شهادات ومذكرات
علي عمرون: هيباتيا الفيلسوفة.. عاشقة الحرية والحقيقة
في البدء كانت هناك امرأة فيلسوفة في الإسكندرية
كانت هناك في الإسكندرية بمصر فيلسوفة اسمها هيباتيا. وفي اللغة اليونانية التي كانت تتداول في ذلك الوقت كان هذا الاسم يوحي بـ "التفوق" و"الذكاء" فكل المعرفة المتاحة للروح البشرية، تجمعت في هذه المرأة ذات البلاغة الساحرة لقد انفردت بفصاحة اللسان وقوة البيان وبخيال خصب مبدع وذكاء لا حدود له، كانت فيلسوفة نافذة الجمال، باذخة الحضور، متوقدة العبقرية، ذات مكانة وحظوة، تقول ما هو ممنوع وتدخل مناطق الالتباس المسكوت عنها في المجتمع المتخفي وراء الدين والمتسربل في مصالحه، كانت تدرس فلسفة افلاطون وارسطو وسائر العلوم مدفوعة بسحرها الانثوي الذي جمع بين جمال الجسد وسكينة الروح وبشجاعة يفتقر اليها الكثير من الرجال في عصرنا ارتدت التربون (τρίβων) - وهو مصطلح كان يشير إلى الثوب البارز للفيلسوف- وقفت في وجه الغباء لتغرس في عقول تلامذتها واتباعها ان لا سلطة على العقل الا العقل فكانت بحق رائدة فلسفة التنوير لقد كانت عاشقة للحرية وباحثة عن الحقيقة في عصر التعصب الديني.
هيباتيا في لوحة مدرسة أثينا كانت هي الأنثى (المرأة) الوحيدة بين الفلاسفة الذكور حيث أراد الرسام الايطالي رفائیل تخليدها، فصورها تلبس لباسا أبيضا بهيا، وترسل شعرها الطويل وبعينين جميلتين وابتسامة حزينة تقف هيباتيا في مقدمة اللوحة وهي في حالة تأمل. وتقديرا لمكانتها الفلسفية والعلمية جسدت الممثلة (راشيل وايز) شخصية هيباتيا في فيلم (Agora) أغوارا، باقتدار خاصة مشهد نهب وإحراق السيرابيوم ومكتبته الرائعة. فهيباتيا القوية التي تواجه الرجال بشجاعة في المجامع العلمية، رأيناها تبكي بمرارة وانكسار وهي تحمل ما استطاعت إنقاذه من الكتب المنهوبة والمحروقة وسارت في حزن. قال عنها كارل ساغان مؤلف كتاب «الكون»: «إن هيباتيا هي آخر بريق الشعاع العلم من جامعة الإسكندرية القديمة » كانت تعالج الكثير من المواضيع الشائكة بروح سقراطية وتثير الأسئلة المعقدة مثل: من أنا؟ ومن نكون؟ وما الخير؟ وما الشر؟ وبنظرة ابستمية كانت تضع النظريات العلمية على طاولة النقد.
عاشت هيباتيا وعملت وتوفيت في الإسكندرية، وهي مدينة تمتعت بواحد من أفضل المواقع الطبيعية في البحر الأبيض المتوسط، وضمت أحد أكبر تجمعات السكان وأكثرها تنوعاً في العالم. كانت الإسكندرية مركزاً دينيا للمسيحيين والوثنيين واليهود، ومركزاً ثقافيا للمثقفين اليونانيين، وموطناً للعمل العلمي الأكثر تقدماً في العالم القديم وفي العالم الحديث.
كانت الإسكندرية في بداية القرن الخامس ميلادي، تمثل نموذجا للمدينة التي يمكن من خلالها بلوغ السعادة، أسسها الإسكندر الأكبر عام 331 قبل الميلاد، على قمة سلسلة من التلال الجيرية التي ميزت المكان الذي تلتقي فيه دلتا النيل والبحر الأبيض المتوسط والصحراء. فكانت الإسكندرية محمية من العواصف البحرية بجزيرة صخرية شُيدت فيها لاحقاً منارة الإسكندرية إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم وتشتهر بمتحفها - وهو مكان غير عادي للثقافة مخصص للعلوم والفنون والمكتبة الضخمة، الغنية بمئات الآلاف من المجلدات، والمعابد العظيمة، كانت عاصمة مصر. كمدينة للإمبراطورية الرومانية الشرقية، كان يحكمها محافظ يعينه إمبراطور القسطنطينية.
غرست الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي في عقول مواطنيها في ذلك العصر وهما معقدا؛ إذ شُجع الناس على الإيمان بأن الدولة التي يعيشون في كنفها والأشخاص الذين يديرونها يتمتعون بقوة لا قبل للناس العاديين بها. وتواطأ المسؤولون الإمبراطوريون، والنخب المحلية، وزعماء الكنيسة، والضباط العسكريون على إدارة مدن الإمبراطورية من خلال مجموعة من التهديدات والمكافآت والعلاقات الشخصية التي أخفت مدى عدم استقرار قبضتهم على النظام العام. وعززت التفاصيل الصغيرة وهم سيطرة النخبة. فعضو مجلس المدينة الغني الذي يساعد في ترتيب حفل زفاف عميل والحاكم الذي يعفو عن مجرم محكوم عليه بالإعدام، والأسقف الذي يطعم العمال المهاجرين من جوع، إنما يسعون – كل بطريقته - لبناء علاقات شخصية. في هذا الجو السياسي المشحون بالتوتر والذي يتغذى من التعصب الديني عاشت وقتلت هيباتيا الإسكندرية.
الطفولة والتربية والتعليم
ولدت هيباتيا في الإسكندرية للفيلسوف وعالم الرياضيات ثيون Theon وزوجته نحو عام 355. ومع أن ثيون يعد أحد أفضل المفكرين المشهود لهم في منتصف القرن الرابع للميلاد، فإن المصادر تصمت صمتاً مطبقاً عن والدة هيباتيا. ومع ذلك فمن الممكن أن تكون منحدرة من عائلة من المثقفين؛ إذ عُقدت في الفترة التي تزوج فيه والدا هيباتيا زيجات عدة أخرى اقترن فيها فلاسفة وأساتذة خطابة ببنات زملائهم من ذلك أن الفيلسوف ثامسطيوس Themistius تزوج ابنة فيلسوف آخر في أربعينيات القرن الرابع الميلادي، مثلما تزوج أستاذ الخطابة هيمريوس Himerius امرأة تنحدر من عائلة أثينية عريقة مثقفة في الفترة نفسها تقريباً. وغالباً ما كان الصبيان الناتجون عن هذه الأنواع من الزيجات يُربَّون بطرائق تهيئهم للاشتغال بالمهن الفكرية التي أصبحت أعمالاً عائلية يُديرونها بينهم. وهذا ليس مفاجئاً، بيد أن بنات المثقفين احتجن إلى التعليم كذلك. وبعض هؤلاء الشابات تدربن ليصبحن معلمات أيضاً، ولكن حتى لو كانت بنت المثقف لا ترغب في التدريس، فإنها لا تزال بحاجة إلى التدريب الكافي لإدارة تعليم أطفالها و لا يمكن تحديد مقدار التعليم الذي تلقته والدة هيباتيا، ولكن من الواضح أن ثيون وزوجته ربيا هيباتيا لتكون شابة متعلمة في الرياضيات والفلسفة.
كان تعليم النخبة في القرن الرابع عملية متعددة المراحل؛ إذ يبدأ في البيت بمقدمة أساسية لأنماط الكلام المناسبة، يليها تحليل القصص الخالدة التي تلقن دروساً حول السلوك المناسب. ويعود جانب كبير من هذا التدريب الأولي إلى المرضعات اللواتي تستأجرهن العائلات لرعاية الأطفال حتى بلوغهم سن السادسة أو السابعة. وعندما تبلغ الفتاة ذات الحظوة السابعة، غالباً ما تشرع في دراسة اللغة وقواعد السلوك الأساسي التي من شأنها أن تجعلها عضواً منتمياً إلى النخبة. في سن المراهقة المبكرة، تنتقل الفتاة إلى التدريب النحوي. ويُركز خلاله على التمارين التي تساعدها على تعلم القواعد النحوية الصحيحة، وتطوير المهارات للتعبير عن نفسها بطلاقة، وإتقان المحتوى الأساسي لبعض النصوص الأدبية الأكثر شهرة في العصر القديم. كان لهذا التدريب أهمية مضاعفة لأن اللغة الإغريقية التي من المتوقع أن تستعملها النخب المصرية في الكتابة، تختلف عما يتحدث به معظم الناس. وعلى الرغم من مرور ما يقرب من 700 عام على زمن أفلاطون، ظلت اللغة الإغريقية الأدبية كما هي تقريباً عبر تلك القرون، فيما تطورت اللغة المنطوقة تطوراً كبيراً. وكان الحديث بالإغريقية في الفترة الكلاسيكية يجري بلهجة تختلف عن إغريقية القرن الرابع الميلادي، وهو تغيير في النطق جعل من الصعب على المتحدثين اليونانيين المتأخرين من الرومان فهم الأوزان الشعرية اليونانية الكلاسيكية وحتى الكثير من المفردات. [وهذا يعني أنه حتى المتحدث الذي لغته الأم هي الإغريقية، مثل هيباتيا، كان عليه أن يتعلم هذه اللغة الإغريقية الأدبية.
مع تقدم الفتاة في تدريبها، تبدأ في العمل على تمارين تسمى بروجيمناسماتا. وتدفعها هذه التمارين إلى الاستفاضة في دراسة القصص المعروفة والأقوال المؤثرة لشخصيات تاريخية مشهورة مثل ديوجانس الكلبي Diogenes the Cynic أو إيسقراط Isocrates، وتحديد الموضوعات باستخدام المهارات اللغوية التي اكتسبتها سابقاً. كل هذا ساعدها في تطوير مهارات الكتابة والقراءة، ولكن التدريب كان كذلك بمنزلة تربية أخلاقية. فقد اختيرت النصوص التي تقرأ والقصص التي تحلل والشخصيات التاريخية التي تناقش لأنها تساعد أعضاء النخبة الشباب على فهم أنماط السلوك المناسبة. تفصل تمارين البروجيمناسماتا التدريب النحوي عن التدريس في مدارس الخطابة. وفي سن المراهقة المبكرة، تنتقل الطالبة من التدريب النحوي إلى التدريب الخطابي.
تعليم هيباتيا
من الممكن أن تكون هيباتيا قد انتقلت مباشرة من تعلم اللغة في المنزل على يدي مدرس إلى مدرسة والدها. وإذا صح ذلك، فربما لم تترك هيباتيا دائرة اتباع ثيون كان بإمكانها أداء تدريبها النحوي هناك في فصل دراسي مع الفتيان وربما مع فتيات أخريات، وربما حدث ذلك تحت إشراف أحد مساعدي ثيون من المدرسين. ومن غير الواضح إذا ما كانت قد أجرت أي تدريب رسمي في الخطابة، ولكنها إن فعلت ذلك، فقد يكون هذا في مدرسة ثيون كذلك أو على الأرجح، في مدرسة الخطباء الذين كانت لهم علاقة بمدرسة ثيون. ومن المحتمل أنها بدأت دراسة الفلسفة تحت إشراف والدها عندما كانت في أواخر سن المراهقة أو أوائل العشرينيات من عمرها. حتى وإن كانت الرياضيات والتعليم الفلسفي مختلفين أشد الاختلاف في بيئة الجامعة الحديثة، فقد كانا مترابطين في العصر القديم. وفي معظم الأحيان درس الفلاسفة الأفلاطونيون الرياضيات بصفتها وحدة تمهيدية مصممة لإعداد الطلاب الدراسة فلسفتي أرسطو وأفلاطون، ولكن مدرسة ثيون ركزت تركيزاً أكبر على الرياضيات عندما كانت هيباتيا طالبة. ولقد تضمن تدريبها القراءة المنهجية لمجموعة من النصوص الرياضية المنظمة خصيصاً لتنمية مهارات رياضية أكثر تعقيداً بشكل متزايد. ولا يوجد عمل باق يحدد المنهج الدقيق الذي كانت تتبعه، لكن مناهج القرن السادس لدراسة الفلسفة والطب تعطينا فكرة عن كيفية تنظيمها. فقد كان طلاب الفلسفة يدرسون من خلال منهج يتألف من «أورغانون» أرسطو متبوعاً بسلسلة من المحاورات الأفلاطونية التي تقرأ بترتيب معين، والمصممة لمساعدتهم على تطوير مجموعة من الفضائل الفلسفية.
لم تكتف هيباتيا بالتدريب الرياضي الاعتيادي فحسب، بل سرعان ما أثبتت أنها أقدر من والدها وطورت كفاءات تفوق قدراته. وفي مرحلة من المراحل، انتقلت هيباتيا من كونها طالبة رياضيات في مدرسة والدها إلى واحدة من زملائه في العالم الحديث، يُحَدَّدُ هذا النوع من الانتقال بوضوح؛ إذ يصبح الطلاب رسميا زملاء لأساتذتهم عندما يكملون أطروحاتهم، وهي أعمال أصلية مهمة في البحث العلمي تبرز إبداعهم الفكري وإتقانهم العلمي للمجال الذي يختارونه. وربما يكون العمل التحريري لهيباتيا للجداول اليدوية قد خصص لدعم تعليق والدها. ولعله بذلك يمثل أحد مشروعاتها المبكرة. ولئن كان من المحتمل أن تكون هيباتيا قد تعاونت مع ثيون عند إعداد نسختها من الجداول اليدوية، يبدو أن مشروعاً تحريريا آخر هو أول منشور لها. ففي عنوان الكتاب الثالث من شرح ثيون المتكون من ثلاثة عشر كتاباً لكتاب المجسطي لبطليموس، كتب أن هذا هو شرح ثيون الإسكندري لكتاب المجسطي الثالث لبطليموس، وهي نسخة راجعتها ابنتي هيباتيا، الفيلسوفة. ويرى آلان كاميرون مؤخراً أن هذه الإشارة تعني أنه بدءاً من الكتاب الثالث من شرحه، كان ثيون يعلق على نسخة هيباتيا لنص المجسطي» لبطليموس. وهكذا فمن الممكن أن تكون نصوص الكتب العشرة اللاحقة التي استخدمها ثيون من كتاب «المجسطي»، من تحرير هيباتيا كذلك. هذا هو الأرجح لأن طريقة القسمة المطولة المستخدمة في الكتب من الثالث إلى الثالث عشر تختلف عن تلك الموجودة في الكتاب الثاني. وعلى عكس عمل هيباتيا اللاحق، فإنه يمكن وضع نسختها بالترتيب الزمني جنباً إلى جنب مع مشروع ثيون المستمر. ومن الواضح أنها بدأت ذلك بعد أن شرع ثيون في كتابة تعليقه على المجسطي، ولكن قبل أن يتمه. ويشير هذا إلى أن هيباتيا لعلها اكتسبت أولاً المهارات الفنية اللازمة للقيام بهذا العمل بينما كان ثيون في خضم مشروع. إن صح ذلك، فإن نص الكتب من الثالث إلى الثالث عشر من «المجسطي» الذي بين أيدينا الآن قد يكون مكافئاً لأطروحة هيباتيا.
مدرسة هيباتيا
قبل أن تبلغ هيباتيا عتبة الثلاثين من عمرها، كانت قد أثبتت نفسها بالفعل بوصفها قوة فكرية هائلة في الإسكندرية. فقد دربها أبوها ثيون الذي لعله كان أهم عالم رياضيات في جيله، وعملت تحت إشرافه في تحرير نصوص بطليموس الرياضية. وكانت أفضل طالبة عنده، وتميزت عند المؤسسة الفكرية الإسكندرية بصفتها أفضل عالمة رياضيات واعدة في المدينة. ومع ذلك، فقد اكتسبت أيضاً فهماً متطوراً للاتجاهات المعاصرة في الفلسفة انطبق هذا على علماء رياضيات إسكندريين آخرين في القرن الرابع، ولكن يبدو أن هيباتيا، على عكس والدها، رأت في الفلسفة طريقة أفضل وأكثر شمولاً لفهم الحقيقة وقبل هيباتيا يبدو أن فلاسفة الإسكندرية في القرن الرابع كانوا شخصيات ثانوية وذوي تأثير
باهت مقارنة بعلماء الرياضيات المهمين الذين تسلّموا ما كان يُطلق عليه أحياناً «العصر الفضي» للرياضيات القديمة. وبفضل قدراتها الرياضية التي لا مراء فيها، أمكن لاحتضان هيباتيا الفلسفة تحويل التوازن الفكري في المدينة من توازن قائم على تفضيل علماء الرياضيات إلى آخر تُفضَّل فيه أفكار الفلاسفة. للقيام بذلك، احتاجت هيباتيا إلى تعليم الطلاب الجمع بين الصرامة الرياضية المميزة لتدريس علماء الرياضيات الإسكندريين في القرن الرابع، مثل بابوس وثيون، وبين النظام الفلسفي للأفلاطونيين المحدثين أفلوطين وفرفوريوس ولم يشك أحد في أن هيباتيا تمتلك الموهبة الفكرية اللازمة، لكنها كانت بحاجة إلى هيكل مؤسسي للقيام بهذا النوع من التدريس. وقد وفرت مدرسة والدها لها ذلك؛ إذ أوكل ثيون دور المعلم الأساسي إلى هيباتيا في وقت ما في أوائل ثمانينيات القرن الرابع أو منتصفها. ويبدو أن هذا التحول كان تدريجيا، إذ آل ثيون ببطء إلى نوع من الأستاذية الفخرية. فكان قريباً من الحرم المدرسي، لكنه لم يكن يؤدي مسؤوليات تعليمية منتظمة. ومع أننا لا نعرف على وجه الدقة، عمر ثيون عندما تولت هيباتيا إدارة المدرسة في ثمانينيات القرن الرابع، يبدو من غير المحتمل أنه كان قد تجاوز سن الخامسة والخمسين في ذلك الوقت. وهذا سيجعله أصغر أستاذ معروف اختار أن يصبح فخريا. ومع أنه من الممكن بطبيعة الحال أن يكون ثيون قد تقاعد بسبب مرض تعافى منه لاحقاً، إلا أن هناك احتمالاً أكثر إثارة للاهتمام وأشد ترجيحاً. فربما تبين لثيون وحسب أنه يمكن لهيباتيا أن تقدم تعليماً أكثر ابتكاراً وشمولاً للرياضيات وعلم الفلك والفلسفة منه. إذا كان هذا صحيحاً، فقد تنحى ثيون جانباً لمجرد أن هيباتيا كانت أفضل منه. ونظراً إلى عمر ثيون في ذلك الوقت، ربما تكون هيباتيا قد تحملت مسؤولية إدارة التعليم المقدم في المدرسة، في حين ظل ثيون المعلم المسؤول المعترف به قانوناً حتى بلغ الستين من العمر. وسمح هذا الترتيب لثيون بالاستمرار في المطالبة بالإعفاء الأكاديمي من الالتزامات المالية لمجلس المدينة الذي كان يحميه طوال العقود القليلة الماضية. وبصفتها امرأة، لم تكن هيباتيا مؤهلة لخدمة المجلس، وكان سيتم إعفاؤها من أي من الالتزامات المالية المرتبطة بممتلكات عائلتها ما دام ثيون على قيد الحياة. وعندما بلغ ثيون الستين من عمره، أصبح كبيراً على خدمة المجلس، وهو ما يعني أن ليس له ولا لهيباتيا التمتع بالإعفاء الذي يتمتع به الأستاذ. ويشير هذا إلى أن هيباتيا أصبحت المديرة الفعلية للمدرسة في ثمانينيات القرن الرابع ورئيستها الصورية في مرحلة ما في التسعينيات على أبعد تقدير.
تدريس هيباتيا
ما الذي إذن، يوجب علينا النظر إلى هيباتيا بوصفها فيلسوفة كبيرة؟ تجيب ليسا وايتنغ (Lisa Whiting) من المتعين علينا، لكي نجيب عن هذا السؤال، أن ننظر إلى مادتها التدريسية، فلقد تألقت في هذه الباب، كأحسن ما يكون التألق، إذ تشهد كثرة من المصادر التاريخية على رواج محاضراتها الفلسفية التي لم يكن يؤمها الطلبة المتحمسون وحسب، وإنما القادة السياسيون أيضاً. ليس هذا فحسب، فقد دأب أحد تلامذتها المعجبين بفلسفتها أيما إعجاب؛ وهو سينيسيوس القيرواني، أن يُعنون رسائله لها بـ «إلى الفيلسوفة»، دون أن يضيف إلى ذلك صفة أخرى تزاحمها. وكتب في واحدة من الرسائل إلى أحد أصدقائه يقول بأنَّ: هيباتيا كانت شخصاً ذائع الصيت، طارت شهرتها في الآفاق حقًا وصدقاً. فقد رأينا بأم أعيننا وسمعنا بآذاننا تلك الفيلسوفة التي تربعت بشرف على أسرار الفلسفة. كما دأب سينيسيوس على إرسال الشبان مسافات طويلة ليتتلمذوا على يد هيباتيا.
بدأت المدرسة في تقديم تعليم أشمل كثيراً يتمثل في تدريس أفلاطون وأرسطو وفلاسفة آخرين تحت إشراف هيباتيا. ولقد كانت الفلسفة، في أبسط أشكالها، نظاماً مصمما لغرس فضائل معينة في الفرد. وإذا تم القيام بالتعليم الفلسفي بشكل صحيح، فإنه يخلق روحاً متسقة تمكن الفيلسوف من تكوين علاقة وثيقة مع الإله. كانت الأفكار اللاهوتية مثل تلك التي طورها
شراح محاورة «طيماوس الأفلاطون، تقع في ذروتها، ولكن الهرم الذي كانت تعلوه كان واسعاً جدا في قاعدته. ومنذ زمن أفلوطين على الأقل، كان هناك شعور ناشئ بين الأفلاطونيين بأن الفضائل الفلسفية وجدت في أشكال مختلفة اعتماداً على مستوى تطور الروح الفردية. وتطور ذلك بحلول القرن الخامس نحو مجال من الفضائل الفلسفية التي وجهت تقدم الفيلسوف من الفضائل الفيزيائية الأساسية إلى تلك المرتبطة بالفهم الخالص للإله. ويقوم هذا التعليم على اتباع منهج قائم على النصوص يتطلب من الطالب إجراء قراءات دقيقة للنصوص الفلسفية - في المقام الأول نصوص أفلاطون وأرسطو – وقد كان طلبة هيباتيا يظلون في المدرسة نفسها ليتلقى دروساً في الرياضيات وعلم الفلك والمنطق الأرسطي واللاهوت الأفلاطوني. وهذا من شأنه أن يسمح للطالب أو الطالبة بتقدير الترابط بين حقلي الرياضيات والفلسفة تقديراً أوضح. لا يمكن لنا إعادة بناء المنهج الدراسي الذي اعتمدته هيباتيا إلا على نحو تقريبي غير دقيق، ولكن من الواضح أنها قدمت لطلبتها تدريباً شاملاً ومتطوراً. ويشير عملها الرياضي الخاص إلى أنها اقتفت أثر ثيون عند وضع منهج الرياضيات. وتظهر النصوص الفلسفية التي قرأها طلابها أن تدريسها في هذا المجال جمع بين مناقشة النصوص الفلسفية المعتمدة وكثير من تقاليد الشروح الأحدث التي تطورت حولها. وقد تبادل طلابها نسخاً من الشروح الفلسفية التي كتبها الشارح الأرسطي الإسكندر الأفروديسي Alexander of Aphrodisias، الذي عاش في أوائل القرن
الثالث الميلادي، مما ساعدهم على صياغة فهم أفلاطوني لعمل أرسطو وقد أضحوا متعودين على المفاهيم الفيثاغورية، ولم تفاجئهم طريقة اهتمام هيباتيا بمزج الرياضيات بالفلسفة. وكان طلابها مطلعين أيضاً على كتاب «حياة أفلوطين»، وهو نص كتبه فرفوريوس أحد تلاميذ أفلوطين نحو عام 300 للميلاد، ليكون مقدمة لنسخته منىمجموعة أعمال معلمه. وبما أن كتاب حياة أفلوطين جرى تداوله جنباً إلى جنب مع مجموعة كتب أفلوطين فهذا يشير بقوة إلى أن طلاب هيباتيا كانوا يقرؤون تاسوعات أفلوطين أيضاً.
اغتيال هيباتيا (الغيرة القاتلة)
لاشك ان السبب الأول لاغتيال هيباتيا هو الحسد والغيرة فقد كانت تتمتع بذكاء سياسي حاد، وكانت تجمع بين الموهبة الجدلية في المناقشة والاعتدال في الحكم. وكان تسامحها الفكري سبباً في جعلها محايدة، وفوق كل هذا، كان صراحتها أمام الأقوياء سبباً في منحها القدرة على الوساطة، وبفضل ذلك كانت تحظى بالاهتمام والحب من قِبَل مختلف فئات المواطنين الذين كانوا يتنازعون على السلطة في المدينة. وحتى الحكام كانوا يطلبون مشورتها وكانوا "أول من يذهب للاستماع إليها في منزلها.[...] كانت فصيحة وبلاغية (διαλεκτική) في حديثها، ومدروسة، وذات حس قوي بالمواطنة (πολιτική) في تصرفاتها، حتى أن المدينة كلها أعجبت بها وكرمتها بصدق. وكان الزعماء السياسيون الذين جاءوا لإدارة المدينة أول من ذهب واستمعوا إليها في منزلها، لكن هذا التقدير لم يكن محل اعجاب رجال الدين المتعصبين فمنذ أن أعلن الإمبراطور ثيودوسيوس الأول أن المسيحية هي الديانة الوحيدة للإمبراطورية، ترسخت السلطة الكنسية في المدن وكانت تخنق ما تبقى من الوثنية. حيث اتبع كل من رجال الدين والرهبان في الصحاري المحيطة وأولئك الذين يطلق عليهم اسم Parabolans - خدام الكنيسة الذين عملوا أيضا كحراس لها - إملاءات الأسقف، وفي أوقات الصراع لم يترددوا في إطلاق العنان لأعمال الشغب العنيفة لإظهار قوتهم وتدمير معابد الكفار وإسكات أصواتهم. في عام 391 نهبوا وأحرقوا السيرابيوم ومكتبته الرائعة. تم تحويل معبد سيرابيس، الذي كان شعارا مجيدا للمدينة لعدة قرون، إلى كنيسة مسيحية، وهو نفس المصير الذي حل بالمعبد القيصري، وهو معبد قديم مخصص لعبادة الإمبراطور. أولئك الذين رفضوا التحول إلى العقيدة السائدة عانوا من الحصار المسيحي. أدت سدى محاولات استدعاء البلاط الإمبراطوري في القسطنطينية للإنقاذ، والتي لم تتمكن من كبح تجاوزات المتعصبين، مقسمة بسبب المؤامرات، باءت عبثا.
لقد عادت ميليشيا الرهبان الذين دمروا السرابيوم لإرهاب المدينة تحت أسقفية ابن شقيق ثيوفيلس والقديس المستقبلي كيرلس، "الذي طبعت عليه الطبيعة نفس علامة التعصب". الرهبان الأميين في كثير من الأحيان الذين جندهم الأسقف، عصابات من الرجال العنيفين، الذين سافروا من مدينة إلى أخرى، ممتلئين بالكراهية الاجتماعية ليس فقط ضد الوثنيين، ولكن أيضًا ضد العالم المتحضر ككل وضد سكان المدن الكبرى. في نهاية عام 412، أي بعد مرور مائة عام تقريباً على إعلان مرسوم قسطنطين، تولى كيرلس خلافة ثيوفيلوس في رئاسة أعظم مدينة مسيحية في الشرق. وكانت أسقفيته تتناقض تناقضاً تاماً مع مبدأ التسامح المجرد الذي اقترحه ذلك المرسوم، فضلاً عن النزعة التوفيقية المسيحية تجاه الوثنية النخبوية، والتي كان قسطنطين يدعمها سياسياً ويقرها قانونياً.
اللعبة السياسية التي شهدتها الإسكندرية حيث واجهت هذه القوى الكوادر الكنسية المسيحية الجديدة، كان لها عنصر ثالث يلعب دوراً: العنصر اليهودي. فقد كانت هذه المجموعة من جماعات الضغط المهيمنة قبل ظهور جماعات الضغط المسيحية، ثم تحولت إلى مجموعة ضغط منافسة.
في واقع الأمر، كانت هذه اللعبة عبارة عن لعبة قوة ثلاثية بين النخبة الوثنية القديمة، القريبة من ممثلي الحكومة الإمبراطورية؛ والمسؤولين المسيحيين الذين أرادوا أن يحلوا محلها؛ والمجتمع اليهودي الغني والمؤثر. وكان أول عمل قامت به أسقفية كيرلس هو مذبحة معادية لليهود، والتي سبقت الهجوم المخطط له إلى حد ما على المؤسسة الوثنية، والتي تجسدت في هيباتيا.
وقد قُدِّمت حكاية اغتيال هيباتيا على النحو التالي: في ذلك الوقت، كان العرش البطريركي للإسكندرية يشغله رجل متسلط وعنيف، [كان] يغلي بالاستياء من تفوق السلطة الرومانية عليه. ويتابع ديدرو بهدوء: "أصبحت هيباتيا هدفه: لم يستطع البطريرك أن يغفر لها الروابط الوثيقة مع الوالي، ولا ربما الاحترام الذي أظهرته لها المؤسسة". وبالتالي، فإن كيرلس، "مدفوعًا بحماس خبيث لدينه، أو بالأحرى بدافع مؤلم لزيادة سلطته في الإسكندرية"، لم يتردد في "تشجيع الناس ذوي الميول الطبيعية للثورة".
كان هناك رجل يدعى بطرس، قارئ في كنيسة الإسكندرية، وهو واحد من هؤلاء الخدم القذرين الذين يحيطون دائمًا بالأقوياء وينتظرون بفارغ الصبر لاغتنام الفرصة بسعادة لارتكاب بعض الجرائم الكبرى من أجل إرضاء رئيسهم. كان بطرس متعصباً، ولكن في هذه الحالة، كان التعصب الذي استحوذ عليه هو في المقام الأول خدمة راعيه، وهذا ما دفعه إلى "تحريض حشد من الأشرار" وتولي قيادتهم. فقد "انتظر حشد الرهبان المتعصبين هيباتيا على عتبة منزلها، وألقوا بأنفسهم عليها وهي على وشك الدخول، واستولوا عليها، وجروها إلى الكنيسة المسماة قيصريوم، وجردوها من ملابسها، وذبحوها، وقطعوا أوصالها، وأحرقوها".
كان موت هيباتيا صادماً ومخيفاً للغاية إلى درجة أنها سرعان ما أصبحت رمزاً لزمن أقدم وأكثر فاعلية بدا كأنه يتلاشى في أوائل القرن الخامس الميلادي. وعلى مدى الـ 1600 عام التي أعقبت ذلك، تولت مجموعة كبيرة من المؤلفين والشعراء والرسامين وصانعي الأفلام والعلماء إما الاحتفاء بهيباتيا وبالعصر الذي أصبحت تمثله، وإما إدانتهما. فمنهم من شهر بها على أنها ساحرة، ومنهم من صنفها على أنها أيقونة نسوية، وعدها بعضهم شهيدة. واستخدم موتها رمزاً الفساد الكنيسة الإسكندرية ونهاية العقلانية اليونانية وبروز الأصولية الدينية.
ولعل لاسم هيباتيا في أيامنا الراهنة صدى أكبر من أي وقت مضى. فوفقاً لبيانات بحث غوغل، تُعد هيباتيا أشهر فيلسوفة أفلاطونية محدثة في العالم وخامس أشهر فيلسوفة يونانية على الإطلاق؛ بعد أفلاطون وسقراط وأرسطو وفيثاغورس. وهي اليوم أشهر من كيرلس، الذي يُعرف بصفته أحد اللاهوتيين البارزين في كنائس الكاثوليك، والروم الأرثوذكس، والأقباط، والسريان.
بعد قرن ونصف من الزمان، رأى أول عمل مخصص بالكامل للدفاع عن هيباتيا النور، متقدماً على فرنسا وإيطاليا، في بريطانيا، حيث خصص لها "المفكر الحر" جون تولاند في عام 1720 مقالاً بعنوان "هيباتيا؛ أو تاريخ سيدة جميلة للغاية، وأكثر فضيلة، وأكثر علماً، وأكثر براعة في كل شيء"؛ والتي مزقها رجال الدين في الإسكندرية لإرضاء كبرياء وتقليد وقسوة رئيس أساقفتهم كيرلس، الذي يُلقب عادة ولكن دون استحقاق بالقديس كيرلس.
***
علي عمرون – تخصص فلسفة