مرايا فكرية
المثقف في حوار خاص مع الدكتور مجدي إبراهيم (1): التصوف
خاص بالمثقف: الحلقة الأولى من حوار خاص مع أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف في مصر الدكتور مجدي ابراهيم، ضمن مرايا فكرية، وحوار شامل أجراه معه الأستاذ الباحث مراد غريبي، حول التصوف في عالم المعرفة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً بهما:
مفتتح:
يعد التصوف في عالم المعرفة الإسلامية حقل من الحقول المهمة التي تحتاج لإستظهار وعناية ثقافية خاصة، حيث شهدتْ الإنسانية خلال العقدين الأخيرين عناية خاصّة بساحات مباحث التصوف والعرفان والتربية الروحية لدى أغلب الديانات السماوية والوضعية، وازداد الاهتمام بالتصوف سواءٌ في آفاق الدرس الفلسفي والفقهي والتربوي الإسلامي أو البحث الاستشراقي في الغرب والشرق، وتنوّعت المساحات المختلفة في نقاش هذا المبحث الثقافي الإسلامي، وفي هذا الحوار مع الأستاذ الدكتور/ مجدي محمد إبراهيم - أستاذ الفلسفة الإسلاميّة والتصوف بجامعة أسوان (مصر)- نجتهد في تسليط الضوء على حقل التصوف ومباحثه ضمن المجالين الإسلامي والاستشراقي، وذلك من خلال ثلاثة محاور: التصوف، القيم الروحية في الإسلام، الدراسات الاستشراقية للتصوف (التاريخ والمثاقفة):
أ. مراد غريبي: بداية، هلا عرفتنا عن شخصكم الكريم الأستاذ الدكتور مجدي محمد إبراهيم؟
د. مجدي إبراهيم:
بادئ ذي بدء سعيد جدا بهذه الضيافة الحوارية الطيبة وأتمنى أن ينتفع قراء صحيفة المثقف الغراء من مضامين هذا الحوار الخاص واتمنى لكما خالص التوفيق الأستاذ مراد غريبي والمفكر الإسلامي الكبير الأستاذ ماجد الغرباوي، شاكرا لكما هذه الثقة والود والإحترام أما بعد:
الأستاذ الدكتور مجدي محمد إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف من مواليد 30/10/1965م بمصر أرض الكنانة، رئيس قسم الفلسفة كان من الفترة 2015-2019 بجامعة العريش ونقلت مؤخرا إلى جامعة أسوان مطلع سنة 2020م..
المشوار العلمي:
تحصلت على ليسانس الآداب- قسم الفلسفة دورة مايو 1987م جامعة الاسكندرية، وماجستير الآداب قسم الفلسفة تقدير ممتاز سنة 1993م جامعة الزقازيق بعنوان: "حال الفناء بين الجنيد والغزالي" .
ثم نلت شهادة الدكتوراه سنة 1995م بمرتبة الشرف الأولى بجامعة الزقازيق بعنوان: "مشكلة الموت عند صوفية الإسلام"
النتاج العلمي:
لدي العشرات من المؤلفات أغلبها حول مسائل التصوف وشخصياته ومفاهيمه وما هنالك من إضاءات حول حيثياته أذكر منها:
* كتاب فعل الهمة في المحبة والإرادة عند الصوفية،
* كتاب التجربة الصوفية (بحث في تحقيق العلاقة بين اعتقاد الثنائية ورؤية الواحدية في تجربة العارف الروحانية) من تصدير أستاذنا القدير المرحوم الدكتور عاطف العراقي،
* أيضا كتاب التصوف السني: حال الفناء بين الجنيد والغزالي (في الأصل رسالة الماجستير)
* و كتاب التصوف عند ابن خلدون
و غيرها من الاصدرات حول شخصيات صوفية مثل:
* كتاب أبو القاسم الجنيد (السر في أنفاس الصوفية)،
* كتاب أبو العباس المرسي (مذهبه وآراؤه الصوفية)،
وكتب مفاهيمية ذات علاقة بالتصوف:
* كتاب حديث الولاية (اضاءات معرفية للدعائم والمرتكزات)
* كتاب الحرية عند ابن عربي، الذاتية الخاصة للقرآن الكريم (دعائم تأصيل التفسير الإشاري)،
* كتاب الحياة الباطنة في تصوف الإمام الشعراني،
* وكتاب فكرة إسقاط التدبير في تصوف ابن عطاء الله السكندري...
إلى غير ذلك من المخطوطات التي تنتظر الطبع، بالإضافة إلى أبحاث ومقالات ودراسات منشورة في العديد من الصحف والمجلات، ناهيك عن المشاركات في المؤتمرات العلمية والثقافية داخل مصر وخارجها، مع الإشراف على رسائل الجامعية وكذا مناقشتها.
القسم الأول: التصوف في عالم المعرفة الإسلامية
س1: أ. مراد غريبي: رغم أن التصوف مفهوم شائع لكن مازال يحيط نفسه بكثير من الغموض، ويبدو كأنه لغزاً لا يمكن اختراقه، أتمنى على سعادة الدكتور مجدي بدايةً أن يقدّم للقارئ مفهومه عن التصوف من خلال أهم معالمه؟
ج1: د. مجدي إبراهيم: إذا كنت تقصد التصوف في الإسلام؛ فهو ثورة روحية باطنة تقوم في قلب صاحبها بغير مُنَازَع، تعتمد الذوق منهجاً لها تدور في فلكه، وتتناول قضايا الدين والعقيدة على أساسه، فهو بحق زبدة عمل العبد بالكتاب والسنة كما تقرّر هذا التعريف لدى القدماء، شريطة أن تكون هذه الزبدة هى الخلاصة التي يصل إليها العبد من طريق الذوق والتبتل والمراقبة بُغية إعلاء التوجه الروحي في إطار العقيدة الإسلامية قبل كل شيء. وإذا كان التصوف ثورة روحيّة فهو من أسس العقيدة الإسلامية ينطلق، ولا يتوقف عند حد محدود؛ ليصل إلى المعرفة بالله حقيقةً. والفرق كبير جداً بين العلم بالعقيدة، أصولها وأسسها وضوابطها وأحكامها، وبين ممارسة العقيدة كحياة ومعايشتها من الباطن وتشربها في كيان من يدين لها بالولاء حتى الرمق الأخير.
في الحالة الأولى تظل العقيدة مجرد رأي ودراسة من خارج، منعزلة عن التوهجات القلبية والعمليّة. وفي الحالة الثانية تمضي بصاحبها تحقيقاً إلى ملكوت العرفان. هنالك تتوحّد العقيدة مع المعرفة، ويتوحد الكيان الإنساني كله في ذاته ولا يفترق ولا ينقسم على نفسه أجزاء متناثرة كل جزء منها يبحث عن إشباع حاجاته فيتشتت هم الإنسان ويتفرّق، لا بل في ظل العقيدة يصبح التوجه روحياً خالصاً نحو طلب الأولى والأعلى متسامياً عن الدنيا مرتفعاً بالمقاصد العليا إلى التعلق بالقيم الكبرى في إطار المبدأ العقيدي الذي يدين له بالولاء: التوحيد.
إذا خلت العقيدة من معرفة الله في كيان صاحبها أقفرت وأصبحت جدباء خاوية من الفاعلية والحركة النافعة، وإذا استولت على المعرفة على قلب المؤمن كان طلبها في ذاتها محاولة ناجحة لا شك فيها للعرفان. المهم أن يصدق في القلب الطلب وأن تزول عنه عوائق ما يطلب، وأن يكون طلبه على الدوام صادقاً من جهة اليقين الذي لا يداخله شك، هنالك تصبح حركة السلوك الديني موالية للعقيدة التي يعتقدها ويدين لها صاحبها بخالص الولاء.
ولم تكن حركة بغير هدف قصدي عميق في باطن الوعى الشعوري؛ بل هدفها الأول والأخير معرفة الله.
لكن المعلم البارز في كل تصوف وفي أي تصوف هو عندي يكمن في "التجربة الصوفية"، لا يصح أن يُقال عن الصوفي إنه صوفي بغيرها، ولا يمكن أن نصف الصوفي بأنه صوفيُّ ما لم يكن صاحب تجربة.
وهذه النقطة تحتاج إلى شرح لذلك سوف أتوقف عندها بالمقاربة بين تجربة الشاعر وتجربة الصوفي:
فأقول؛ قد يُعجبنا من كل متصوف خصوصية فيه ومزيّة ينزع إليها، ويصنّف بين الصوفية وفق تملكه إيّاها واتصافه بها؛ فالذي يتميز به أبو طالب المكي غير الذي يتميز به الغزالي، والذي يتميز به هذين غير الذي يتفرد به الجنيد والحكيم الترمذي أو البسطامي أو الحلاج أو ابن عربي أو السهروردي أو ابن سبعين. والذي يستحق به كل واحد منهم صفة الروحانية غير الذي يستحقها به البقية، فيما لو أخذنا بتصنيفات "الباحثين" لا تجارب "العارفين" بين تصوف سنيّ أو سلفي أو إشراقي أو فلسفي وشبه فلسفي على اختلاف الضروب واختلاف التقسيمات.
ومع أن مزايا التصوف كثيرة جداً غير أنها تتفرَّق بين الأولياء والصوفية ويتفرَّق النزوع إليها والإعجاب بها، مشاربَ وأذواقاً، بين الدارسين والباحثين. وقد يُحرم الصوفي إحداها أو أكثرها وهو من بعدُ صوفيٌّ لا شك في صوفيته؛ لأنه يحسن ضرباً من الصوفية تصحُّ بها صوفيته ولا يشك فيها أحد. فقد يعجبنا من كل متصوف خصوصية فيه ومزيّة ينزع إليها, غير أن المزية التي لا غنى عنها والتي لا يكون الصوفي صوفياً إلا بنصيب منها هى مزية واحدة لا خلاف في الرأي عليها: "التجربة الصوفيّة"، وطلب المعرفة الإلهية من طريق الذوق والتبتل وهو مطلبٌ عادل للذات المؤمنة لا شك فيه ولا غبار عليه. فكما تكون "الطبيعة الفنية" مزية الشاعر المطبوع لا غنى عنها ولا يكون الشاعر شاعراً إلا بنصيب منها كما يقول الأستاذ "العقاد" في مقدّمة كتابه عن "ابن الرومي حياته من شعره"؛ كذلك تكون "التجربة الصوفية" مزية الصوفي الأصيل، لا يكون الصوفيُّ صوفياً على الحقيقة إلا بنصيب منها. وليس هناك من عجب أن يتلاقى الشاعر المطبوع مع الصوفي الأصيل؛ فما أقرب الصلة الوثيقة بين الشعر والتصوف، وما أبعد الخلاف بينهما في غور التجربة ويقظة الإحساس بجوانب الحياة المختلفة، مع الوضع في الاعتبار فارق "التوجه" وفارق "التعلق"، ومع الاحتفاظ بالمصدر الشعوري واليقظة الروحية في كلتا التجربتين. فلا يوجد صوفي واحد له رأي أو مذهب أو أثر من آثار الكتابة والتدوين ولا تكون له تجربة روحيّة ينطلق منها ويعتمد عليها ويتذوق آثارها فيما يرى أو يقول؛ فلئن فاتته التجربة فلم يستطع خوضها وركوب متاعبها؛ فلا يخلو من شرط التعاطف معها على أقل تقدير.
لأجل هذا؛ تجئ التجربة الصوفية دائماً أسبق لدى الأولياء والعارفين من الفكرة الفلسفية. وما الفكرة الفلسفية في ظلال التجربة الحيّة المعاشة إلا بمثابة شرح العقل النظري لتجارب العمل والإنشاء في إطارها. ولولا وجود التجربة الصوفية معتمد الأولياء والعارفين ما صَحَّتْ على الإطلاق أذواقهم ولا مشاربهم ولا أحوالهم, وما صَحَّ لهم حال ولا سرُّ ولا معرفة ولا علم ولا نظر، بل ولا مذهب ولا نظرية ولا رؤية ولا استقام لهم طريق؛ إذْ التجربة الصوفية مناط الثورة الروحية ومستندها، وأساس الثمرة المرتقبة من وراء المذاهب والآراء. وعلى هذا الأساس, لا على أساس غيره، ينبغي أن تُفَسَّرَ كل الآراء الصادرة عن المتصوفة في إطارها ولا تُفَسَّرُ في إطار سواها.
س2: أ. مراد غريبي: من الناحية التاريخية هناك اختلافات كثيرة حول نشأة التصوف ضمن خط الزمن الإنساني؛ فهناك من يربط التصوف بالديانات الإبراهيمية كلها، والبعض يحصرها منذ القرن الثالث الهجري، وأن الفكر الصوفيّ أعتمد فلسفات أجنبيّة كالهندوكيّة والبوذيّة والفارسيّة، ويرون أصحاب هذا الرأي أن الغالب من مفاهيم التصوف ترجع لتأويلات وتفسيرات النصوص المقدّسة في الديانات اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة، ما تعليقكم دكتور مجدي؟
ج2: د. مجدي إبراهيم: أعتقد أن الإجابة على سؤالك هذا ترتبط مباشرة بما أسلفت، لكن لا بأس من التنويه إلى التفرقة بداية بين ما يُقال عن التصوف في الإسلام وهو القائم على "المضمون الديني"، على الكتاب الكريم وسنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وبين التصوف في الحضارات والثقافات الأخرى ممّا عساه يندرج مباشرة تحت "التصوف المُقارن". هذه التفرقة ضرورية جداً لتلمس "وَحْدَة القصد" والتوجه. التصوف في الإسلام، والسني منه خاصّة، توجه بالروح وفق مضمون الكتاب العزيز وتطبيق تعاليم سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، هو تصوف عملي، حياة يومية، ترتقي بالضرورة مع التوجه وتتوخى وَحْدَة القصد، بالروح والأخلاق. أما التصوف المقارن في الحضارات والثقافات الأخرى أو حتى في الأديان الكتابية: اليهودية والمسيحية؛ فيغلب عليه الجانب النظري، طابع الدرس للدرس فقط، لا السلوك العملي والممارسة اليومية، هو مجرد مقارنة أفكار قد تتشابه وتتلاقى أو تختلف وتتباين، فالمقارنة هنا نظرية تتوجه للفكرة أكثر من الجانب العملي التطبيقي. ونحن إذا قلنا عملاً وتطبيقاً وضعنا التجربة الصوفية في أولى الاعتبارات.
فلا يعقل أن يقرأ المتصوف وهو يدين بعقيدة الإسلام عن التصوف الهندي، أو تصوف أفلوطين، أو التصوف في اليهودية، أو في المسيحية، ثم يطبق هذا في حياته العملية سلوكاً يومياً وممارسة فعلية. لا يعقل عاقل هذا بقرابة البداهة.
أضف إلى ذلك كله، وهو المهم، أن الاختلافات الكثيرة حول نشأة التصوف الإسلامي فيما تفضلتَ بذكره إنمّا ترتد إلى نظرية المصادر وهى نظرية قديمة أنتهجها المستشرقون وفق منهج "الأشباه والنظائر"؛ لتفسير نشأة التصوف في الإسلام من أين جاء وعلامَ اعتمد؟ فالبحث في أصل الكلمة نفسها وفي مدلولاتها المباشرة وغير المباشرة، يرتبط ارتباطاً شديداً بتفسير المصدر الذي أريدُ أن أنسب إليه نشأة التصوف الإسلامي؛ فإذا كنت أريد أن أقول إن التصوف في الإسلام مأخوذ من المصدر اليوناني، ركزت بدايةً على البحث في أصل الكلمة "صوفيا". وإذا أردتُ أن أقول إنّ التصوف في الإسلام يرتد إلى المسيحية بحثت بدايةً فيما عساه يلقي الضوء على التشابه بين لباس الرهبان ولباس الصوفية، أو جعلت من عبارة الغزالي التي يقول فيها "تعلمت المعرفة من راهب يُقال له سمعان" هى أساس منطلقاتي الفكرية؛ بجعل التصوف في الإسلام مستنداً على أسس مسيحية ... وهكذا.
لكن هذا التشابه الشكلي بنظرة فاحصة مُدققة هو خارج عن نطاق المضمون الديني في الإسلام، ليس بداخل فيه ولا بالمؤسس له حقيقةً. فمن عساه يرد التصوف الإسلامي إلى أصول هندية أو يونانية أو مسيحية يعتمد منهج "الأشباه والنظائر"، فلبْسُ الصوف واتخاذ السِّبح والمقاربة بين دلالة الكلمات، كلها أشياء تتشابه فيما بينها من حيث الشكل الخارجي، ولكن "التشابه لا يلغي عندي المضمون"، ولذلك؛ أنا أرفض هذه النظريات الشكلية وأقابلها بنظرية "المضمون الديني" في مواجهة عمق التجربة الصوفية نفسها من ناحية، وفحص أصول الكلمات المتشابهة بين أنواع التصوف الكثيرة في الثقافات والحضارات المختلفة ومقارنتها بما في المضمون الديني الإسلامي من ناحية أخرى، ليتبيّن لنا بعدُ تلك المعالم البارزة كخصائص لكل تصوف على حدة. إنما الأمر متخلف في التصوف الإسلامي الذي يقوم على وعي المسلم بمضمونه الديني، واتصال هذا المضمون بممارساته اليومية، واقتداره على توظيفه في حياته فكرة وتطبيقاً.
خذ مثلاً توضيحياً آخر على هذا عساه يفرّق لنا بين قراءة التصوف قراءة أيديولوجية وبين ممارسته على الواقع الفعلي: كثيرون من المنظّرين، أصحاب الرؤى والاتجاهات الفكريّة والمعتقدات العلميّة، يعرضون للتصوف قدْحَاً، وعلى غفلة، فيتعرّضون؛ في زعمهم، لأخطر ما فيه، فلا يرون منه، مع ما فيه من خطورة، إلا ما يُشْبه الهوس، يُحلق صاحبه بعيداً عن واقعات الحياة وفروضها، مع أن هذا الشيء الخطر ليس من التصوف في شيء، هو فقط من أدمغتهم، تحليلاً وتخريجاً، وتلويثاً. وإنْ شئت قلت: ومن أبخرة عقولهم الملوثة بلوثات الفكرة الأرضيّة.
فتارة ينسبون إليه ضعف التوجّه، وينعتون صاحبه بفقر القوة على ملاقاة الحياة الصاخبة بمتطلباتها اليومية، وتارة يضفون إليه الحيل الهروبية والانسحابية؛ لهزال نفسي يمسُّ تكوين الشخصية، وتارة يقارنون بينه وبين الابتكارات العلميّة بغية إخضاعه عنوة إلى تطبيقات المنهج العلمي مع أنه ليس بعلم، وتارة يصفونه بالمرض العصابي يلمُّ بأشخاص فقدوا تحقيق رغباتهم الدنيوية، فتمكن منهم المرض العضال فلم يجدوا سوى التصوف يريحهم من عناء الأزمات، وتارة ينسبونه إلى مصادر غير إسلامية: يونانية أو فارسية أو هندية أو مسيحية كما فعل قادة الفكر الاستشراقي، مع فارق في التخريج غير قليل، في نسبة الإبداع الفكري الإسلامي برمته إلى مصادر غير إسلامية؛ وهكذا دواليك: حالات غربية من الإسهال النظري المُدْلج لمعرفة كُنه الحقيقة الروحيّة بغير طرقها ومناهجها وأدواتها ووسائل الاتصال بها. وإنما في بطن التجربة تجود المعرفة ويجود البيان.
أقول؛ إنّ هذا الشيء الخطر هو توهم كشف حقيقة التصوف مع أن ما كانوا تعرّضوا له ليس بتصوف؛ لأن الكلام عن التصوف شيء، وحقيقة التصوف شيء آخر، وكذلك تجئ الكتابة عن التصوف شيء، والاتصال بالحالة الصوفيّة شيء آخر؛ تماماً كحلاوة العسل أو تجربة الحُب، أو لذة الجماع، كلها أمور مهما وصف لك الواصفون من شأنها، فلن تستطيع أن تتحقق منها ما لم تحصّلها بنفسك: تتذوقها، وتباشرها، وتعايشها حياة خالصة، وتجرّبها بنفسك غير خاضع فيها لرأي سالف ولا بمعرفة نظريّة سابقة على التجريب.
وهذا هو الفرق الفارق بين القراءة الأيديولوجية للنصوص الصوفية كونها مجرّد كلمات خاضعة لمشارط التحليل والنقد والتنظير، ثم لمناهج تستنها مدارس فكرية بعينها وتوظّفها توظيفاً حسب مقتضياتها وأهدافها فيما تراه، وبين التصوف في ذاته؛ كونه سلوكاً له قواعده النظريّة غير أنها موقوفة على الاستشعار والاستبصار، والاستغراق في قلب هذه القواعد إلى حياة مُحَقَّقة في الواقع الفعلي. أقصد واقع هذه الشخصية أو تلك من ذوات التجارب الكبرى.
فلن تكون متصوفاً مهما قرأت ألآلاف ألآلاف المصنفات الصوفيّة، أو كتبت في هذا الميدان ما لا يُحصى عدّه من المؤلفات. لن تكون متصوفاً على الحقيقة ما لم تتجرّع مرارة الصبر في غير تعبيس، وتأخذ الحقيقة من أهلها لا من عقلك أو من نفسك!
أمّا العنجهية الفكريّة والصَلَف المعرفي والأيديولوجيات النظرية؛ فهي تخريجٌ بليدٌ فاسدٌ؛ بل وموغل في الفساد، يفسد أذواق النصوص الصوفية ويُلقي بها في متاهات الأوهام.
كل ما كتب في التصوف أو عنه ليس بتصوف، إذا نحن عددنا التصوف بالفعل هو:"الأخذ بالحقائق"، على حد تعبير معروف الكرخي المتوفى عام ٢٠٠ من الهجرة، والحقائق لا تدوّن في كتب، ولا يُنَظّر لها، ولا تكشف للباصرة النظريّة، أو للمعوان العقلي، ولكنها مع ذلك تكشف. إنما تكشف بتجليات باطنة تتجلى (فضلاً) من عون الله على قلوب الأتقياء، لذلك كان التصوف أمراً باطناً، لا يُطلع عليه، هو علاقة خاصّة مخصوصة بين العبد وربّه، هو الإخلاص وكفى.
مَنْ يودْلِج لهذه العلاقة دون أن يعرفها أو يشم منها رائحة، يضرب في واد غير ذي زرع، ثم لا يخرج بشيء إلا كما يخرج به غربال من بئر.
س3: أ. مراد غريبي: هناك شخصيات تاريخية دينية كان لها السبق في صياغة التصوف الإسلامي، أي شخصيات رسمت معالم التصوف إسلامياً؟
ج3: د. مجدي إبراهيم: أشرت فيما سبق إلى مثل هذه الشخصيات، وهى الشخصيات الكبيرة في التصوف، أصحاب التجارب الصوفية، من أهمها وأبرزها شخصية أبي القاسم الجنيد بن محمد البغدادي "طاووس العلماء" "وسيد الطائفة" المتوفى سنة (297هـ)، يمثل التصوف السّني الخالص، وقد قمت بدراسته في مرحلة الماجستير ووفقني الله مؤخراً قبل سنوات إلى تحقيق ودراسة كتابه "السّر في أنفاس الصوفية". وفي كتابنا "التجربة الصوفية" الذي قدّم له أستاذنا الدكتور عاطف العراقي، عليه رحمة الله، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة سنة 2002م، وأهديته إذ ذاك إلى رائد التصوف في العالم العربي الدكتور أبو العلا عفيفي، رحمه الله؛ درست تجارب الصوفية الكبار حسب التصنيف التقليدي: تجربة البسطامي (ت261هـ) الاتحادية. وتجربة الحلاج (309هـ) الحلولية. وتجربة السهروردي المقتول سنة (589هـ) الإشراقية. وتجربة ابن عربي (ت638ه) في وحدة الوجود. وتجربة ابن سبعين (ت669هـ) في الواحدية المطلقة، بالإضافة إلى تجربة الغزالي (ت 505هـ) في التصوف السّني، والتي سطرها بصدق صادق لا شك فيه في "المنقذ من الضلال".
تلك كانت شخصيات كبيرة ومؤثرة في التصوف الإسلامي، هذا فضلاً عن قدماء كتاب التصوف الأوُّل كالسراج الطوسي صاحب كتاب "اللمع"، وأبي طالب المكي صاحب "قوت القلوب" والكلاباذي صاحب "التعرف لمذهب أهل التصوف"، والقشيري صاحب "الرسالة" وغيرهم الكثير والكثير.
س4: أ. مراد غريبي: من الإشكالات الحاصلة في حقل الدراسات الإسلامية المُفارقة بين مفهومي العرفان والتصوف أو التصوف السني والعرفان الشيعي وكذا ما يسميه بعض المخالفين التصوف الطرقي أوالعرفاني، كيف يمكننا تفكيك هذا المأزق المفاهيمي والتعقيد الأبستيمي إنْ صح التعبير؟
ج4: د. مجدي إبراهيم: أولاً: أنا لا أحبذ استخدام كلمة "التصوف الطرقي" هذه، لأنها ليست مفهوماً ولا مصطلحاً، بل هى كلمة عامية تشعرك بالسخرية والاستخفاف من الطريق الصوفي، وأي سخرية أو استخفاف غير مقبول علمياً، فضلاً عن أن كلمة الطريقة هذه كلمة قرآنية "ولو استقاموا على الطريقة"، غير أن التصوف كلٌ كامل لا تقسيم فيه، معطى روحي، هو علم ذوقي له أصوله ومعطياته، لا يحتمل تنصيفاً ولا تقسيماً اللهم إلا أن يكون تقريباً للأذهان.
ثانياً: يُلاحظ أن مصدرُ العرفان في حقل الفلسفة هو العقل الإنساني مُجرّداً عن لواحقه الشعوريّة. ومصدر العرفان في الدين، وخصوصاً الأديان الكتابيّة، هو الله تعالى يُغذي طاقات العقل الإنساني بشتى المعارف وشتى العلوم، كلما فتحت طاقة من طاقات المعرفة فتحت معها طاقة أخرى تتلوها أو تصاحبها، وهكذا بغير انقطاع. ومدد الفتح لا ينقطع إذا كان المصدر هو الحكيم العليم:"وإنك لتلقّى القرآن من لدن حكيم عليم".
الاستقلال الفكري العقلي في الفلسفة لا يجور، ولا ينبغي له أن يجور، على خصوصيّة الدين وطبيعته كونه يسمح بالانتقال بالإنسان من حياة إلى حياة ويوجّه توجهاته الدنيوية ناحية الآخرة، مستقره الأخير.
والاقتصارُ على مثل هذا الاستقلال وحده، عائقٌ للعقل البشري نفسه لفهم ملكات أعلى منه وأمضى، مهما حاول العقليون أن يقيّدوا طاقاته العقليّة بقيود من حديد نحو ما يفهمون منه ونحو ما يدركون. ما لا أدركه أنا بعقلي المحدود قد تدركه أنت بعقلك المتسع المفتوح الذي يقبل (الإحالة) ويأخذ بمعطياتها كلما توقف وقفات تُشبه العجز فيما هو أمامه مطروحاً من مسائل الغيب أو مسائل المصير.
وليس معنى عجزي عن الإدراك عن مسائل بعينها، إنها غير موجودة؛ بل عجزي هو الذي صوّر لي سلفاً إنها معدومة؛ فلو كنت من القادرين على إدراكها لأصبح وجودها أسبق عندي من تصور العدم. عجز العقل عن الإدراك ليس معناه العدم، ولكن معناه إنّ ما لا أدركه بعقلي المحدود قد يدركه بباصرته غيري ويقتدر عليه.
هذا هو الإنصاف المطلوب في كل حال.
ثم إنه توجد خلافات مثلاً بين التصوف السُّني والتصوف الفلسفي، كما توجد مُقاربات بين التشيع والتصوف عموماً، وبينهما أيضاً عند التحقيق خلافات، فليس قطب الصوفية مثلاً كالإمام المعصوم عند الشيعة، ولا دلالة الرمز في التشيع كدلالته في التصوف، ولا اصطلاح السّر في التصوف كاصطلاح السر في التشيع، ولا محبة آل البيت عند أهل الله كمحبتهم عند الشيعة. الخلافات والمقاربات هما أمر طبيعي يحتمه منهج الدرس الفلسفي. ولكن لكل نزوع خصائص، ولكل توجه ملامح تمس روح هذا أو ذاك، تماماً كالشخصية الإنسانية المُفردة لها روح ولها خصائص وسمات ولا يمكن أن تتشابه مع أخرى ويكون لها نفس الخصائص والسمات.
هذا لا يعني مطلقاً نفي القول بأنّ التصوف في كل مجال وَحْدَة كلية كاملة كوحدة الروح الإنساني؛ طالما في الإنسان روح ففيه تصوف، وأن هذا التصوف يستند على مقومات وأسس ينطلق بداية من العقيدة ويتغذى على الوعي والثقافة الروحيّة والعقلية، ولكنه لا يخلو أبداً من طلب الكمال؛ لأن ارتقاء النفوس في مقامات الكمال من العناية الإلهيّة، وهو بحث دقيق ممّا أختص به علم التصوف كما كان الإمام محمد عبده (1849-1905) يقول: "إذا اعتقدتَ بقصور فضل الله عنك، وقفت نفسك حيث وضعتها، ولن تسطيع إلى التقدّم سبيلاً". الأمر كله: اعتقاد وجهاد وكدح وتطور وحيوية واتصال.
ونظراً لأن سؤالك مركب فالإجابة عليه تلزمني أن أقول: إنْ أردت التي لا لوم فيها؛ فلتبحث معي عن ملكة التعلّق: فيما عَسَاكَ توجهها؟ أفي شغل دائم لا ينقطع بعلم الأسباب، أم في شغل العلم بالله؟
فلئن كانت الحالة الثانية، فقد صارت بعيدة بعيدة بعد أن كانت قريبة قريبة. ولئن كانت الحالة الأولى؛ فلقد أورثت صدأً على وجه القلب فكانت مانعاً كثيفاً من تجلي الحق فيه؛ فانقطع.
الغريب في الأمر، إنّ قبول مجلى تجلي الحق أو عدمه يرجع إلى القلب؛ فلو كان على القلب صدأٌ لم يعد يقبل جهة الحق .. لماذا؟ لأنه ببساطة شديدة كان قبل غيرها سلفاً فاستغرقته بالكليّة، أي قبل الاشتغال بالأسباب فاستغرقت طاقة النور القلبي لديه بكليّتها؛ فحُجِب. والاشتغال بالأسباب صدأُ قلبي. بالتعبير القرآني البديع هو (الكنّ، والقفل، والعمى، والرّان). فإن قلت: فما بالُ العقل؟ ألم يُعْرَف الحق بالعقل؟
أقول لك: مدارك العقل محدودة بحدود ما يدرك من الأمور على جهات أربعة: جهة الجوهر، وجهة الطبع، وجهة الحالة، وجهة الهيئة. ولا يدرك العقل شيئاً لا توجد فيه هذه الأشياء.
وهذه الأشياء لا توجد في الله تعالى، فلا يعلمه العقل أصلاً من حيث هو ناظر وباحث؛ لأن نظر العقل من حيث برهانه الذي يستند إليه هو الحسّ أو الضرورة أو التجربة الحسيّة. وكلمة الضرورة تعني من حيث ما يُعلم لدى العقل بالضرورة، وهذا لا يكون إلاّ لوقائع عينيّة مشهودة.
الحقائق الإلهية لها أداة للإدراك غير أداة العقل التحليلي المنطقي الاستدلالي، ولكنها مع ذلك تدرك، فكيف تدرك؟ تدرك بالذوق الإيماني الديني وسلامه القلوب من الدغل والتعطيل.
يتبع
***
حاوره: ا. مراد غريبي - صحيفة المثقف
2 - 11 - 2022م