اخترنا لكم
محمد البشاري: ميلاد العقل المتكلم.. الرفاعي وإحياء السؤال الغائب
في فضاءٍ ثقافيٍّ كان يضيق بالسؤال، تبرز «موسوعة فلسفة الدين» للدكتور عبد الجبار الرفاعي كفعل تأسيسيٍّ يوقظ في الفكر العربي وعيَه الغائب بذاته، ويعيد للعقل الإسلامي وظيفتَه الأولى: أن يفكّر لا أن يكرّر، وأن يؤمن على بصيرة لا على استسلام. ليست هذه الموسوعة تراكماً معرفياً بقدر ما هي انقلاب في وجهة النظر إلى الدين، من كونه منظومة مغلقة إلى كونه تجربةً وجوديةً مفتوحةً على المعنى. لقد أراد الرفاعي أن يعيد لعلم الكلام روحَه التي ذوت حين انقلب من علم للتفكير في الإيمان إلى علمٍ للدفاع عن العقائد، فجاء مشروعُه ليكسر هذا الطوقَ ويحرّر المتكلمَ من محكمة الموروث، جاعلاً الفلسفة شريكاً في إنتاج المعنى لا خصماً في جدله.
في هذا العمل يلتقي العقلُ بالكشف، والبرهانُ بالشهود، إذ يضع الرفاعي الفيلسوفَ والمتكلمَ على مائدة واحدة بعد أن فرّق بينهما تاريخ طويل من الشكوك. فحيث كان المتكلم القديم يبحث عن دليل الوجود، صار الفيلسوف الحديث يسائل معنى الوجود ذاته، وبين السؤالين تمتدّ جسورُ الرفاعي، فتعيد بناءَ العلاقة بين الله والإنسان والكون في أفقٍ من الحوار لا الخصومة. هكذا تصبح «فلسفة الدين» عنده فضاءً ثالثاً يتجاوز الثنائيات: بين النقل والعقل، بين الإيمان والحرية، بين الموروث والكوني، ليصوغ من هذا التداخل «عقلاً تأويلياً» قادراً على إعادة ترتيب العلاقة بين المعرفة والقداسة.
إنّ ما يميّز هذا المشروع أنه لا يترجم النصوصَ بقدر ما يترجم الوعيَ نفسَه. فالترجمة هنا فعلُ ولادة جديدة للفكر، تُنقل فيه المفاهيم من كونها واردات أجنبية إلى أدوات لبناء رؤية عربية للعالم. وبذلك تتحوّل الموسوعة من مرجع أكاديمي إلى «مختبر للعقل» العربي، يعيد تعريف الدين لا بوصفه سلطةً بل بوصفه سؤالاً عن المعنى، ويستعيد الإنسانَ في قلب التجربة الدينية بعد أن استُبعد دهراً باسم النص.
ما فعله الرفاعي في جوهره هو ردّ الروح إلى الكلام والفكر معاً. لقد أعاد تعريفَ المتكلم لا كحارس للعقيدة بل كصائغ للأسئلة الكبرى، والفيلسوف لا كعدو للوحي بل كشاهد على اتساعه. وبذلك يعيد المشروعُ ترتيبَ المقامات بين الله والإنسان: فليس المطلوب الدفاع عن الله، بل البحث عن الإنسان في حضرة الله. وهذا هو التحوّل من «لاهوت الدفاع» إلى «لاهوت المعنى»، من تكرار النص إلى ابتكار الفهم، ومن وهم امتلاك الحقيقة إلى شجاعة السعي إليها.
إنّ «موسوعة فلسفة الدين» ليست مجرد حدث معرفي، بل لحظة كينونة يستعيد فيها العقل العربيُّ قدرتَه على النظر إلى نفسه في المرآة دون خوف. إنها ميلاد عقلٍ متكلّمٍ جديد، لا يتكلم بلسان الماضي ولا بلهجة الغرب، بل ببيانٍ إنسانيٍّ جديدٍ يزاوج بين نور الوحي وصفاء الفكر. وبهذا المعنى يغدو الرفاعي واحداً من القلائل الذين لم يضيفوا كتاباً إلى المكتبة العربية، بل أضافوا للعقل العربي قدرةً على أن يكون ذاتَه من جديد.
***
د. محمد البشاري
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 11 نوفمبر 2025 22:41






