شهادات ومذكرات
صالح الطائي: علي العرار شاب واعد من مدينة التاريخ
المدينة التي أقصدها هي واسط الخير والمحبة والتسامح، والشاب الذي أقصده هو الأستاذ علي العرار أحد أبناء مدينة الكوت مركز محافظة واسط.
على عرار شاب في مقتبل العمر ينماز عن غيره من الشباب بأنه قارئ نهم ومثقف جاد وأديب مغمور، والأخيرة صفة جديدة اكتشفتها به عن طريق المصادفة واستوقفتني، بل دفعتني لأكتب هذا الموضوع رغم كثرة أشغالي، لأني أعرف أن سأكتب عن شاب مبدع أمامه مستقبل واعد إذا ما أتيحت له الفرصة ووجد الدعم، وهذا ما لا يعرفه الكثير من أهل المدينة عنه، ربما لأنه انتشر على مستوى الأفق خارج المدينة، حالة حال الكثير من الشباب المبدعين الذي لا يجدون من يأخذ بأيديهم ويدعمهم ويقدم لهم ـ لا أقول المساعدة ـ بل استحقاقهم علينا وعلى واسط والكوت، وعلى الحكومة المحلية بديوانها ومجلس محافظتها.
تعرفت عليه منذ عدة سنوات، وجمعتني به عدة جلسات في شارع دجلة الثقافي؛ الذي عجزت المدينة عن الحفاظ عليه بالرغم من أنه كان رئة الثقافة الواسطية التي استقطبت الزوار حتى من المحافظات المجاورة، فضاع الشارع مثل غيره من بوادر العطاء التي كنا نأمل أن تستمر فاعلة لتنهض بالواقع الثقافي في المحافظة، وقد لفت انتباهي بطروحاته الجادة وكثافة معلوماته ورصانتها.
فضلا عن ذلك كنت ولا زلت أتابع باهتمام بالغ مواضيعه المتنوعة والهادفة التي ينشرها على صفحته في الفيسبوك، وهي بالتأكيد تختلف كثيرا عن صفحات أقرانه الشباب لأنها صفحة جادة مثمرة ومواضيعها علمية نافعة شيقة.
الذي اكتشفته لاحقا بهذا الشاب الواعد أنه أديب وسارد مميز يكتب قصصا وروايات، لا أدري إن كان ينشرها أم يحتفظ بها في دواليب النسيان، ربما لأنه لا يملك كلفة نشر كتاب، لكن الذي أعرفه عنه أنه فاز مؤخرا بالجائزة الأولى في المسابقة التي نظمتها مؤسسة دار الرافدين للطباعة والنشر في دورة مسابقاتها الثالثة التي كان عدد المشاركين فيها ٥١٢ مشاركا من الوطن العربي، وكان للعراقي علي العرار قسب السبق فيها. فحصل على جائزة مادية قيمة، مع تعهد الدار بطباعة الرواية على نفقتها الخاصة وتوزيعها، على أن يكون ريع بيعها للدار على مدى خمس سنوات، وهي للأسف لم تطبع إلى الآن بسبب الظروف الحرجة التي يمر بها لبنان.
أما دار الرافدين فهي دار نشر عربية تأسست عام 2004، وتتخذ من بيروت مقرًا رئيسا لها، ولها فروع في بغداد والبصرة. وبدا لي من خلال المتابعة أن الدار والقائمين عليها شخصوا تباطؤ النمو الثقافي العربي، وهو ما دفعهم للعمل بجد لبناء جسور ثقافية بين الحضارات والمجتمعات، فضلا عن تبنيها فكرًا مدنيًا تنويريًا ملتزمًا تجاه محيطها العربي، أملا بالإسهام في نشر المعرفة، ومواجهة الظلامية الفاشية في مجتمعاتنا العربية. فضلا عن أعمالها الروتينية الأخرى في مجال تخصصها فهي تقدم مجموعة واسعة من الإصدارات في مجالات متنوعة تشمل الأدب، التاريخ، الفلسفة، العلوم الاجتماعية، والفنون وغيرها.
وأما الجائزةَ، التي أطلقتها المؤسسة في عام 2019 بدورتها الأولى، فتُمنَح عادة لكتّاب وشعراء شباب لم يسبق لهم أن أصدروا كتاباً ورقياً من قبل، وبشرط أن تتراوح أعمارهم بين 18 و45 عاما، وفي محاولتها توثيق عرى التعاون الثقافي العربي أطلقت المؤسسة على دورتُها الأُولى التي أقيمت في سنة التأسيس اسمَ القاص العراقي (محمد خضير)، وأطلقت على دورتها الثانيةُ التي أقيمت عام 2020 اسمَ الشاعر العراقي (فوزي كريم)، وها هي في دورتها الثالثة التي أقيمت عام 2022 تطلق اسم الشاعر (بسام حجار) على هذه الدورة.
وتسعى الجائزة لتحريك ماء الثقافة الراكد وتقديم مساهمة فاعلة في المشهد الثقافي العربي، من خلال دعم الكتّاب الجدد، وتقديم أعمالهم إلى الجمهور، إيمانًا منها بدور الأدب في بناء المجتمعات وتعميق وعي الإنسان في زمن التسطيح والتفاهة.
أما بسام حجار الذي سميت الدورة باسمه فهو: كاتب وشاعر وصحفي، ولد في مدينة صور في 13 آب عام 1955. وعمل في الصحافة منذ عام 1979، وهو أحد مؤسسي الملحق الأدبي الأسبوعي لجريدة النهار. وعمل منذ عام 1999 محررا وكاتبا في "نوافذ"؛ الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة المستقبل. له إسهامات نقدية وأبحاث وترجمات نشرت في عدد من الصحف والمجلات العربية.
توفي بسام حجار في 17 شباط عام 2009 بعد إصابته بمرض السرطان.
الجائزة الثالثة والمشاركون بها:
كانت دار الرافدين قد أعلنت نتائج جائزتها السنوية الثالثة للكتاب الأول لعام 2022 عبر بيان تلاه رئيس لجنة التحكيم، الشاعر العراقي طالب عبد العزيز. وأسفرت نتائج الدورة عن أربعة أسماء في ثلاثة فروعٍ، جاءت على النحو التالي:
في الرواية، منحت الجائزة الأولى مناصفة بين العراقية مروة الجبر عن عملها "بغداد تودعكم" والعراقي علي العرار عن عمله "نساء القاع".
وفي القصة القصيرة حاز المغربي محمد العمراني على الجائزة الأولى عن مجموعته "لسان بورخس".
وفي الشعر، ذهبت الجائزة إلى العراقي عباس حسين عن مجموعته "القبور ظروف والموتى رسائل".
ولتضمن الدار رصانة جائزتها دأبت على تأليف لجان تحكيم من أعضاء مشاركين متخصصين في الأدب، وكانت لجنة تحكيم هذه الدورة قد ألفت من الأسماء التالية:
- الشاعر العراقي طالب عبد العزيز رئيساً.
- الدكتورة أغناثيو غوتيريث دي تيران رئيس قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة مدريد الذاتية.
- الروائية المغربية عائشة بصري.
- الشاعر والروائي اللبناني عبده وازن.
- الروائي المصري وحيد الطويلة.
- الروائي العراقي عبد الهادي السعدون.
وقد تبنت اللجنة مبدأ احترام الخيارات الفنّية والفكرية للمشتركين، وإتاحة الفرص أمامهم، للتنافُس على أساس تفوُّق كلّ منهم في تمثيل تلك الخيارات وتحويلها إلى عمل أدبي يستحقّ الفوز، وهي من خلال منهجها هذا أرادت القول إنها لم تُشكل لتكون رقيباً على خيارات المبدعين والمبدعات، بل حكَماً على قدرة خياراتهم على الوفاء بوعودها. وهذا منهج سام منصف.
وفق هذا التماهي جاء في تقرير نتائج الجائزة؛ الذي تلاه رئيس لجنة التحكيم أن النصين الروائيين الفائزين: "يخترقان الواقع التاريخي والاجتماعي والسياسي الراهن، يُتيحان معاً إمكانيات متعدّدة لحضور صوت المرأة والانتصار للقيَم النسائية في مجتمع مطبوع بالذكورة والعشائرية والنزوع التقليداني".
وأن الأسباب التي دعت اللجنة لاختيار هذين النصين بالذات كانت في منتهى الموضوعية فرواية علي العرار كانت: "تتميّز بكتابة ناضجة وعمل متماسك من حيث البناء والرؤية السردية ومكوّنات خطابه الروائية ومكاسب الرواية الكونية المعاصرة، ممّا ينمّ عن عُمق قراءته واطّلاعه على تجارب الكتابة والتخييل المعرفي والفلسفي، بما يُؤشّر إلى ميلاد كاتب جدير بالانتباه". أمّا رواية شريكته بالجائزة مروة الجبر؛ وهي الأخرى عراقية أيضا، فذكر البيان أنها اعتمدت: "نوعاً من الخطّية الحكائية في نص لم تكن له رهانات تجريبية، إنّما كان الرهان كاملاً في الجملة الشعرية وفي قسوة الموقف الحكائي".
سياحة في رحاب "نساء القاع":
نساء القاع هو الاسم الذي حملته رواية علي العرار الفائزة، التي تناول فيها ومن خلالها حياة مجموعة من النساء المهمشات في المجتمع العراقي، مسلطةً الضوء على معاناتهن وصراعاتهن في مواجهة الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية، وكيف عاشت المرأة في الريف، المدينة، الوظيفة.
وبرأيي أن الرواية الشابة لعلي العرار انمازت بكتابة ناضجة وبناء سردي متماسك، وأسلوبية متمكنة من صنعتها رغم حداثتها، مما يعكس عمق اطلاع الكاتب على تجارب الكتابة والتخيل المعرفي والفلسفي، ذلك لأنها جاءت كمحاولة لأنسنة الأشياء فيها، ومخاطبة الذات والمشاعر في كثير من رمزيات فصولها. لقد حاول العرار من خلال شخصيات روايته تقديم صورة نابضة بالحياة لنساء عراقيات يعشن في قاع المجتمع، ويعملن المستحيل ويتحملن الصعاب من أجل التكيف مع واقع مهين مرير، بحثا عن مكانة وكرامة في مجتمع صادر الكثير من حقوقهن، على أمل تحقيق أحلامهن الساذجة البسيطة، وهذا ما جعل من الرواية عملًا إنسانيًا، جاء ليعبر عن صوت من لا صوت لهم في مجتمع يعيش التناقض في أعلى صوره.
وقد وجدت علي العرار ينوع خياراته الأسلوبية في محاولة منه لإيصال الفكرة ورسم الصورة التي تترك في ذهن المتلقي تصورا عن حجم معاناة المرأة العراقية، ولذا كان احيانا يكتب بالسهل الممتنع، ثم ينتقل بعدها من خلال المفارقة والموتيف ليكتب بعمق نفسي دقيق، ينضوي على كثير من التحليل الذكي للمشاعر الإنسانية.
ويبدو لي من خلال هذه الرؤية أن العرار وجد نفسه أخيرا، ووجد الطريق الذي كان يبحث عنه بجد وجهد، ليثبت جدارته كشاب عراقي واسطي واعد، بدليل أنه أتم مؤخرا كتابة روايته الثانية وهي بعنوان "صوت التراب"، التي تدور أحداثها في مدينة الكوفة التاريخية سنة ٣٦ هجرية.
أمنيتي مثل كل أماني العراقيين الطيبة، أمنية بسيطة ومقدور عليها، ولا تحتاج إلا للقليل من الثقة والإخلاص والاندفاع في أداء الواجب، وهي تتلخص في:
أن تصدر رواية "نساء القاع" في أقرب فرصة ليطلع عليها هواة الأدب وقُرَّاء الروايات..
وأن يتبنى الاتحاد العام للأدباء والكتاب فرع واسط هذه الطاقة الإبداعية المثمرة الواعدة، ويضيفها إلى كوكبة وجوهه الأدبية..
وان تقوم الحكومة المحلية بتكريمه ودعمه ليواصل السير في طريق الانتصار في زمن كثرت فيه الهزائم.
وأن يحتفي شباب المحافظة بهذه الطاقة الخلاقة ليشعروه بأنهم على تواصل معه.
وأ يبقى العرار مخلصا لقلمه، محلقا رافضا للهبوط إلى مستوى أدنى مهما ادلهمت الخطوب.
***
الدكتور صالح الطائي