اخترنا لكم
السيد ولد أباه: الغرب الجديد وما بعد الليبرالية

خطاب نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في مؤتمر ميونيخ حول الأمن، في 14 فبراير المنصرم، فاجأ كثيراً مستمعيه من الزعامات الأوروبية الحاضرة، لما تضمنه من نقد غير مسبوق للأفكار والقيم الليبرالية التي كانت الإطارَ الناظم لعلاقة التحالف بين ضفتي الأطلسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الأمر هنا يتعلق بما هو أكثر من مجرد تدخل في الساحة السياسية الأوروبية من خلال دعم الأحزاب الشعبوية المحافظة وتبدل السياسة الخارجية الأميركية في ثوابتها الكبرى التي كان من أهمها الارتباط الجيوسياسي العضوي بين أميركا وأوروبا.
ما أوضحه خطاب فانس هو أن الصراع الأيديولوجي الذي هيمن لعقود طويلة على العلاقة بين الغرب وخصومه، بدلا من النزعات القومية المتطرفة والراديكاليات اليسارية، أصبح داخل الغرب نفسه، إثر بروز تصدع جوهري بين محوري العالم الغربي على أساس التركة الليبرالية نفسها.
لا بد أن نوضح هنا أن هذه التركة قامت تاريخياً على أساس ثلاثة مفاهيم رئيسية هي: أولوية الحرية الذاتية الفردية على الهويات الجماعية والانتماءات العقدية والقيمية، والفصل بين السلطات في إطار تصور جديد للسياسة يجعل من الحكم خانة فارغة مشتتة في الجسم الاجتماعي، حسب عبارة المفكر السياسي الفرنسي كلود لفور، وبناء الشرعية السياسية على أساس مرجعية القانون وحقوق الإنسان التي تؤطر معيارياً الخيارات السيادية للأمة من حيث هي كتلة انتخابية حرة.
وفي إطار المنظومة الليبرالية، ظهرت في السابق ثلاثة تيارات متمايزة تلتقي في الثوابت الكبرى المذكورة: اتجاه محافظ يرى أن مبدأ الحرية يقود إلى العدمية والنسبية الفارغة في حال فصله عن التقاليد الثقافية والاجتماعية الثابتة التي تشكل إطارَ الهوية القومية والعقدية العميقة للمجتمع، واتجاه ليبرتاري يدعو إلى الحد الأقصى من تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي والسياسي من منظور الدفاع عن الحرية الفردية وحيوية المجتمع المدني الذاتية، واتجاه اجتماعي يتبنى فكرة المجال العمومي القوي والنشط بصفته ضرورة قصوى لتنشيط الاقتصاد والدفاع عن مصالح الأفراد والدولة.
وعلى العموم، تزايد تأثير الاتجاهين المحافظ والليبرتاري في الولايات المتحدة الأميركية منذ الثمانينيات، باستثناء حقبتي كلينتون وأوباما، بينما توطد الاتجاه الاجتماعي في أوروبا مع صعود أحزاب اليسار الاشتراكي التي وصل العديد منها إلى السلطة في عدة دول كبرى من القارة. ولقد تعاملت النخب السياسية الأوروبية بواقعية مع التحولات السياسية الأميركية، فواكبت سياسات ريغان المحافظة ونزعة بوش الابن المحافظة الجديدة، لكنها غدت اليوم في وضع معقد مع الحالة الأميركية الجديدة التي تتسم بالقطيعة غير المسبوقة مع الثوابت الليبرالية الكبرى.
وبطبيعة الأمر، من الصعب تشخيص الخط السياسي الجديد في الولايات المتحدة، الذي تؤثر فيه مجموعات ثلاث متمايزة: التيار الديني المحافظ، والاتجاه الليبرتاري الذي يدعو إلى تفكيك الدولة الإدارية المركزية، والقوة التقنية المعولمة التي التحق أبرز رموزها في الأشهر الأخيرة بالرئيس الجديد دونالد ترامب.
إلا أن ما يطبع الخطاب السياسي الأميركي الجديد عموماً هو الخروج عن منطق الفكر الليبرالي من خلال الفصل الجذري بين الديمقراطية من حيث هي ممارسة سيادية للحرية والليبرالية كإطار معياري للنظام الاجتماعي يقوم على أولوية القانون على القوة وأسبقية الذاتية الفردية على التقاليد المجتمعية.
ما يجمع بين الاتجاهات الصاعدة حالياً في الساحة الأميركية هو ما يطلق عليه بصفة واسعة مقولة «ما بعد الليبرالية» postliberalism، وهي عبارة نشأت في بريطانيا قبل أن تنتقل إلى الولايات المتحدة من منظور قومي محافظ من أبرز رموزه الحالية المفكر السياسي باتريك دنين الذي أصدر سنة 2023 كتاباً مهماً بعنوان «تغير النظام: من أجل مستقبل ما بعد ليبرالي»، والقانوني ادريان فرميول الذي وضع نظرية جديدة في دستورية الخير المشترك من منطلقات لاهوتية كاثوليكية وسيطة، بالإضافة إلى نجم التقنيات المالية بيتر تيل الذي يقدم نفسه كليبرتاري محافظ، وللثلاثة تأثير واسع في إدارة الرئيس الحالي ترامب.
ما تركز عليه الأيديولوجيا ما بعد الليبرالية هو الحفاظ على «جوهر» القيم العقدية والاجتماعية للغرب بمفهومه التاريخي التقليدي الذي يتأسس، حسب عبارات رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، على مرجعية فكرية وقيمية ما قبل حديثة، أساسها الفلسفة اليونانية والتقليد اليهودي المسيحي واللحظة القانونية الرومانية. وفق هذا التصور لا معنى للحرية في مفهومها الحقيقي إلا من حيث هي التعبير الموضوعي عن «روح الأمة» العميق، الذي يتنافى مع الهويات الاختلافية والتعددية الثقافية «العدمية».
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 2 مارس 2025 23:33