تقارير وتحقيقات

عدنان حسين أحمد: دلال الصبّاغ وجمال النصّاري..

تلاقح العمود وقصيدة النثر في أمسية شعرية

ضيّف "مركز لندن للإبداع العربي" الشاعرة العراقية دلال الصباغ والشاعر العربستاني جمال النصّاري بأمسية شعرية قرأ فيها الشاعران عددًا من قصائدهما التي توزعت بين الشعر العمودي الذي تبنّتهُ الشاعرة دلال الصبّاغ وبين قصيدة النثر الحديثة التي اعتمدها الشاعر جمال النصّاري. وقد أضفى هذا التضّاد الأسلوبي جمالًا على الأمسية التي كان يتنقّل فيها الشاعران من الشعر (الموزون والمقفّى) إلى قصيدة النثر وتجلياتها في الشعر الحرّ والمُرسل وقصيدة الومضة وما إلى ذلك. كما تخلّلت الأمسية مقطوعات موسيقية قدّمها عازف العود المُرهف سيف النفاخ من بينها "بعيونك عتاب" و "عمّة يا عمّة" و "تحبّون الله ولا تقولون"وختمها بالنشيد الوطني العراقي الجميل "موطني".
قدّمت الشاعرة والباحثة دلال جويّد الشاعرين بطريقة احترافية وتوقفت عند السيرة الذاتية والإبداعية لكل منهما على انفراد. فالشاعرة دلال الصباغ من مواليد بغداد وخرّيجة معهد المعلّمات بالمنصور. أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى التي انضوت تحت عنوان "وجهٌ غريب" وتتهيأ لإصدار مجموعتها الشعرية الثانية التي تحمل عنوان " سلامٌ للورد". أمّا الشاعر العربستاني جمال النصّاري فقد أصدر مجموعتين شعريتين وهما "عندما أموت" و "الجريمة"، ولديه عشرة كتب أخرى تأليفًا وترجمة باللغتين العربية والفارسية.523 dalal alsabagقرأت دلال الصبّاغ ست عشرة قصيدة استهلتها بنصٍ تعريفي يقول مطلعه:"هنا حرفٌ وصوتٌ تائهٌ يهذي بلا عنوان" وختمتها بقصيدة "سلامًا يا سنين العمر مُرّي" وقرأت بينهما 14 قصيدة عمودية نُظمت غالبيتها على بحر "الكامل" وبعضها على بحر "الوافر" والبعض الآخر على بحريّ "الرجز" و "الهزج" وما سواهما من الأبحر الموسيقة الصافية التي أثارت إعجاب الحاضرين ودفعتهم للتصفيق غير مرة في إشارة واضحة إلى تفاعلهم الوجداني مع النصوص الشعرية الموزونة والمقفاة رغم أنها قرأت هذه القصائد بنبرة خافتة دفعت الجمهور أكثر من مرة إلى المطالبة برفع صوتها "الرقيق الناعم" على حد وصف المُقدِّمة دلال جويّد التي لم تنحسر ابتسامتها المضيئة على مدار الأمسية التي جاوزت الستين دقيقة بقليل ولم يتسرّب فيها الملل إلى الحاضرين. من بين القصائد التي قرأتها دلال "لستُ بشاعرة" حيث لعبت على المعنى مرتين: الأولى التي تجرِّد نفسها من صفة الشاعرة مع أنها كذلك، والثانية تنفي شعورها به أو تستبعده في أضعف الأحوال "من غابَ هجراً لستُ فيهِ بشاعرة". نظّمت دلال هذه القصيدة على بحر "الكامل" ومفتاحه:(كمل الجمال من البحور الكامل * * * مُتَفاعِلُنْ / مُتَفاعِلُنْ / مُتَفاعِلُنْ). كما قرأت قصيدتين أُخريين مكتوبتين في البحر ذاته وهما (مكسوةٌ بالحزنِ بعض ملامحي / ومنعّمٌ بالعزّ كُحل المُقلتين) و (يرتابُ صبرٌ للحليم ويَسْلمُ / ما التاعَ قلبٌ بالإشارة يفهمُ). ودبّجت القصيدة الرابعة بمجزوء الكامل: (وأنا أتمتم دمعةً / بالكاد يسمعها البكاء). كان بحر الوافر حاضرًا أيضًا في أكثر من قصيدة مثل: (سلامُ الزهر لا يُخفيك شوقًا / ويُقرنكَ الندى وجدًا سخيّا). ومفتاح هذا البحر (بحور الشعر وافرها جميلُ / مفاعلتن مفاعلتن فعولُ).524 dalal alsabag جادت قريحة الشاعرة دلال الصباغ بقصيدة مكتوبة على بحر (الرجز) استهلتها بهذه الصيغة الاستفهامية الجميلة: (قال: هل لي بسؤال / قلتُ بالطبعِ أجلْ) ومفتاح هذا البحر هو: (في أبْحُر ِالأرجازِ بحرٌ يَسْهُلُ / مستفعلن / مستفعلن / مستفعلُ). أمّا البحر الرابع فهو (الهزج) الذي كتبت فيه "حروف ملء أزمنتي / تخطّى صمتها عدّا) ومفتاح هذا البحر (على الأهزاج تسهيل / مفاعيلن / مفاعيلُ).
مع أنني لم أطلّع على مجموعتها الشعرية الأولى لكنّ هذه القصائد الست عشرة كفيلة بأن تُعطي صورة وافية عن موهبة الشاعرة دلال الصباغ فهي تجترح الصور الشعرية وكأنها "تغرف من بحر"، كما أنّ لغتها عفوية، سلسة، ومنسابة ولا تحتفي بوعورة الكلام، بل أنّ بعض القصائد القصار تبدو وكأنها سبيكة من ذهب، فهي، اعتمادًا على سمعنا في أثناء هذه القراءة، لا تميل إلى المطوّلات الشعرية وإنما تكتفي (بما قلّ ودلّ).
قرأ الشاعر العربستاني جمال النصّاري عشر قصائد متفاوتة الطول، ومتنوعة في الأشكال والمضامين الشعرية من بينها "امرأة ثرثارة" و "محض مصادفة"، و "قلبي الذي تركتهُ في مطار الأحواز" وما سواها من القصائد النثرية التي منحته حرية كبيرة في التعبير عمّا يجول في نفسه وذاكرته الملتاعة التي تتوهج كلما تقادمت الأعوام.دعونا نعترف بأنّ جمال النصّاري هو شاعر جريء تعتمد قصيدته على البنية المتضادة للصورة الشعرية التي يمكن أن تهزّ القناعات الدينية للكثير من المتلقين، ففي قصيدة "غياب" التي قرأها في مهرجان المربد الشعري الثالث عشر لعام 2017 وأعاد قراءتها في هذه الأمسية حيث يقول: "امرأة ثرثارة / أفضلُ من دين ثرثار/ هي تؤمن بنهديها / هو يؤمن بالنكاح". يندرج هذا النص الشعري ضمن قصائد (اللمحة) أو (الومضة) أو (القصيدة التنويرية) التي تشبه إلى حدٍ بعيد قصائد (الهايكو) اليابانية التي تعتمد كثيرًا على اللغة المتقشفة، والصياغة المقتصدة، والصورة الشعرية المعبِّرة، والنهاية الصادمة التي لا تغادر ذاكرة المتلقي في الأعمّ الأغلب.525 dalal alsabagكثيرة هي قصائد جمال النصاري التي تستغور الكتب المقدسة، وتحاور الله (جلّ في علاه)، ولعل البعض منها يقسو على رجل الدين الذي هو، بشر في خاتمة المطاف، يخطأ ويصيب، ويرتكب مثلنا المعاصي والذنوب. وقصيدة (محض مصادفة) تستجيب لبعض هذه الأسئلة التي نقتبس منها: ( . . .أيها الغرباء لذنوبي كبرياء / وللماء سيدة ترشُّ عطرها في الكنيسة حُبًا بشهوتها الأخيرة. / سأسألُ الله هل يمنحني وقتًا لأرتكب ما لم ترتكبه الآلهة / أيقظَني منبّه الساعة / وبقيَ حواري ناقصًا مع الربّ / كل شيء محض مصادفة). وفي قصيدة (لها نهدٌ) يقول في مقطعها الأخير: (... لا تفتحي أزرار القميص / أخاف عليكِ من آخر نبيّ نسيَ سجّادته قرب النهر قبل أن يغتسل / أرجوك استيقظي / فما زال النهر يعشقكِ / كما تعشق الرذيلةُ الفقيهَ الذي خانَ زوجتهُ في الجنّة). قصيدة (صمت) تتحرّش بالتابو الديني أيضًا وقالت ما لم يقله الكثيرون من المنقطعين للهمّ الشعري حيث يقول باقتصاد شديد أيضًا: (نُولد من الماء / ونموت في الماء / لماذا جعلت من الماء / كل شيء حيّ؟).
تتنوّع أمسيات "مركز لندن للإبداع العربي" بين القراءات الشعرية، والندوات الأدبية والفكرية، والأماسي الموسيقية والفنية وأتمنى على الشاعرة دلال جويد أن تحوّل الندوات القصصية والروائية إلى مختبر سردي ثابت يُنظِّم ندوة واحدة في الشهر على مدار السنة ويُرسي عُرفًا نقديًا لم نألفه في السنوات الماضية وبهذا يكون لها قصب السبق بين الجمعيات والمقاهي والأندية الثقافية المبثوثة في عاصمة الضباب.
***
لندن: عدنان حسين أحمد

في المثقف اليوم