شهادات ومذكرات

زهير ياسين شليبه: الشاعر العراقي الجزائري محمد طالب البوسطجي

في الذكرى الثلاثين لاغتيال الشاعر العراقي الجزائري محمد طالب البوسطجي 1943 – 1994

تمر في الرابع من شهر تشرين الأول /أكتوبر الذكرى الثلاثين لاغتيال الشاعر العراقي الجزائري محمد طالب البوسطجي على يد المتطرفين في الجزائر عام 1994. ويسعدنا هنا أن نسرد بعض الحقائق عنه، يحدونا الأمل في اهتمام المؤسسات الرسمية والجمعيات الثقافية واتحادات الأدباء في العراق والجزائر بجمع نتاجات هذا الراحل وإعدادها للنشر تخليداً لذكراه ولتقوية أواصر الصداقة والعلاقات الأخوية بين الجزائريين والعراقيين، لا سيما وأننا سمعنا باهتمام السيد الرئيس االجزائري عبد المجيد تبّون بهذه الفعّاليات، ونعلم أيضاً أن السيد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أوصى بدعم نشاطاتٍ عديدةٍ بما فيها السينما العراقية!

ونهيب هنا بالذات بمثقّفي البصرة وكتّابها بالاهتمام بأعمال الراحل البوسطجي لنشرها في الصحافة الإليكترونية ومن ثم ككتب.

الغريب أن الراحل محمد البوسطجي تنبّأ في يوم ما مضى من حياته قبل اغتياله عام 1994 بمصيرِه فكتبَ: "سيأتي اليوم الذي يُسمع فيه صوتي، فإذا رحلتُ قبل ذلك فإني أوصي الأصدقاء، بخاصةٍ وإن رحيل الشعراء مفاجئاً .... لا بأس من إعداد مادّة ولو بعد الرحيل" كما كتب المهندس الشاعر والمؤرخ والإعلامي والناشط الجزائري الأخضر رحموني في مقاله الرائع " محمد البوسطجي شاعر النكبات والإحباطات"1.

يستعرض الكاتب الأخضر رحموني باختصار مخطوط مقال طويل مكرّس للراحل البوسطجي سلّمه إيّاه مؤلفه الناقد الجزائري الدكتور محمد سعيدي في مهرجان بسكره الشعري. من الواضح أن الشاعر البوسطجي لم ينل الجنسية الجزائرية اعتباطاً بل هو احترام لشخصه الكريم ودوره في التعليم، ولمساهماته الثقافية العديدة في الصحف الجزائرية مثل: "النصر الثقافي" و"الشعب الأسبوعي" خلال سنتي 1975 و 1976 ومجلة "الرؤيا" لاتحاد الأدباء الجزائريين ومجلتي "آمال" و"الثقافة" وجريدة "الشرق الجزائري" الأسبوعية التي أصدرها الكاتبان محمد زتيلي ومصطفى نطور، وكان يكتب في عموده الثابت "اضحك بلا سبب"، إضافة إلى دوريات عربية مثل: "مواقف" لأدونيس و"اليوم السابع" في باريس و"الأقلام" و"الكلمة" و"اللحظة الشعرية" وأخرى.

ولد الشاعر الراحل محمد البوسطجي عام 1943 في مدينة البصرة واهتم منذ نعومة أظفاره بالأدب والثقافة والقضايا الوطنية وعانى ما عاناه أغلب المثقفين اليساريين العراقيين من مضايقات!

وتعرض للاعتقال بسبب ميوله اليسارية حتى في فترة الجبهة الوطنية عام 1974 فسافر بعد تخرّجه من كلية الآداب عام 1968 إلى الجزائر كمدرس للغة العربية ليدرّس أولاً في مدينة قسنطينة ولينتقل فيما بعد إلى الطاهير في مدينة جيجل المطلة على البحر المتوسط، ضمن حملة التعريب، واندمج هناك مع الشعب الجزائري الشقيق من خلال مساهماته الثقافية وتدريسه اللغة العربية "فأهدته الجزائر جنسيتَها" كما يقول المعماري الجزائري الموسوعي الأخضر رحموني، وفتاة جزائريةً أحبّها واقترن بها فأضحت "أم رافد" الجديرة بالاحترام حيث أنجبت خمسة أبناء متميزين: رافد، فرات ، صبا، نجد ، أنيس، أحسنَتْ تربيتَهم رغم معاناتها من ويلات الرحيل عبر التخوم هرباً من الإرهاب في الجزائر والحرب والاضطهاد في العراق، و لترجع مرة أخرى الى مدينتها الأم قسنطينة.

كافحتْ أختُنا "أم رافد" بعد رحيل زوجها لتحافظ على أبنائِها الخمسة الذين تميزوا كل في اختصاصه من شعر وفلسفة وصيدلة وقانون واقتصاد، ونذكر هنا ابنتهما الكبرى صبا على سبيل المثال لا الحصر التي أصبحت أكاديميةً متميزةً، بحصولها على شهادتَي دكتوراه في علم الاجتماع السياسي والمعرفي. الأولى من جامعة قسنطينة الجزائرية والثانية من جامعة كيبيك الكندية في مونتريال، لتختص في تحليل الفكر العربي المعاصر، وليصبح الإنتاج الفكري والأدبي العربي والمثقف العربي محط اهتمامها وشغلها الشاغل2.

في الحقيقة أنا أعرف شخصياً أكثر من كاتب عراقي "مغترب/منفي" رحل عنّا بدون أن نلملم "أشلائه" وننشرها لتطلع عليها الأجيال الجديدة، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الكاتب الراحل عدنان المبارك رغم أني ساهمت على الأقل بجمع ما يمكن جمعه بملف خاص مكرس له نُشر في موقع الناقد العراقي، جنباً إلى جنب مع الروائي المغربي الصديق إسماعيل غزالي.

اهتممتُ بالأديب الراحل محمد البوسطجي منذ انتشار خبر اغتياله عام 1994 رغم أنه لم يكن معروفاً، وأننا في الغربة/ المنفى "تعوّدنا" على مثل هذه الأخبار آنذاك، فقد قُتل في الثمانينات خيرة المثقفين العراقيين ممّن عرفناهم شخصياً، أذكر على سبيل المثال لا الحصر الدكتور توفيق رشدي استاذ الفلسفة في جامعة عدن على يد إرهابيين كما أثبتت التحقيقات آنذاك.

لا بدّ من الإشارة إلى مقالين مهمّين ومؤثّرين عن الشاعر البوسطجي: الأول لصديق صباه ودراسته الجامعية الأستاذ محمد الأسعد، أودُّ إطلاع القارىء على بعض مقاطعه، حيث يقول: " وأنا أتصفح ... الانترنت لفتَ نظري بلاغٌ .. عن المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية في ..2005 ... بصدد إصدار كتابٍ .. عن .. محمد طالب البوسطجي... أن يقدم للمكتبة ما لديه من معلومات .. جاء هذا وسط غبار سياسي واجتماعي وثقافي وعسكري كان يلف الوطن العربي من أدنى نقطة فيه إلى أقصى نقطة، تسوده لاعقلانية عجيبة ستدفع مفكراً من طراز "جورج طرابيشي" إلى القول إن العالم العربي/الإسلامي بشكل أعم يبدو مهدداً بالارتداد نحو قرون وسطى جديدة، أي عصر ظلام ثان ....ما يربط بين البلاغ الجزائري والحدس بقدوم عصور مظلمة هي واقعة أن الشهيد المشار إليه هو الشاعر العراقي المنفي والمجهول محمد طالب البوسطجي أستاذ اللغة العربية في إحدى مدارس مدينة "الطاهير" الجزائرية .. سقط قتيلاً صامتاً برصاص الجماعات الإرهابية هناك وهو يهم بدخول مدرسته ... عند مفتتح عصر الظلمات والارتدادات الذي نشهده الآن، عصر فنون من الهمجية لم يحلم بها حتى همج العصور السحيقة .

لم يذكره أحد آنذاك سوى زوجته الجزائرية وأطفاله، وحتى أنا الذي زاملته خلال سنوات الدراسة المتوسطة في البصرة، ... لم تصلني هذه المعلومات إلا بعد عقد تقريباً ... هل وُجد من يجمع أطراف سيرة هذا الشاعر، من لديه علم بمكان قصائده وقصصه والروايات التي يقال إنه كتبها؟"3.

إنه لعمري أمر خطير يصعب علينا الآن اختيار الكلمات المسموح بنشرها والتي تعبّر حقّاً عن مأساة الثقافة العراقية بالذات التي يعيش أغلب مبدعيها ومنتجيها خارج بلدهم هرباً من الاضطهاد ومع ذلك ظلوا ملتصقين به يعانون من ناستولجيا يستكثرها أحياناً عليهم "بعضهم" ويعتبرونها صفة مفتعلةً ومصطنعةً لصيقة بهم!

ولنقرأ ما يكتبه الأستاذ محمد الأسعد عن زميله وصديقه البوسطجي بلغة مفعمة بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية:

"تدريجياً بدأت أتعرف إلى طرف من حياته، على مجموعة شعرية ثانية له حملت عنوان "متاهات لا تنتهي" (1990) لم أصادفها في أي مكتبة أو موقع من مواقع شبكة الانترنت، ولكنني صادفتُ مقتطفاً منها كشف لي عن وجه مختلف له لم أعهده في مجموعته الأولى (يقصد: التسول في ارتفاع النهار، 1974 ز. ش.):

في هذا المنفى الحافل بجذوع الأشجار المتحجرة/ منذ الحقب الأولى/ الحافلُ بالموتى والآبار الناضبة/

وأوهام صداع مطبق/ وحدائق مزروعة/ بالأحجار وبالنسيان وبالموت/ أتعرّى/ أغطسُ في الماءِ/

الراحل عبر البلدان/ في هجرتهِ العظمى/ لا من يذكرني/ غير الجسد المثقل بالأحلام

لم تكن هذه هي لغته الأولى المثقلة بأصداء معجمية..." أنظر: رقم 3 الأستاذ محمد الأسعد .المصدر نفسه.

وأثار انتباهي عنوان مقال نقدي قيّم آخر للشاعر والمترجم المغترب الصديق جواد وادي أيضاً كونه يعبّر عن محتواه: "أدب المنفى.. بين عمق التجربة ووجع الغياب محمد طالب البوسطجي نموذجا"، حيث يقول وهو العارف بمرارة الشوق والناستولجيا في الغربة والبعد والافتراق، بالذات بالنسبة للشعراء "فمن ذاق عرف!"، كما يقول الصوفيون!

"لا نغالي اذا ما قلنا ان المبدعين العراقيين يتصدرون مبدعي العالم اجمع من حيث شتاتهم واوجاعهم وبلاويهم بابتعادهم عن الوطن مجبرين بسبب الكوارث والمحق الذي طال كل شيء في العراق ... ولا نغالي ايضا اذا ما رجعنا الى عهود ما قبل المحنة لنجري احصاءا بسيطا لنكتشف ان مثقفي العراق ومبدعيه من اقل الناس حماسا لمغادرة بلدهم للارتباط الحميمي العجيب بالارض خلاف العديد من مبدعي البلدان الاخرى وهذا الامر لا ينسحب على المبدع العراقي بل المواطن العراقي ذاته الذي لا يميل ابدا لمغادرة بلده والاستيطان في بلد آخر مهما كانت الاسباب لتعلقه الغريب بارضه وترابه الذي يقدسه حد العبادة، لكنما الهزات الكارثية التي حدثت بعد استلام الزمر الهوجاء للسلطة حيث عم الخراب في العراق الجميل وبات العيش امرا كارثيا اضطر ... المبدعين لترك البلاد قسرا، ... فهام المبدع العراقي في اصقاع الدنيا.....ولنأخذ تجربة الشاعر محمد طالب البوسطجي من خلال ديوانه ( متاهات لا تنتهي 1990) لنتبين جليا ... حجم المعاناة والإحساس باليتم ... فكان الوطن حاضرا بقوة ليحول الشاعر الاشياء التي يعيشها كلها الى صور متحركة وأنسن حتى اللامتحرك ليضفي عليه لبوسا عراقيا متحركا باتجاه الانعتاق من أسار اللحظة القاهرة لتمنح الشاعر هدأة حتى وان كانت كاذبة، ليستريح قليلا من لوعته ونشيجه ويشعر بدفء التراب الذي ظل يناجيه بمرارة ... في نصه الاول "عند ضفاف السراب" يستهل الشاعر مناجاته للوطن فيقول:

هذا الوطن الموعود/ الممتد/ بين الاوهام/ مارا بالذكرى/ يعيش على قارعة الوهم.

هو الوطن الوهم لينتفض بداخله ركام المواجد ليجدد صورة الوطن حتى وان كان رمزا لا يعدو كونه توظيفا سرياليا ليعود الوطن ضفافا من سراب ولا ينال الشاعر غير الوهم الموعود.

الوطن يوصد بوابات/ يضرب باسوار/ حول الاحزان...

لغة سوداوية وصور قاتمة تشكل واقع الحال عن الوطن ... ليعود عراق الشاعر اسوارا لا يمكن اجتيازها ...

هذا الوطن الممتد / بين الحر الغاضب والصحراء الميتة/

يستحضر الشاعر طفولته فيعدو صوب الوطن بقدم متربة ليتوسد ترابه ويتنسم هواءه، لكن الوطن ينوء بحمله دون ان يحضى منه بلمسة دفء وهو شديد الاحساس باليتم، فيشعر بالانكسار حيث يعود الوطن رديفا للظلال والعقبان:

بحثا عن وطن وظلال،/ العقبان الحائمة،/ التي تحوم على جيف الموتى ليعود الوطن مقبرة كبيرة /.

وأودُّ أن أختم مقالي هذا بأفضل ما كتبه الشاعر جواد وادي عن الراحل محمد البوسطجي:

"القوافل ضاعت في قلب الصحراء يا صديقي الشاعر ومحطتك ستعود واحات جرداء وانت محاط بالخوف وتنهش لحمك الكلاب، فأنت دائما مغمور بالغرباء والامكنة، ها هو البحر يدعوك ايها الشاعر المنكوب لتفرغ شوقك في هدوئه الحذر ولا غير السفن مآلك للابحار وانت على ظهرها محملا كالغرباء المنكوبين" .

أنظر: رقم 4 مقال الشاعر جواد وادي. المصدر نفسه.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

..............

المصادر:

1- أنظر: المعماري الشاعر المؤرخ الموسوعي الأخضر رحموني. محمد طالب البوسطجي شاعر النكبات والإحباطات. جريدة الوسط الجزائرية. الأربعاء 14 أكتوبر 2020الموافق 27 صفر1442

2- من لقاء شخصي مع الدبلوماسي العراقي السيد أحمد خالص.

3- محمد الأسعد. من يجمع أطراف سيرة الشاعر؟ البوسطجي.. راحل لا يذكره أحد. جريدة الخليج. الملحق الثقافي. تاريخ النشر: 16/02/2015 هناك تاريخ نشر آخر، اطلعنا على المقال عبر الإنترنيت.

4- جواد وادي. أدب المنفى..بين عمق التجربة ووجع الغياب محمد طالب البوسطجي نموذجا. نسخة محفوظة 16 ديسمبر 2019 الحوار المتمدن. هناك تاريخ نشر آخر، اطلعنا على المقال عبر الإنترنيت.

أهم نتاجات الشاعر محمد طالب البوسطجي:

- دواوين الشاعر:

محمد طالب البوسطجي. التسول في ارتفاع النهار، 1974

محمد طالب البوسطجي. متاهات لا تنتهي، 1990

- مقالات وخواطر منشورة في الدوريات الجزائرية والعربية ذُكرت في متن المقال.

- هناك نصوص أخرى (قصص وروايات) تم تسليمها من قبل أسرة الشاعر الراحل إلى المكتبة الوطنية الجزائرية.

 

في المثقف اليوم