شهادات ومذكرات

سليمان مراد: إلياس خوري في التحدي

كتب:  سليمان مراد

ترجمة: علي حمدان

***

كان إلياس خوري، الذي توفي الشهر الماضي عن عمر يناهز 76 عاماً، واحداً من أكثر كتاب الرواية العربية موهبة في جيله. ولكن وصفه بأنه مجرد "روائي لبناني"، كما فعلت أغلب الصحف الغربية في نعيها، فهي خيانة لروحه وعمله، اللذين كانا مفعمين بالعواطف والقضايا، التي بدا أنه يكرس لها كل طاقته ووقته ـ وهو أمر مستحيل منطقياً أتصور أن إلياس كان ليبتسم له. ورغم أنه عاش في لبنان في أغلب الوقت، وكان يكتب في الغالب عن اللبنانيين والفلسطينيين، إلا أنه كان عضواً في طليعة عالمية، وكان يحلم بما يتجاوز الأشكال والحدود.

مثل الكثيرين الذين نشؤوا خلال الحرب الأهلية، عرفت خوري أولاً كصحفي استخدم قلمه لمحاربة فساد النظام. على الرغم من تخصصه في الشؤون الثقافية - حيث كان محرر القسم الثقافي في صحيفتين رائدتين في بيروت، السفير (1983-1990) والنهار (1992-2009) - إلا أن خوري كان سياسيًا بلا كلل. وُلد عام 1948 لعائلة مسيحية أرثوذكسية شرقية في بيروت، وكان يحضر الكنيسة ولكنه أيضًا قرأ القرآن وتعلم العربية الفصحى. كانت فلسطين تحتل خياله منذ سنوات مراهقته. في عام 1967، سافر إلى الأردن للتطوع في مخيم للاجئين الفلسطينيين. بعد حرب الأيام الستة، انضم إلى فتح، الفصيل الرائد داخل منظمة التحرير الفلسطينية. جاء سبتمبر الأسود وطرد منظمة التحرير من الأردن عام 1970 كصدمة كبيرة: أدرك أن ما حدث يمكن أن يحدث بسهولة في لبنان، وأن الفلسطينيين سيكونون في طريقهم مرة أخرى إلى منفى آخر.

قضى خوري أوائل السبعينيات في باريس، حيث حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الاجتماعي مع ألان تورين في المدرسة العملية للدراسات العليا. كانت رسالته تتناول الحرب الأهلية في جبل لبنان (1840-1860) بين الطائفتين الدرزية والمارونية – وهو موضوع اكتشف أنه "لم يكن هناك أساساً أي سجل أو توثيق". "بالنسبة لي، كان هذا الافتقار إلى الماضي المكتوب يعني أننا، اللبنانيين، ليس لدينا حاضر أيضاً... لقد جعلني نقص التاريخ المكتوب أشعر بأنني لا أعرف حتى البلد الذي نشأت فيه." عاد خوري بعد ذلك إلى بيروت، حيث بدأ مسيرته كصحفي وناقد، واستأنف نشاطه السياسي. كان يعمل بنشاط في تأسيس اتحاد الطلاب التابع لفتح، الذي تشكل من الفلسطينيين الذين يدرسون في لبنان مع العديد من المتطوعين المحليين (بما في ذلك اثنان من أبناء عمومتي).

عندما اندلعت الحرب الأهلية، انضم خوري إلى القتال، لكنه أصيب في أشهرها الأولى. أدرك أن القلم يمكن أن يكون سلاحًا قويًا أيضًا، وأنه يناسب موهبته ومتطلبات عائلته الصغيرة أفضل. بين عامي 1975 و1979، حرر خوري مجلة "الشؤون الفلسطينية" التي تصدر في بيروت بالتعاون مع محمود درويش، وكانت هذه التجربة لها تأثير هائل عليه. على مدى العقود التالية، شارك في تحرير العديد من الصحف المحلية والمجلات. أحمد سميح خالد، الذي عمل خوري معه في تحرير النسخة العربية من "مجلة دراسات فلسطين"، يصفه بأنه قام، من خلال أفكاره وطاقته اللامحدودة، بإحداث "نهضة" في حياة المجلة الفصلية. بالإضافة إلى الصحافة، قام خوري بتدريس الأدب العربي في عدة جامعات في لبنان والولايات المتحدة وأوروبا، وتولى إدارة المسرح الفني المرموق "مسرح بيروت" (1992-1998).

رواية خوري الأولى "لقاء الدائرة" (1975) وكأنها تتنبأ بالحرب القادمة - كما هو الحال مع مسرحية زيا د الرحباني "فندق السعادة" (1974). ومع ذلك، كما أخبرني صديقه، عالم الاجتماع يهودا شنهف-شهراباني، فإن الرواية التي يعتبرها "الأولى" له كانت الرواية التالية: "الجبل الصغير" (1977). كان دافعها هو اندلاع الحرب الأهلية. كما قال خوري في حديثه مع المؤرخ إيلان بابيه، إنها قدمت فرصة للخروج من قيود الشعر الذي هيمن على التعبير الأدبي حتى ذلك الحين، ومن المناهج في كتابة الروايات التي تتضمن لحنين الماضي المتخيل. أشار خوري إلى هذه الفرصة باعتبارها "اللحظة"; إذ كان يؤمن أنه "بدون مواجهة الحاضر بعيون مفتوحة، لا يمكننا (نحن الروائيون) الكتابة، لا يمكننا حقًا إنتاج الأدب".

مواجهة الحاضر تعني تحمل مسؤولية التاريخ الشخصي: "لكي يكون لديك حاضر، يجب أن تعرف الأشياء التي يجب نسيانها والأشياء التي يجب تذكرها". كان المؤرخ وليد الخالدي له تأثير كبير في هذا الصدد، حيث أوضح لخوري أهمية الذاكرة والشهادة. إلى جانب بعض الرواد المعاصرين - زياد رحباني في المسرح، ومرسيل خليفة في الموسيقى - ودع خوري بأسلوب محترم الأساليب القديمة، ممهدًا لعصر جديد من الأدب، مستخدمًا العربية بشكل أكثر سلاسة وعامية، تعكس الحياة كما هي معاشة ومختبرة، مهما كانت مروعة أو محبطة. في لبنان، نسميها (الأدب/الفن المقاوم).

روايته التاسعة، الملحمية "باب الشمس" (1998)، التي تتحدث عن معاناة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منذ النكبة، جلبت له شهرة دولية. تتوالى القصص التي يرويها طبيب بجانب سرير مقاتل فلسطيني في غيبوبة،  هذه  القصص التي جمعها خوري على مدى سنوات من اللاجئين الفلسطينيين. أصبحت الرواية الأكثر مبيعًا وتم تحويلها لاحقًا إلى فيلم. لكن بالنسبة لخوري، كان أعلى شرف لها هو لفتة غير متوقعة. في عام 2013، قام مجموعة من الناشطين الفلسطينيين بإقامة مخيم على قطعة من الأراضي الفلسطينية بالقرب من أريحا، التي صادرتها إسرائيل وخصصتها لمستوطنة يهودية غير قانونية. أطلقوا على المخيم اسم "باب الشمس" تيمناً برواية خوري وطلبوا منه التحدث إليهم عبر سكايب. كانت هذه الحادثة بمثابة معمودية: جعلته يدرك أنه أصبح فلسطينيًا، وأن له مكانة في البانتيون الفكري لنضال التحرير الفلسطيني.

عبر روايات خوري العديدة، يمكن تتبع تحول تدريجي من التركيز على لبنان إلى فلسطين – أو من نضال الفلسطينيين في المنفى في لبنان، إلى معاناة الفلسطينيين في إسرائيل وفلسطين. رواياته الثلاث الأخيرة، ثلاثية "أولاد الغيتو"، تروي حياة لاجئ فلسطيني من عام 1948 يُدعى آدم دانون، من مدينة اللد، الذي ينتهي به المطاف للعيش في نيويورك. إحدى المواضيع الرئيسية هو النكبة جادل خوري بأنها ليست حدثًا تاريخيًا منفصلًا، بل تجربة مستمرة: "نحن نعيش النكبة". ومع ذلك، فإن القلق الأعمق في الكتب هو المعركة النفسية بين الرقابة الذاتية والتحرر الذاتي: النضال لإعادة بناء ذاكرة ما حدث فعلاً في عام النكبة وما بعدها، والتغلب على احجام الكثيرين عن مواجهة أهوالها.

لقد شهد مطلع القرن العشرين فترة من اليأس بالنسبة لخوري ــ في أعقاب اتفاقات أوسلو، ووفاة إدوارد سعيد في عام 2003، واغتيال صديق خوري المقرب الصحافي سمير قصير في عام 2005، ووفاة محمود درويش في عام 2008. وقد أدى اغتيال قصير على وجه الخصوص إلى إثارة حفيظة خوري ضد الأحزاب والسياسيين المؤيدين لسوريا في لبنان، وأصبح منتقداً صريحاً لجرائم نظام الأسد. ومع ذلك، ظل خوري متناغماً مع الأجيال الشابة التي تدفع من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي، وقد حفزه الربيع العربي. وأعادته ثورة أكتوبر في بيروت إلى معترك السياسة المحلية بعد سنوات من الهامش. وأتذكر بوضوح حرصه على حشد الطاقات الشعبية، وإيجاد السبل لتماسك اليسار اللبناني المتنوع.

وفيما يتصل بالسلام مع إسرائيل، كان خوري حذراً دوماً من الأكاذيب والوعود الكاذبة التي يطلقها الساسة الإسرائيليون والأميركيون. وكان ينظر إلى اتفاقيات أوسلو باعتبارها "فخاً استعمارياً". ولكن معارضته لمعاملة إسرائيل للفلسطينيين لم تعمه عن رؤية بديل أكثر إنسانية، وهو ما سعى إلى تحقيقه مع زملائه اليهود والإسرائيليين. ووصف صداقته وتعاونه مع شنهاف شهرباني، التي ترجمت ثماني روايات لخوري إلى العبرية وتعمل على ترجمة روايات أخرى، على النحو التالي: "نحن نمثل نهجاً إنسانياً حقيقياً، ورؤية حقيقية مفادها أننا نستحق الحياة، وأن الحياة أكثر أهمية من الجنسيات والأيديولوجيات والحدود الإقليمية".

لقد أنقذ رحيل خوري في الخامس عشر من سبتمبر/أيلول من مشاهدة الجولة الجديدة من الرعب التي أطلقتها إسرائيل والولايات المتحدة ضد لبنان. وبمعرفتي به، أستطيع أن أقول إن رحيله حرمه من "لحظة" فريدة أخرى لتسخير الغضب العالمي ضد شهية المجرمين الذين يحكمون عالمنا.

***

أكتوبر نيولفت ريفيو.10 

 

في المثقف اليوم