شهادات ومذكرات
علي حسين: هل يمكن أن نحيا من دون القراءة؟
بغداد شباط 1950
جلس الشاب البالغ من العمر ثلاثة وعشرون عاما على مقعد في احدى مقاهي شارع الرشيد، وضع إلى جانبه رزمة فيها مجموعة من الكتب التي سيقرأها خلال الايام القادمة، مجموعة قصص لتشيخوف الذي طالما تترك كتاباته فيه موقفا انسانيا " ربما تشيخوف الكاتب الوحيد الذي اقرأه في عزلة، حيث اشعر بتعاطف كبير مع ابطال قصصه " – مجلة العربي 2002 -، الى جانبه كتاب "مختارات من القصص الانكليزي" ترجمة عبد القادر المازني، احدى روايات دستويفيسكي، رواية وداعا للسلاح لهمنغواي التي قرأ منها فصولا باللغة الانكليزية، كان يمني النفس أن يواصل الكتابة ويصبح قاصا شهيرا مثل همنغواي يطوف العالم ويرفس الوظيفة الحكومية بقدمه . قرأ الكثير من الروايات، البعض منها كانت ترجماتها رديئة، قرر ان يتعلم الانكليزية ليقرأ رواية تولستوي الحرب والسلم التي يصفها بأنها تقدم للقارئ تجربة انسانية فريدة . في غرفته الصغيرة في البيت تصطف روايات غوغول وبوشكين وتورجنيف ودستويفيسكي وستندال وبلزاك وجوزيف كونرد . لم يستسغ تشارلز ديكنز كان يقول لاخيه ان كتبه يخرج منها الكثير من النواح، يعترف بأن شيطانه الادبي اسمه انطوان تشيخوف انه " خيالي وواقعي " كانت قصص تشيخوف تنشر مترجمة بمجلة الرسالة المصرية التي يحرص على شرائها كل اسبوع من مكتبة المثنى . يتأمل في وجوه الجالسين يخرج من جيبه رزمة اوراق شرع يكتب جزءا من قصة خطرت له منذ ايام . لم يختر لها عنوان بعد . كان الليل، شتائيا باردا، والريح خفيفة، امضى اكثر من نصف ساعة يتمشى، فهو على موعد مع السفر إلى بعقوبة حيث مكان عمله الروتيني في المحكمة . سيترك بغداد وضجيجها والاحاسيس المرهفة، ليعود إلى بيته المحاط بسكون بساتين بعقوبة، هناك لا أنيس سوى الكتاب . لم يفكر يوما بأن يصبح كاتبا قصصيا، كان يرى في محاولاته نتاج اخرق لا جدوى منه، إلا ان اللعبة استهوته، فهو دائم القراءة، والكتب التي يقرأها تستفزه، قبل ايام كان قد انهى قراءة رواية " عشيق الليدي تشارلي " للكاتب الانكليزي د. ه. لورنس،عندما انتهى منها ظل يردد مع نفسه انها رواية مكتملة وعظيمة، تصف احاسيس الروح ومخاوفها بلا حدود، لم يكتب احد من قبل بمثل هذه الجرأة . يتذكر انه قرأ في سيرة لورنس معاناته بعد وفاته أمه، وسوف يحتاج الى اشهر حتى يستطيع كتابة سطر واحد، وفي النهاية فعلها لأن الادب لا يتوقف عند حدود الموت .كان لورتس قارئا نهماً قال لكاتب سيرته انه خليط من افكار ماركس ونيتشه وفلوبير وداروين .
كان فؤاد التكرلي في الثالثة من عمرة عندما توفي د.ه.لورنس في الثاني من آذار عام 1930، بعد سنوات سيعثر في مكتبة اخيه نهاد على نسخة من رواية لورنس " ابناء وعشاق " بالانكليزية، يقول التكرلي لم اعرف شيئا عن لورنس حتى نهاية الاربعينيات، في تلك الايام كان ينجذب الى دستويفيسكي أكثر، قال في حوار معه:" شخصيات دستويفيسكي قوية، شبه نارية وذات عواطف حادة جدا، تصل احيانا الى حد الجنون، شخصية الجريمة والعقاب شخصية فذة " – مجلة الاقلام 1986- .
كانت فترة الشباب عظيمة ظل يبحث فيها عن الحب في الكتب، كان الادب هو الطريق الى عالم المرأة . لقد اخذ يقرأ كتابات ستندال وفلوبير وفكتور هيغو، يصف تلك المرحلة بانها مرحلة " ازدهار الادب من حولنا "، في مكتبة كورنيت التي تقع في شارع السعدون يعثر على نسخ قديمة من قصص ه.ج.ويلز، في حوار اجريته معه نشر في صحيفىة العراق عام 1981، قال التكرلي انه وجد في قصص ويلز ان الإنسان يستطيع أن يحقق حياة يوتوبيا، يمكن فيها أن يقهر الجهل والفقر، فيما وجد في روايات ارنست همنغواي بطلا من نوع جديد، يعتمد على قوته الجسمانية وغرائزه " ابتكر همنغواي اسلوبا مناسبا لهذه الصورة الجديدة للانسان " صحيفة العراق 1981 . يعترف التكرلي انه لا يمارس القراءة السريعة، " يجب ان نتفحص الصفحات بأناة تمنحنا متعة خاصة، في صباي كنت التهم الصفحات، لكن فيما بعد ادركت ان الكتاب الجيد يحتاج الى رفقة هادئة " .
عندما التقيت فؤاد التكرلي اول مرة وكان ذلك اثناء عملي في مجلة الثقافة، ارتبطت صورته بذهني بملامح الرجل الانيق، عينان متألقتان، صوت خجول، متفائل وواثق، وبعد ان توثقت علاقتي به واخذت التقيه في المكتبة التي كنت اعمل فيها، كان حديثه اسراً، الافكار فيها الكثير من التشويق والجدة، وعناصر الادهاش واشياء كثيرة لم تكن مألوفة لدي، عندما سالته ذات يوم: هل يتذكر اول كتاب قرأه ؟ .
قال انه كتاب قديم اوراقه صفراء كان ضمن مجموعة كتب يضعها والده في خزنة خشبية قديمة، اراد أن يجرب حظه، لكن الحروف استعصت عليه، ثم لعبتْ الصدفة لعبتها معه في صيف سنة 1939: " كنت في الثانية عشرة من عمري وما أزال غير متماسك تماما، حين فتحت أمامي، على حين غرة، عالم القراءة القصصية الواسع والمذهل والملون. كان ذلك حين جلب أخي نهاد في أحد الأيام، عشرات الأعداد من سلسلة روايات (الجيب) المصرية، ورماها في زاوية من زوايا الغرفة التي كنا نتشارك النوم فيها" . ويضيف:" خلال هذه السنوات كنت اقرأ ما يقترحه عليً شقيقي نهاد، لكنني فيما بعد اخذت اقتني كتب خاصة بي".
في تلك السنة انتقلت عائلته الى بيت جديد في محلة رأس الساقية، في الدار الجديدة يسعى لانشاء مكتبته البيتيه الخاصة التي ضمت اعداد من سلسلة كتابي ومجموعة من روايات الجيب ونسخة من كتاب الف ليلة وليلة، قصص روسية مترجمة، الجزء الاول والثاني من الحرب والسلم التي اصدرتها دار اليقظة العربية ولم يحصل على الاجزاء الباقية، فقرأها فيما بعد باللغة الانكليزية، الاحمر والاسود لستندال، الابلة لدستويفيسكي، مجاميع قصصية، نسخة بالانكليزية من كتاب سارتر الوجودية نزعة انسانية، وقد حصل عليه من شقيقه نهاد، هل قرأ التكرلي سارتر في تلك الفترة؟ سألته ذات يوم؟، قال وهو يبتسم: " الوجودية كنت افهمها كطريقة حياة اكثر منها فلسفة، لم اقرأ الوجودية فلسفة انسانية كاملا، كان اخي نهاد مهووسا بافكار سارتر، كتب عن الوجودية الكثير من المقالات، لكنني قرأت معظم روايات سارتر وقصصه وشغفت بمسرحياته، وجدت انها تلبي طموحي في كتابة مسرحية افكار ومواقف . . لا يمكن ان ننكر ان الوجودية احدثت تغييرا ثقافيا في أواسط القرن العشرين، وأنها منحت المثقف قوة دفع هائلة بإصرارها على الحرية والأصالة".
وبتاثير من سارتر سيجرب كتابة المسرحية، فاصدر "الصخرة واوديب والملك السعيد، ولعبة الاحلام والطوف وزوج السيدة م". وقد اصر على ان يطلق على هذه المسرحيات وصف (حوارية) بدلا من مسرحية مؤكدا ان هذه ليست مسرحيات بالمعنى الحرفي والمتفق عليه للكلمة انها بالاحرى محاولات في الحوار استغلت بعض قابليات المسرح لتقديم الواقع منظورا اليه من وجهة نظرا مختلفة وغير مالوفة قلت له ان سارتر كان يقول ان كل مسرح عظيم يجب ان يقوم على الاختيار المتعلق بالحرية . صمت لدقائق ثم قال بصوت خفيض:" الابطال في نظر سارتر يمارسون حريتهم باسمهم وباسم الانسانية، اما ابطال مسرحياتي فهم يبحثون عن الحرية في مجتمع منغلق، وهم يدركون ان حريتهم مقيدة، ولهذا نجد ان شعورا بالقلق يغزوهم".
من النادر أن نسير في شارع ما، ونكون قادرين على الجزم بأن مؤلفا كان يسير هنا، وان تفاصيل الشارع قد احتفظ لنا بها، نعرف على وجه اليقين ان فؤاد التكرلي استعاد طفولته وصباه في روايته " الرجع البعيد "، ففي زقاق فرعي من ازقة شارع الكيلاني ولد فؤاد التكرلي في الثاني والعشرين من آب عام 1927، وكان اصغر الابناء لرجل تجاوز الستين من عمره:" حين كنتُ طفلا لم أجاوز السادسة من عمري، كان الجزع يتملكني باستمرار وأنا أعايش أبي الذي نيّف على السبعين ونحن نسكن دارا عتيقة جاوز عمرها المائتي عام وهي تتماسك بجدرانها كيلا تسقط على رءوسنا. كنت مسكونا إذن بجزع خفي ذي شقين، الأول خشيتي من فراق أبي الوشيك والثاني شعور بالرهبة من تهاوي دارنا العزيزة، ولم أكن أملك,، آنذاك، أي مرفأ آمن ألجأ إليه كي أتغلب على لوعة الذات هذه، فقد كنتُ على جهل تام بطاقة الإنسان العجيبة تلك المسماة المعرفة، وكنتُ هشا تعيسا" – مجلة العربي الكويتية 2004 -
في المدرسة الابندائية يحاول أن يتتبع خطى شقيقه الأكبر نهاد بقراءة كل ما تقع عليه يداه، وعن طريق نهاد سيتعرف على عالم الرواية والادب:" في سنوات مراهقتي الأولى و حين بلغتُ السادسة عشرة, متجها نحو الشباب والرجولة. كنتُ، في الواقع، مسكونا أو ممسوسا بالروايات "، يكمل دراسته الابتدائية في مدرسة باب الشيخ، وكان احد رفاقه في الصف الاول الشاعر عبد الوهاب البياتي، ينهي دراسته المتوسطة في متوسطة الرصافة وفيها يلتقي بغائب طعمة فرمان المولود عام 1927 ايضا، يكمل الدراسة الاعدادية عام 1945، في هذه المرحلة يقرأ عددا من الروايات كان ابرزها رواية " سانين او ابن الطبيعة " للكاتب الروسي ميخائيل أرتزيباشيف بترجمة ابراهيم المازني، ستلعب هذه الرواية دورا كبيرا في حياته، وسنجد صداها على لسان توفيق بطل رواية التكرلي المسرات والاوجاع حيث يتكرر ذكرها اكثر من مرة، وبرغم ان توفيق يتحدث عن روايات اخرى الى ان سانين تركت اثرا عميقا في روحه:" في شهر حزيران حين كانت تتجمع هموم الامتحان المقبل وبدايات الحر، قرأ بالصدفة رواية ضخمة مترجمة عن الادب الروسي، وجد عنوانها مكتوبا بقلم رصاص على صفحة البداية (سانين أو ابن الطبيعة) ولم يعرف أسم مؤلفها أو مترجمها بسبب تمزق غلافيها الداخلي والخارجي، استحوذت عليه النهار كله . أنهاها والليل في بدايته وأهله نيام والدار ساكنة . شعر، جالسا بذهول في فراشه .أن امرا ما، عظيما ومرعباً، تكشف له عبر هذه الصفحات التي تبعث على الجنون والهياج والتمرد والرغبة الصادقة بضرب الرأس بالحائط . كأن ناراً مقدسة تناوشت روحه فألهبتها واهاجت فيه االعواطف والغرائز، لم يعد يحتمل جدران غرفته " – المسرات والاوجاع، ونرى توفيق يعود مرة اخرى الى رواية سانين حين يكتب في دفتر مذكراته انه قرأ الغريب لألبير كامو التي لم تعجبه، ولكنه يقول أن هناك عنصراً يجمع بين سانين " الساكن في روحي " وبين " ميرسو" بطل الغريب ويضيف:" غير ان سانين أكثر حيوية وإنسانية واقدر على الاقناع من الثاني "
سألت التكرلي ذات يوم اي من شخصيات رواياته تشبهه، ابتسم وهو يقول ان القارئ دائما ما يرسم صورة للمؤلف مستمدة من احد ابطال رواياته . ولعل قرّاء الوجه الآخر والرجع البعيد والمسرات والأوجاع وخاتم الرمل وعشرات القصص، قد رسموا صورة لشخصية فؤاد التكرلي مأخوذة من بعض أبطال رواياته، فمنهم من يعتقد أن فؤاد التكرلي قريب الشبه بمحمد جعفر بطل الوجه الآخر رغم أن التكرلي قال لنا أكثر من مرة: إن بطل روايته هذه جبان ولا اخلاقي، فهو لا يواجه القيم الاجتماعية المتعارف عليها، بل ينساق معها ضمن حدود اكتساب الراحة والأمان، وآخرون يعتقدون ان ملامحه قريبة من شخصية مدحت في الرجع البعيد صاحب العاطفة الملتهبة . والبعض يقول، إنه توفيق بطل المسرات والأوجاع، فالاثنان درسا القانون في كلية الحقوق في بغداد، وتخرجا ليتم تعيينهما بدرجة ملاحظ في إحدى الوزارات .. كل القراء والنقاد يقطعون بأن فؤاد التكرلي وضع صورته في أكثر من عمل قصصي، ويخبرنا صاحب موسوعة الأدب القصصي في العراق الراحل عبد الإله أحمد أن التكرلي لغز لا يمكن حله، لأنه كتوم يحرص على ألا يكشف شيئا عن حياته الخاصة. فالكاتب الذي يمارس جرأة متناهية على الورق، نجده في الحياة لا يجيد تقديم نفسه، فهو خجول، متواضع، اذا تحدث فكأنما يهمس . قلت له لكن توفيق يشبهك في هوسك بالقراءة .قال لي:" ربما تتعجب إذا قلت لم انا قارئ انتقائي، لا يمكن ان تطلق عليّ لقب قارئ كبير، لكني قارئ، مدرك، واع " . وحين تطرق الحديث عن قراءت توفيق الزاخرة في المسرات والاوجاع، قال التكرلي:هناك اعمال روائية تاثرت بها ومنها رواية سانين التي حصلت عليها من صديقي عبد الملك نوري واتذكر انني اعدت قرائتها اكثر من مرة:" حسدت سانين، كما هي عادتي في كل مرة لإدراكه ويقينه وسيطرته على ذاته وجرأته وصفاته الأخرى التي جعلت منه انسانا عاديا واسطوريا في نفس الوقت، ولكم تحسرت ان تنهي الصفحة الاخيرة وأن اضطر الى مفارقة هذا المخلوق وهو يقفز من القطار، تاركاً هذا يمضي بدونه إلى افق مجهول " – المسرات والاوجاع -
كان مستقبل الشاب فؤاد التكرلي قد حُدد بعد حصوله على الشهادة الثانوية، فاشقائه الثلاثة دخلوا سلك القضاء واصبح اخيه الاكبر مصطفى من كبار القضاة في المحاكم العراقية، قررت العائلة ان يدخل كلية الحقوق التي تحرج منها عام 1949، ليعين موظفا عدليا في محكمة بداءة بعقوبة. عاش في هذه المدينة اربعةأعوام، قال انها تركت اثرا لا يستهان في تطوره الفكري، تفرغ فيها للقراءة، قرأ اعمال تولستوي وشغف بآنا كارنينا:" كنت وما ازال اتذكر مشهد بطلة تولستوي آنا وهي تقرأ في القطار احدى الروايات، كان هذا المشهد يستفز القارئ في داخلي ". يقول التكرلي صادفت رواية آنا كارنينا وانا في مرحلة التكوين، يتذكر انه حصل عليها من بائع للكتب القديمة في شارع الرشيد، كان تولستوي قد توصل الى استنتاج مفاده ان آنا كارنينا عرضت عليه كيف يجب ان يعيش: انه لا يريد ان يكون الشخص الذي كتب روايات مسلية ومعقدة . ولهذا نجده في سنواته الاخيرة بدلا من ان يكون سعيدا، اصبح غير سعيد . ولعل الرسالة الاخيرة التي ارادت ان توصلها لنا " آنا " انه يجب علينا البحث عن المعنى الذي تقف وراءه الحياة .. قال التكرلي ان آنا كارنينا جهاد نفس تبحث باستمرار عن حقيقة الحياة " . كان توفيق بطل رواية المسرات والاوجاع مغرما بتولستوي ودستوفسكي.. ويعترف فؤاد التكرلي في احدى حواراته ان توفيق يمثل مرحلة شغفه الاول بالقراءة، فيما بعد سيتحول اهتمامه الى مارسيل بروست ويواصل الاعجاب بفلوبير الذي يقول:" عنده كل شيء منظم بدقة "
عام 1949 يرتبط بصديق عمره عبد الملك نوري الذي سيفتح امامه افاق جديدة للقراءة، يقرأ يوليسيس فيُخبر عبد الملك نوري ان بها متاهات فنيه، وانه يفضل البحث عن الزمن المفقود عليها، يتجه لقراءة اعمال وليام فوكنر التي يشعر بنشوة غريبة معها، يشعر التكرلي باسف ان كتب قليلة فقط من فترة شبابه رحلت معه الى تونس التي عاش فيها سنواته الاخيرة، لقد تنقل ما بين بغداد وبعقوبة وباريس وتونس.
طالت إقامته في بعقوبة حوالي أربع سنوات، كانت بالنسبة له سنوات عزلة وقراءة، تفرغ خلالها لقراءة كل ما يتعلق بالفن الروائي " كنت ابحث عن وسائل مجدية للوصول إلى التعبير الأدبي الفني الصحيح " كانت بعقوبة مدينة موحشة ينتظر هو وشقيقه نهاد حلول يوم الخميس ليسافرا الى بغداد للقاء صديقي العمر عبد الملك نوري وعبد الوهاب البياتي. كان الاصدقاء الاربعة يلتقون في مقهى السويسرية بشارع الرشيد، وغالبا ما يفاجأهم عبد الملك نوري وهو يحمل كتبا جديدة:" اتذكر ان نقاشا دار بييننا حول رواية غاتسبي العظيم لفيتزجيرالد التي كان عبد الملك مغرما بها، وشجع صديقه نجيب المانع على ترجمتها " – كجريدة العراق 1981 - .
انتقل عام 1953 الى بغداد ليستقر فيها ويواصل عمله في القضاء يسافر الى باريس عام 1966 لدراسة القانون، تصدر مجموعته القصصية الاولى " الوجه الآخر عام 1960، حيث نلتقي بمحمد جعفر في الوجه الآخر شخص يكتشف اته خارج المجتمع، جبان، اناني، يحب ذاته ولا يهمه الآخرين ويعتبر نفسه قادرا على المساعدة والتعاطف، والتكرلي يطرح السؤال هل محمد جعفر اناني الى حد عدم استطاعته مساعدة زوجته، ام انه يحاول ان يختار حياته على طريقته الخاصة .. كان محمد جعفر يريد ان يعيش ويغيش فقط .
في باريس يكرس وقته لكتابة الرجع البعيد، والاطلاع على الادب الفرنسي اعاد قراءة مدام بوفاري من جديد، وتابع صرعة الرواية الجديدة التي ظهرت على يد كلود سيمون وناتالي ساروت ومارغريت دوراس، يواصل كتابة الرجع البعيد اكثر من 10 سنوات ليكملها عام 1977، تواجه الرواية برفض الرقيب في العراق الذي طالب بحذف بعض الشخصيات في الرواية وإجراء تغيير في حوادثها، فيقرر نشرها في بيروت لتصدر عام 1980.
تقدم لنا الرجع البعيد مسرحا غريبا ابتداءً من باحة البيت الذي تتجمع فيه العائلة اثناء المساء وهم يلفظون شكواهم ولعناتهم .. لكن الرواية تاخذنا ايضا الى مكان آخر يكشف لنا العبث المأساوي الذي يفتك في المجتمع، ويحدد مصائر الابطال، فمدحت الذي يحاول ان يبتعد وأن يغادر " هذه الخرائب " كما يسميها، تبقى محاولته مجرد وهم ينتهي بموت عبثي عندما يصيبه رصاص الانقلابيين .
وانت تقرأ الرجع البعيد ستسمع حتما ايقاع الصخب والعنف عند وليام فوكنر، وتستعيد هذيانات بنجي كلما قرأت ما يقوله حسين، وستجد ان مدحت يشبه كونتين فكلاهما تعذب من اجل قيم ورثها عن طبقته وبيئته الاجتماعية، وهو لا يستطيع التخلص منها .
كانت هي رؤية فؤاد التكرلي التي أتاحت له سفرا دائما نحو الحرية . وأتاحت لقرائه قدرة مواجهة العالم المحيط بهم، ولذا نجد التكرلي حين يتحدث عن الرواية في تنظيراته لها، كما لو أنه يتحدث عن عينين تبصران في الظلمة، كاشفا لنا عن تصوره للرواية وهو يتحدث بحميمية عن هذا الفن:" ملايين الصفحات من الكتابة الروائية على مدى العصور تعبر عن ذواتها وتفصح عن طويات نفوسها وتبثّ أحزانها وأفراحها وتعلن عن أفكارها ومشاريعها وشكوكها .. أي أنها تمارس عملية بوح مستمرة، عملية البوح هذه جعلت روائيا مثل وليم فوكنر يكرّس حياته ليخرج للعالم روايات عجيبة وغريبة تجيب على سؤال: من نحن؟" . بين باريس وبغداد يقضي فؤاد التكرلي سنوات الثمانينيات، يعود الى بغداد عام 1991، لينقل مكتبته الكبيرة الى بيت صديقه الروائي عيسى مهدي الصقر، فالبيت الذي ظل يسكنه لاكثر من ثلاثين عاما في المنصور معروض للبيع، يتذكر ان الكتب:" شغلت عدة غرف في دار الصديق الصقر، الذي لم ينفد صبره ولا كرمه لمدة عشر سنوات ونيف"، ينظر بأسى الى مكتبته التي جمعهاعلى مدى " 50 " عاما، يعترف ان الكتب كانت بالنسبة له افضل صدبق، وقد كانت علاقته مع الكتب " طيبة على الدوام " لكنه سيضطر عام 2003 لبيع المكتبة وتسنى له:" أن أشهد بمرارة ما جمعته طوال خمسين سنة، مرميا على أرض شارع (المتنبي)، يُباع بسعر التراب " .
قال لي ذات مرة ان العيش المتواصل مع القراءة اشبه بمغامرة تلتقي خلالها بأناس ربما لا يشاركونك همومك، لكنك تتقاسم معهم تجربة الحياة
العام 1995 يصدر روايته " خاتم الرمل " لكنه ظل مسكونا بفكرة " كيف يُداس إنسان حساس من قبل مجتمعه ومن قبل أقرب الناس إليه " . ولدت فكرة المسرات والاوجاع:" لقد ابتلعتني فكرة الرواية فانكببت أعمل فيها يوميا، على غير عادتي، وبشكل منتظم وممتع, حتى أكملتها في أقل من سنة وهو وقت قياسي بالنسبة لي"، كان يريد ان يكتب ملحمة شبيهة بملحمة مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود . قال لي التكرلي في الحوار المةسع الذي أجريته: هل تعرف ما معنى كتابة رواية رديئة، يقول مارسيل بروست لصديقه مورياك: " إنه الابتداء بموضوع كبير، على أمل ان ينتج هذا في النهاية المشتقات الضرورية من الشخصيات والحوار..لأن تفكيراً كهذا يؤدي إلى رواية رديئة حين يتجاهل الكاتب الأشياء الصغيرة وتوافه الحياة في سبيل ملاحقة التفاصيل المنطقية لفكرته الكبيرة "
تصدر المسرات والاوجاع عام 1998، قال انه شعر بفراغ كبير بعد الانتهاء:" حالما أنتهي من إنجاز عمل روائي كبير نسبيا، أحاول إعادة الصخب إلى نفسي عن طريق القراءة " .. يكتب فؤاد التكرلي:" الكتاب عليهم ان يصنعوا المستقبل دون انتظار لشهرة أو مال، وليس لهم أن يسألوا: ما جدوى كل هذا ؟ أن عملهم هو الثواب .اما الباقي فلتجار الحروف " – مجلة الاداب آب 1973
اربيل نهاية نيسان عام 2007
سالتقي بفؤاد التكرلي المرة الاخيرة، كانت صحته هي أول ما سألته عنها فغمغم بما جعلني أتوجس بأنه ينتظر النهاية التي حاول محبوه وأصدقاؤه الفرار من توقعاتها المقبضة .. كنت أنظر إليه وهو يكاد يجرّ قدميه، وقد هزل جسمه إلى درجة لافتة،، في ذلك اليوم ابتسم لي وهو يسألني:هل قرات "الأوجاع والمسرات "؟ . كنت قد قرأت الرواية منذ سنوات وهالني قدرة الروائي على تصوير الأحداث .. حتى أنني قلت له: في المسرات والأوجاع كنتَ تصوّر لا تكتب .. علت وجهه ابتسامة شاحبة .. سرعان ما اختفت عندما بدأنا نتحدث عن الرواية قلت له: بطل الرواية توفيق كان مغرما بتولستوي ودستوفسكي وبالادب الروسي بوجه خاص .. فيما أنا كنت أتصور أنك مغرم بفوكنر ومارسيل بروست، صمت قليلا ثم تحدث ببطء شديد قائلاً: وأنا في تونس أعدت قراءة تولستوي بشكل خاص فاكتشفت أن تخطيط الرواية عنده في الحرب والسلم غير منظم ولا متسق، قد تجد عشرات الصفحات في الرواية تنفق في وصف شخصية من الشخصيات وصفا دقيقا، في حين أنك لا تجد هذا عند مارسيل بروست أو فلوبير حيث عندهم كل شيء منظم بدقة وليس له طول، يذكرك بالسهول الروسية الواسعة
كان التكرلي يتحدث وهو يراقب ما يدور حوله.. يصمت قليلا ثم يتحدث بهمس " كنت كلما أجلس قرب والدي الشيخ ممسكا بكفه ذات العروق الزرقاء البارزة، أحس بقدوم الغياب قبل وقوعه، مما جعلني وأنا في سن الطفولة تلك أتشبث بالأشخاص والأشياء إلى النهاية .. ثم سرح وكأنه يتأمل عالما يضجّ بالأشخاص، يسألهم عن أحلامهم، يصغي إلى آلامهم وحكاياتهم، ويترفق بهمومهم وعذاباتهم، ويحضر أفراحهم.
في 11 شباط 2008،وفي غروب لا يشبه غروب بغداد التي عشقها ..وفي لحظة تتداعت فيها الأمكنة والأزمنة ينهي فؤاد التكرلي الفصل الأخير من رواية حياته، وهو على سرير المرض في مدينة عمان الاردنية، نهاية تشبه السطور الاخيرة من الرجع البعيد:" حين تبدأ الخاتمة . وكنت هادئ النفس كمن خُدر، لا أرى شيئا أمامي .شاعراً أني قد استطيع، أن أدرك معنى الانتهاء "
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية