شهادات ومذكرات
يوسف أبو الفوز: إعادة كتابة التاريخ تلفزيونياً
كنت، وبشكل مبكر في حياتي، شغوفاً بالقراءة. اقرأ بنهم شديد كل أنواع الكتب التي أعثر عليها. في تلك الأيام البعيدة، وأنا في الرابع الإعدادي، عثرت في أحد رفوف (المكتبة الحسينيّة) في مدينتي السماوة، على كتاب صغير الحجم بعنوان (قلعة الموت)، لا أتذكر حاليا اسم كاتبه، لكنني ظننت أنه قصة مغامرات بوليسية، فهناك (قلعة) حيث الأسرار، وأيضا (الموت) حيث التحديات والمطاردات! فمثل أبناء جيلي كنت مسكونا ـ وما زلت ـ بقصص أجاثا كريستي، وللمفارقة أن رواية لي صدرت عام 2022، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، في القاهرة، عنوانها (جريمة لم تكتبها اجاثا كريستي (!
مع قراءة أول الصفحات، من ذلك الكتاب، الذي ظننه قصة بوليسية، جعلتني أعيد قراءة العنوان من جديد لأفهم ان الناشر أرتكب خطأ إملائياً وأني قرأته وفهمته بشكل خاطئ، فالعنوان يجب ان يكون (قلعة آلموت)، يومها تعرفت على حسن الصباح وفرقة الحشاشين، كفرقة إسلامية باطنية، اشتهرت بتنفيذ عمليات اغتيالات شخصيات مرموقة في تلك المرحلة، وقادني ذلك الى البحث عن مصادر أخرى، لأتابع ليس هذه الفرقة وحدها، بل والعديد من الفرق والجماعات الإسلامية، التي عارضت الظلم والطغيان ودعت للعدالة الاجتماعية، وبعضها حمل السلاح بوجه الأنظمة القمعيّة.
قادني كتاب (قلعة آلموت) الى قراءة كتب اخرى في نقد الفكر الديني، عالقا منها في بالي كتاب (اليمين واليسار في الإسلام) للدكتور احمد عباس صالح، وايضا كتاب (الحركات السريَّة في الإسلام) تأليف الدكتور محمد إسماعيل، الذي اعتز كوني حاليا أملك في مكتبتي الشخصية، نسخة من طبعته الأولى، بورق أسمر مهترئ، صادرة عن دار القلم في بيروت، عام 1973، قدمها كهدية صديق فلسطيني عزيز بعدما لاحظ تعلقي بالكتاب الذي ـ كان ومازال ـ يثير في البال الكثير من الذكريات والشجون.بعد ذلك جاءت قراءات في كتب من تأليف حسين مروة وأيضا صادق جلال العظم وآخرين. وهكذا فإن ذلك الكتيب الصغير عن الحشاشين وقلعتهم الغامضة كان حافزا كبيرا لي، ومفتاحا لباب من المعرفة ربما ظل موصدا لولا عثوري عليه.
يعرض حالياً في عدة قنوات تلفزيونية، ضمن موسم شهر رمضان، مسلسل (الحشاشون) إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلاميّة المصريّة، من تأليف عبد الرحيم كمال وإخراج بيتر ميمي ويقوم بدور حسن الصباح الممثل المصري كريم عبد العزيز. لاقى المسلسل إقبالا كبيرا وآراء متعارضة في المدح والذم. وغصت وسائل التواصل الاجتماعي بالعشرات من الكتابات التي تبحث عن ثغرات في العمل، وكشف سقطات تاريخية وعدم دقة في الاحداث قد يكون وقع فيها. يعد العمل انتاجا ضخما متميزا في طريقة تصويره وبناء ديكوراته واختيار أماكن تصوير تاريخية في ثلاث قارات، حسب تصريحات مخرج العمل، في دول منها مصر، لبنان، سوريا، المغرب، مالطا وكازاخستان، حيث القلاع التاريخية. لام العديد من المتابعين صناع المسلسل على عدم الالتزام بالدقة التاريخية في الديكورات، فبعض القلاع التي تم التصوير فيها تعود الى العهد المملوكي وهي فترة لاحقة بقرون عديدة على الفترة الزمنية التي ظهر فيها الحشاشون. ولام آخرون إسناد المسلسل اسم الجماعة لاستخدامهم مخدر الحشيشة لتجنيد الاتباع، وطرحوا تفسيرات أخرى للاسم، منها اضطرارهم لأكل حشيش الارض، ليبقوا على قيد الحياة، حين حاصرتهم جيوش السلاجقة. وآخرين وجدوا في المسلسل، ما سموه، الربط التعسفي بين فرقة الحشاشين وجماعة الاخوان المسلمين، كما تريد جهات أمنية ترتبط بشركة الإنتاج. وهناك العديد من الآراء التي تشيد بالمسلسل من ناحية جهد الإنتاج والأسلوب المتميز في الإخراج ومستوى التمثيل وتجسيد الشخصيات.
المعروف ان هناك العديد من المؤلفات التي تناولت جماعة الحشاشين، كطائفة شيعية إسماعيلية نزارية باطنية، لكن اغلبها تستند الى روايات غير موثقة، ربما أشهرها وأكثرها عرضة للتشكيك، هي رواية الرحالة والتاجر الإيطالي ماركو بولو (1254ــ 1324م)، الذي يعتبر اول من كتب عنهم في القرن الثالث عشر الميلادي وأطلق لقب (شيخ الجبل) على حسن الصباح في كتابه (رحلات ماركو بولو)، ولكن روايته استندت الى السماع ولم يلتقهم ولم يزر قلعتهم، فروايته عنهم أساسا غير دقيقة وغير منصفة الى حد ما. وبما ان كتب الحركات المعارضة في تاريخ الإسلام عموما أحرقت وابيدت على يد خصومهم، كما يشير الى ذلك الدكتور محمود إسماعيل، فإن أغلب ما وصلنا عن الحركات المعارضة كان مزيفا ومشوها وفيه الكثير من الافتراءات وعدم الدقة، فالتاريخ كتبه مؤرخو الملوك ـ على حد قول منسوب لابن عربي ـ، هكذا فإن كل ما وصلنا عن الخوراج، القرامطة، المرجئة ومثلهم الحشاشون، وغيرهم من الفرق والجماعات، لم يكن دقيقا وحمل وجهات نظر القوى الحاكمة. وهذا معناه ان الحكاية التي يقدمها مسلسل "الحشاشون"، استندت الى مصادر أساساً غير دقيقة، وتحتمل الكثير من الجدل. لا يغيب عن بالي كمتابع وقارئ، بأن مسلسل "الحشاشون" التلفزيوني، ليس فيلما وثائقيا، بل يقدم قصة خيالية، تحتمل اجتهاد فريق العمل، كاتب ومخرج، في خلق شخصيات درامية واحداث تنفع في خلق التشويق لجذب المشاهدين للمتابعة، لكن خطورة الامر تكمن في ان المسلسلات التلفزيونية التي تتناول أحداثا تاريخية، تسهم في إعادة كتابة التاريخ من خلال الرؤية السياسية والطائفية لمنتج العمل أساسا والذي دفع الأموال الطائلة من اجل اهداف محددة. يترافق هذا مع هبوط عام في مستوى تداول وقراءة الكتاب في عموم الوطن العربي، حيث صارت الفضائيات هي مصدر المعلومات لدى غالبية عموم الشعوب العربية التي ترتفع فيها نسبة الأميَّة بشكل مخيف، من هنا فإن ما يقدمه التلفزيون من قراءات للتاريخ تكون هي المرجع لدى الكثير من المشاهدين، ولا يخرج مسلسل "الحشاشون" عن هذا المنحى.
في البال ما حصل قبل سنوات ليست بعيدة، حين وجدت نفسي طرفا في نقاش حول شخصية صلاح الدين الايوبي. في روايتي (تحت سماء القطب) صدرت عام 2010 عن دار موكرياني في أربيل، إحدى شخصيات الرواية، وهو مدرس تاريخ، عرض صلاح الدين كونه قائدا إسلاميا، طائفيا، ورجال مخابراته (البصاصين) يحصون أنفاس معارضيه، الذين غصت بهم سجونه، وأحرق المكتبة الفاطمية في مصر، تحديداً مكتبة دار الحكمة التي تحوي أمهات الكتب وعشرات الوثائق والمخطوطات المهمة، وأيضا أمر بقتل المفكر أبو الفتوح السُّهْرَوَرْدي، بناء على مطالبة فقهاء حلب الذين وجدوه يفكر بشكل مختلف فاِتّهموه بتبني أفكار القرامطة، وكان العالم الزاهد تبنى مذهب الإشراق الذي يقوم في جملته على أن مصدر الكون هو النور، محاولاً تفسير الوجود ونشأة الكون والإنسان. يذكر أن السُّهْرَوَرْدي القتيل، إسماعيلي العقيدة، وكان في شبابه داعية للفرقة النزارية، مثل حسن الصباح، الذي فشلت محاولته لاغتيال صلاح الدين الايوبي قرب مدينة حلب وتمكن فدائيوه من قتل العديد من الأمراء، ولكن صلاح الدين نفسه لم يصب سوى بجروح بسيطة بفضل الدروع التي كان يرتديها. في ذلك النقاش، عن صلاح الدين الايوبي، اعترض على وجهات نظري أحد الحاضرين، وحين سألته عن مصدر معلوماته، قال بثقة: المسلسل التلفزيوني!
***
يوسف أبو الفوز – أديب وكاتب