هزمتهم وأولها حقيقة الاختلاف بين البشر. فالاختلاف (أو التعدد والتنوع) ليس حالة شاذة، بل هو قاعدة تكوينية شاملة، ومتحققة بداهة، في أي اجتماع إنساني، أكان على مستوى محلي أو وطني أو إقليمي أو عالمي. لذلك فإن السعي إلى إلغائه، بدعوى التوحد والمطابقة، هو سعي عقيم ينم عن سوء فهم وسوء تقدير، هذا في أحسن الأحوال. والتعايش مع الاختلاف أو التعدد ضمن الوحدة يفرض اعتماد "مشتركات" (تفاهمات استراتيجية أو توافقات وطنية) لا تنهض بدونها حياة اجتماعية أو يقوم مجتمع دولي.
وقد عمل سهيل فرح ورفاقه الروس بشكل خاص في حوار الحضارات والثقافات بين روسيا والعالم العربي والإسلامي، حيث وجدوا أنفسهم وكأنهم يفلحون ويحرثون في حقل من الألغام ومن الحدود الدامية بين الطرفين.. إن المشكلة في حد ذاتها لا تنشأ من وجود الاختلاف، ولا من وجود أنظمة لمصالح مختلفة، فهذا شأن طبيعي بين البشر، بل تنشأ من العجز عن إقامة نظام مصالح مشترك، أو من تخريب هذا النظام إن كان موجوداً.. على الحوار أن يبدأ إذن، من الاعتراف بالآخر كما هو، شريكاً مختلفاً، ومن احترام هذا الاختلاف وفهم أسبابه، واعتباره حافزاً على التكامل لا داعياً إلى الافتراق. وعليه فإن الحوار لا يدعو الآخر إلى مغادرة موقعه الطبيعي والتخلي عن تطلباته المشروعة، ولا يسعى إلى استيعابه، كما لا يسعى الى التماهي معه. إن الجهد الحواري ينصب على اكتشاف المساحة المشتركة، وبلورتها، والانطلاق منها مجدداً ومعاً في النظر إلى الأمور، ما يسمح بتحصيل خلاصات جديدة ينبني عليها تفاهم أكثر عمقاً ومواقف أكثر ايجابية.
والحوار بهذا المعنى في نظر سهيل فرح يتجاوز خطة "التقارب والتقريب"، أو سياسة "التحالف والاستيعاب"، ليدخل في مشروع "التضامن" مع شريك كامل الاعتبار والندية، من خلال اعتبار المشتركات شأناً أساسياً لكل طرف تتحقق بها مصالحه. فالتضامن (وهو صيغة عزيزة على إخواننا من أصحاب التجربة الروسية) ليس انضواء خلف طرف أو مركز (كما أيام الكومنترن)، وليس إرتباطاً بسلطة عليا آمرة (كما في الحاكمية الإلهية وولاية الفقيه)، وإنما هو تظهير وتجسيد للمشتركات وللخلافات في آن معاً، فنعمل على تنفيذ وتطوير المشتركات التي تسمح بنمونا المشترك، ويعذر بعضنا بعضاً في ما لا نتفق عليه، من دون أن يتحول الاختلاف إلى عداوة (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم- قرآن كريم). والحوار الحقيقي يتطلب من المحاور شجاعة في المراجعة ومساءلة الذات، إذ هو في معناه الأعمق قدرة على رؤية الذات من موقع الآخر، وقدرة على فهم الآخر بملاحظة اعتباراته ومعاييره الخاصة.
إن النجاح في بلورة المشترك، مع القدرة على التزامه في نظر سهيل فرح، هو عينه النجاح في إقامة "التسوية" على أساس من الوعي والقناعة... وما التسوية إلا عقد ينطوي على أخذ وعطاء وتنازلات متبادلة بالضرورة.. فالعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه السلم الأهلي في المجتمعات إنما هو في الجوهر تسويات كبرى مركبة تتطلب عناية مستمرة وحسن تدبير من قبل أصحابها مثلما تتطلب إبداعاً في تجديدها بموازاة مستجدات الحياة. والتوافقات الكبرى أو التفاهمات الاستراتيجية على المستوى العالمي هي من النوع الذي يقيم تضامناً حوارياً بين ثقافات وشعوب مختلفة..
ولم يكتف سهيل فرح بل يؤكد بإن الحوار بحاجة إلى فكر يحترم الفروق والتنوّع إلى الحقائق المجتمعية الوطنية والدولية ماهيات مركّبة ذات وجوه وأبعاد كثيرة، لا جواهر بسيطة مطلقة ذات بعد واحد.. الحوار فكر يجيد التبادل والتأليف انطلاقا من توسّط مشرِّف، من غير أن يجنح إلى دمجية كلانية تلغي المسافات والتخوم، أو يقع في تفريعية انقسامية عصبية تقطع العلائق وتعدم التواصل.
إن مجمل المفاهيم المتصلة بالحوار في نظر سهيل فرح تحملنا على الاعتقاد بأنه نهج حياة وأسلوب عيش ليس مجرد وسيلة تنتفي الحاجة إليها عند تحقيق غرض معين لذلك هو دائم متجدد يستجيب لبداهة الحياة وضرورات التواصل والإجتماع. وهو إلى ذلك موقف في غاية الإقدام والشجاعة ولا سيما أثناء صعود الغرائز والعصبيات لأنه يتجنب الهروب إلى الأمام بالتطرف أو الهروب إلى الوراء بالسلبية والانسحاب التطهري.
وفي نظر سهيل فرح لا ينجو مفهوم الحوار في بلادنا من تحريفات متنوعة تنأى به عن غايته الحقيقية فيغدو أحياناً شكلاً من أشكال النزاع البارد حين يعتبره البعض مناقشة ومجادلة (استقصاء في محاسبة الآخر ومخاصمته) أو مساجلة (مباراة ومفاخرة وسعياً إلى الغلبة)؛ كما يغدو أحيانا أخرى آلية قاصرة عقيمة حين يعتبره البعض تبادلاً لوجهات النظر بديبلوماسية ماكرة أو هدنة بين وقتين للنزاع أو إنه أفضل المتاح مؤقتاً من بين خيارات كلها سيئة.. وفي مختلف الأحوال فإن انتفاخ الذات يحول دون التواصل والتبادل أي إلى الحوار الحقيقي.
إن الحوار كما يقول سهيل فرح بحث دائم عن المشترك بانفتاح وتواضع على أساس فكرة التسوية واستناداً الى قيم التوسط والاعتدال.. أما بدائل الحوار فتعني عملياً الاستمرار في الخصام، وتحّين الفرصة للإنقضاض على الآخر مع ما يرافق ذلك من إضعاف لمقومات اي مجتمع ومن إهدار لما راكمته الحياة المدنية والعيش المشترك والتراث الإنساني العالمي.. وهذا كله يتجاوز في أثره الحاضر والراهن ليمثل اعتداء على مقومات المستقبل. إن هدف الحوار هو الافساح في المجال أمام البشر للتعرف والتعارف المتبادل كمقدمة للفهم والتفاهم المتبادل (...)، ولا يمكن للحوار أن يبنى على غير معايير الحقيقة والحرية والعدالة المقبولة دينياً وأخلاقياً لدى كل الشعوب والحضارات.
وثمة نقطة مهمة يشير إليها سهيل فرح وهي "أنه بدل فكرة الصراع والصدام والحروب الثقافية، هناك ميل لدي فئات ليست قليلة في هذا الكوكب للحوار المتكافئ واللقاء. فالقيم والمفاهيم والمبادئ والرؤى يمكن أن تنتشر داخل الثقافة الواحدة بسلام، كما أنها يمكن أن تتفاعل مع الثقافات الأخرى بالروحية نفسها. المطلوب في البداية هو تحرير الثقافات المحلية والعالمية من خطر اللاثقافة الممثل بالاستسلام للغريزة والمخدرات، والعنف، والجنس الرخيص، والإنبهار الأحمق بكل قيم الثقافة المادية الاستهلاكية. فالإنسانية، وكما يشير عن حق المفكر الروسي، إيغور بستوجف–لادا، تحقق ذاتها من خلال إقصاء خطر اللاثقافة.
ويستطرد سهيل فرح فيقول: قبل أن يفتش الإنسان عن تفادي الصدام مع الآخر عليه أن "يبحث في نفسه عن السبب الذي أدى إلى عدم إيجاد لغة من الحوار الهادئ، واللقاء الدافئ مع الآخر. علينا أن نحرر أنفسنا من خطر الإنغلاق، والتطرف، والتعصب، وأن تكون علاقتنا مع أنفسنا نقدية. فكلما كان الإنسان منفتحاً مع الآخر، كلما كانت قدرته على الحوار أقوى. وهذا ينعكس أيضاً على العلاقة بين المجتمعات والحضارات. والعلاقة بين الثقافات ليست بالضرورة علاقة دائمة ترتكز على النزاع والصدام والتناقض. داخل كل حضارة قوية أو ضعيفة، وبين كل جماعة دينية أو إثنية وبين جيران الأحياء وداخل الأسر، وفي داخل كل واحد منا المنفتح والمنغلق، المتسامح والمتعصب، الديمقراطي والمستبد، المحب والمبغض، المسالم والدموي، والكل مدعوون إعلاء الجوانب الإيجابية في ذواتهم وذات الآخرين.. فرغم أن الصراع والحروب يحتلان مساحة مهمة في العلاقة بين الأنا والآخر، فإن هناك أيضاً مساحات اخرى من التفاعل والتواصل الخلاق بين الثقافات ينبغي العمل على تطويرها.
وأخيراُ وعلى كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون على تقديم رؤية اضافية شاملة ومستوعبة لكل نظرية حوار الحضارات من وجهة نظر العالم المبدع سهيل فرح، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة على نظرية حوار الثقافات والحضارات لمفكر مبدع، ونموذج متفرد لعالم مثل سهيل فرح، ذلك الرجل العظيم الذي نذر حياته بطوله وعرضه لخدمة الثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمت من جهود.
***
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط
...........................
المراجع
1- فرح، سهيل: لقاء الثقافات أم تصادمها، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 104، 2001.
2- فرح، سهيل: الجيوبوليتيك الروسي ملامح القوة والضعف،، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 112،2003.
3- فرح، سهيل: المفكر العربي بين سلتطه و تسلطه، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، العدد 127،126، 2003.
4- فرح، سهيل: العولمة الثقافية ومصير الحضارات مقاربة أمريكية روسية، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 113، 2004.
5- فرح، سهيل: الدين والسياسة في روسيا: ( الكنيسة الأرثوذكسية والسلطة مثالاً )، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، العدد 118، 2005.
6- فرح، سهيل: نقد النقد والتواصل مع الذات والآخر، الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، مج، 20، ع، 96، 1999.
7- فرح، سهيل: الاستشراق الروسي: نشأته ومراحله التاريخية، معهد الإنماء العربي، مج،5، ع31،1983.
8- فرح، سهيل: حول التراث العربي الإسلامي: وجهة نظر فلسفية للاستشراق السوفياتي، مجلة الفكر العربي المعاصر، معهد الإنماء العربي، مج22، 20، 1982.
9- فرح، سهيل: الجيوبوليتيك الروسي ملامح القوة والضعف، شؤون الشرق الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية، ع 112، 2003.