اخترنا لكم
جمال نعيم: الفلسفة عندما تكون أسلوب عيش في العالم
الفلاسفة دعوا إلى الاعتناء بالنفس والعمل على ارتقاء الكائن الإنساني
ملخص
ليست الفلسفة طريقة تفكير تتمثل في إبداع المفاهيم وصوغ المسائل ونظم الأنظومات فحسب، بل أسلوب عيش أيضاً. كانت كذلك في بدايتها، قبل أن تصير تفسيراً للعالم وفهماً له أو تغييراً، وعادت اليوم كذلك. كانت حكمة عملية وتدبيراً حصيفاً لأمور الحياة، بما فيها الموت، قبل أن تصير بحثاً عن العلل الأولى والمبادئ الأوائل.
ما نود معالجته هنا هو الفلسفة بما هي إطيقا فن الوجود، بما هي أنماط حياة وأساليب عيش، بما هي سيرورات تذويت وتقنيات ذات، بحسب ميشال فوكو الأخير. فالفلسفة نمط حياة وأسلوب عيش ونحت ذات وانهمام بالنفس وعناية بها، قبل أن تكون بناء عمارات فلسفية شاهقة أو نظم أنظومات فلسفية متماسكة أو بحثاً عن العلة الأولى. وعليه فالفلسفة لم تكن طوال تاريخها مجرد نشاط نظري فحسب، بل كانت دائماً بمنزلة طريق ملكي إلى الحكمة والحقيقة.
إذاً بدأت الفلسفة تاريخها طريقة في فن الحياة، وأسلوباً في تدبير السلوك والملذات، ونهجاً في اختيار أسلوب الحياة ونمط العيش، تبعد الإنسان بقدر الإمكان من الأوهام وتجعله يتدبر حياته وموته، فتدخل في نفسه نوعاً من السلام والطمأنينة.
بين الأخلاق والإطيقا
علينا أن نميز الإطيقا بما هي اشتغال على أنماط الحياة وأساليب العيش وفن الوجود، من الأخلاق بما هي قواعد عامة ملزمة للجميع، فالحديث هنا ليس عما يتوافق مع الأخلاق وعما لا يتوافق معها، ولا عما ينسجم مع قواعد المجتمع وقوانينه وعما لا ينسجم، بل عن أمر مختلف. فسواء أآمن الناس بالأخلاق أم لم يؤمنوا، وسواء أكانت هناك دولة تطبق القوانين أم لا، يبقى المطلوب من الإنسان أن يشتغل على ذاته ويهتم بنفسه ويجترح نمط الحياة الخاص به.
لسنا هنا في حقل الأخلاق، بل في حقل الإطيقا بما هي فن وجود، بما هي أساليب عيش وبما هي أنماط حياة يبتدعها الشخص ويرتضيها لنفسه ويعيشها انطلاقاً من علياء شعوره السامي الراقي النبيل. نحن هنا لا نتفلسف في ميدان الأخلاق، بل في ميدان الإطيقا. فما يمنع الإنسان من بعض التصرفات ليس توافقها أو عدم توافقها مع قواعد الأخلاق ومبادئها، بل تعارضها مع نمط الحياة النبيل الذي رسمه لنفسه، وتعارضها مع ما يقتضيه ذلك الشعور السامي الرفيع الذي يشعر به. مثلاً لو كنت موظفاً في مصرف لبناني لما قبلت أن أسكت عن سرقة أموال الشعب من دون أن أقدم استقالتي وأخرج إلى الإعلام لأفضح ما يحصل. فأنا لا أقبل أن أسرق وأقتل وأغش وأخدع، لا لأن هذا يتعارض مع الأخلاق العامة، ولا لأن هذا يغضب الله، بل لأن هذا كله يتعارض مع نمط الحياة النبيل الذي اخترته، ومع فنية وجمالية اللوحة التي أرسمها لنفسي أولاً ولأولادي وأحفادي ولكل الأجيال من بعدي ثانياً، هؤلاء الذين سيفتخرون يوماً ما، كما آمل، بما فعلته وما رسمته وما نحته.
أعمل كثيراً حتى لو لم أحظ إلا بقليل من النجاح، ليس مهماً أن أصل، فهذا أمر متروك للأقدار، بل المهم أني فعلت كل ما كان بوسعي أن أفعله. بذلك أكون رسمت لوحة أراها أروع وأجمل لوحة رسمتها يد فنان قدير موهوب، لذلك أنا راض عما فعلت. فلا مكان في قلبي للندم، ولو عشت ألف مرة لكنت مشيت في الطريق ذاتها، ولكنت رسمت اللوحة ذاتها. ولو عدت للحياة ألف مرة لكانت لوحة حياتي هي ما يجسد عودي الأبدي في كل عودة، فأنا فخور بحياتي وأرحل عن هذه الدنيا وقد أديت قسطي من العلا.
الحياة بما هي تحفة فنية
هذا ما يمكن أن نسميه بالتفلسف الحياتي العملي، فكما يرسم الرسام لوحة بديعة، وكما يكتب الأديب رواية رائعة، وكما ينحت النحات منحوتة جميلة، فإن بإمكان كل واحد منا أن يصنع من حياته تحفة فنية نادرة، لوحة فنية فريدة يفتخر بها أمام نفسه وأمام الجميع. بعمله هذا يكون سعيداً وراضياً، لذلك فإن نحت الجسد لأمر ذو أبعاد كثيرة، صحية وجمالية وفلسفية، وذلك عندما يندرج في إطار فلسفي أوسع يتعلق بفن الوجود ونمط الحياة. هكذا يكون نحت الذات، جسداً وروحاً، نشاطاً فلسفياً بامتياز! وهكذا يتحول كل إنسان إلى فيلسوف. أوما زال الاهتمام بالذات ممكناً اليوم؟
يأتي الإنسان إلى الحياة من دون إذنه، فيبدأ مسيرته الطويلة والشاقة. لكن أي نمط حياة نريد؟ أي حياة نود أن نحياها؟ أي ذات نروم نحتها؟ الانهمام بالذات كان هماً من هموم الفيلسوف، وسيبقى. لكن هل ما زلنا اليوم قادرين على الاهتمام بذواتنا والعناية بها في ظل ما نعيشه من أزمات مالية وسياسية؟ هل ما زلنا قادرين على نحت ذواتنا اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي وعصر الإنسان - الآلة أو الإنسال؟ هل ما زلنا قادرين على رسم لوحة حياتنا الفنية في ظل رأسمالية تأبى إلا أن تسيطر بجشع ومن دون رحمة على ثروات المعمورة؟ أفلم تفسد الرأسمالية المتوحشة كل ما هو جميل وحسن في حياة الإنسان؟ أفلا يجدر بنا التنبه إلى ما يمكن أن يؤدي إليه الذكاء الاصطناعي من تهميش للإنسان وربما من القضاء عليه؟ أفلا يستدعي الاهتمام بالجسد اهتماماً آخر أكبر وأهم بالذات؟ أوليس من الفلسفة أن يرسم كل إنسان لوحته الأجمل وأن ينحت منحوته الأفضل، فيجعل حياته نفسها تحفة فنية رائعة، كما نبهنا إلى ذلك فوكو في كتاباته الأخيرة؟
أنماط الوجود
تكلم فوكو عن أنماط الوجود وسيرورات التذويت وتقنيات الذات ضمن إطار ما سماه إطيقا فن الوجود، إذ سعى إلى أن يجعل المرء نفسه تحفة فنية رائعة لا تختلف عن لوحة رائعة أو منحوتة عظيمة. بذلك نقول إن بإمكان الفرد أو الذات، في المجتمعات المعاصرة، أن يتكون وينتصب ويقاوم في ظل الحصار المضروب عليه من أصناف المعرفة وأنواع السلطات القائمة. رجع فوكو إلى الإغريق فوجد عندهم هذا الشعار: إذا أردت أن تكون مواطناً فاعلاً في المدينة، فعليك أولاً أن تتمكن من السيطرة على نفسك.
ومن ثم، عندما لا تتوجه القوة إلى قوى الخارج، بل إلى ذاتها، أي عندما تتخذ القوة نفسها موضوعاً لفعلها، ينشأ ما يسميه فوكو سيرورات التذويت أو أنماط الوجود أو أساليب الحياة، وهي ما كان يسميها نيتشه إمكانات الحياة. بذلك يمكن المرء أن يقاوم أشكال المعرفة ومراكز السلطة من حوله، فالقوة تتعرض لعملية طي من الذات عندما تتخذ موضوعاً لها السيطرة على الذات نفسها وتقديمها بوصفها تحفة فنية رائعة. هذا ما نجده في سيرورات التذويت عند الإغريق وسيرورات التذويت في العهود المسيحية الأوائل، إذ يشدد فوكو على أن أنماط الوجود تلك إطيقية وجمالية في آن واحد. فإنها لا تبتغي تقديم قواعد عامة إلزامية لكل البشر، بل تعرض نماذج لسيرورات تذويت تتضمن قواعد اختيارية ومتغيرة عبر التاريخ. واليوناني لم يكن يريد أن يرضي الآلهة أو يتنعم بالنعيم في الآخرة، فهذه الأمور لم يكن ليهتم بها، بل كان يريد أن يقدم نموذجاً صالحاً، جمالياً وأخلاقياً في آن واحد، يتركه للأجيال المقبلة. لكن فوكو، بعودته للإغريق أو العصور المسيحية الأوائل، لم يكن يبتغي أن نتخذ منها نماذج صالحة لزماننا الحاضر. فهو يفكر الماضي من أجل الحاضر، ويحاول أن يتتبع أنماط الوجود الراهنة التي تحصل في مجتمعاتنا المعاصرة.
الفلسفة بوصفها جسر عبور بين ثقافات العالم
وعليه لا يحبذ الإنسان أن يرحل عن هذه الدنيا من دون أن يترك أثراً، من دون أن يترك لمسة خاصة به، من دون أن يترك بصمة يعرف بها، بل من دون أن يخلد اسمه بطريقة ما. فهناك من يكتب كتباً، وهناك من ينحت منحوتات، وهناك من يرسم لوحات، وهناك من يغني أغاني عاطفية مؤثرة أو أغاني وطنية، وهناك من يبني دولاً، وهناك من يخترع اختراعات إلخ. والفيلسوف هو من يحول حياته نفسها إلى أثر فني، إلى منحوتة رائعة، إلى لوحة فنية، يفتخر بها ويتركها أثراً فنياً جميلاً لمن يجيء بعده، حتى إذا دنا أجله، كان راضياً عن نفسه وعما فعله في حياته.
هكذا ينشغل الإنسان بنفسه فيرسم حياته بريشته كأجمل لوحة فنية ممكنة، ربما لا يرسم الأجمل والأفضل، لكنه يحاول أن يرسم أفضل الممكن نسبة إلى القدرات والإمكانات التي يمتلكها ونسبة إلى الظروف التي تهيأت له. بذلك يترك لأحبائه وأصدقائه والأجيال أمثولة رائعة يفتخر بها، فيها كثير من النجاحات والانتصارات، كما فيها أيضاً كثير من الهزائم والانكسارات.
على المرء إذاً أن يرسم لوحته الفنية الرائعة، وأن ينحت تحفته الأجمل في علاقته بنفسه أولاً، وفي علاقته بزوجته وأولاده ثانياً، وفي علاقته بمواطنيه في المدينة ثالثاً، وحتى في علاقته بالله أو المطلق رابعاً، من دون أن يعتقد وجود نموذج أو مثال عليه تقليده واتباعه.
وعليه فإن الفلسفة بما هي فن إطيقي، بما هي فن الإطيقا، بما هي أسلوب عيش، بما هي نحت لتحفة فنية حياتية رائعة، من مهمتها أن تجعل الحياة ممكنة وجميلة، بل وأن تجعلها ممتعة أيضاً، فنتقبل مآسيها ونتقبل فكرة الموت ونتعامل معها بما يناسب اللوحة الفنية هذه، فالفلسفة نوع من الفرح الدائم.
***
د. جمال نعيم - أكاديمي لبناني
الاثنين 5 أغسطس 2024 14:25
عن موقع الأندبندت عربي، يوم: الاثنين 5 أغسطس 2024 14:25