اخترنا لكم
ولاية الفقيه: أعطاب ذاتية
يعاني النظام الإيراني من عطب ذاتي، لا بسبب الشخصيات الحاكمة فيه، أو مشكلاته الدولية أو ملفه النووي، أو حتى توسعه الإقليمي، وإنما بسبب الأرضية النظرية للنظام التي تتحدد على أساسها صحة الفعل السياسي، وشرعية سلطة الأمر، وصلاحية أي قرار رسمي. أقصد بذلك ولاية الفقيه المطلقة وفق مبنى مؤسس الجمهورية الإمام روح الله الخميني.
جاء مقترح الخميني في سياق حل معضلة فقهية عانى منها العقل الشيعي في القرن العشرين وهي شرعية التصدي للسلطة وجواز ممارسة الحكم في غيبة الإمام الثاني عشر. حيث رسخ في معتقد الشيعة الإمامية أن السلطة من مختصات الإمام الثاني عشر الغائب، وأن كل من يتصدى لها يكون مغتصباً ومتعدياً على حق الإمام، وبالتالي يكون متعدياً على الساحة الإلهية بحكم أن سلطة الإمام ممنوحة من الله.
بدأت هذه المشكلة مع ظهور الثورة الدستورية في إيران في العام 1906، التي دعت إلى وضع قيود على صلاحيات شاه إيران مظفر الدين القاجاري، بأن تكون مشروطة بالدستور وسلطة القانون، ولذلك سميت بالمشروطة. دار حينها جدل كبير بين مراجع الدين في النجف الذين استُفتُوا في شرعية هذا المطلب بحكم أن حوزة قم لم تكن قد أسست بعد. وقد انقسم الفقهاء حينها بين مؤيد لوضع قيود على سلطة الشاه، وكان في مقدمهم الشيخ الخرساني (الآخوند)، وبين أن تكون سلطة الحاكم مطلقة وغير مقيدة وكان في مقدمهم المرجع السيد اليزدي. اشتهر الجدل حينها بجدل المشروطة والمستبدة.
شكل ذلك افتتاحاً لجدل فقهي جديد بين مراجع وفقهاء الشيعة الإمامية حول مسألة السلطة والحكم في الزمن المعاصر. بخاصة بعد تسرب مفاهيم الديمقراطية والتمثيل الشعبي والدستور إلى وعي النخب المثقفة والناشطين السياسيين. صحيح أن الجدل في البداية لم يكن قائما على أساس مقولات ومفاهيم الفكر السياسي الحديث، بقدر ما كان تحديد الموقف المناسب إزاء الثورة الدستورية أو المشروطة إستنادا إلى معياري المصلحة والمفسدة في تأييدها أو رفضها. بالتالي لم يكن هنالك تنظيراً فكرياً أو حتى استدلالاً فقهياً لأي من المرجعين حول موضوع الشرعية السياسية. أي لم يكن الخلاف على قاعدة نظرية أو فكرية أو استدلالية ذات صلة بكليات السلطة وشرعية الأمر السياسي، بقدر ما كان مستنداً إلى تقدير شخصي لواقعة جزئية هي واقعة الثورة الدستورية.
بيد أن الاصطفاف السياسي الحاد بين الطرفين، في إيران والعراق معاً، دفع البعض إلى وضع أطر نظرية استناداً إلى الدليل الشرعي، أي القرآن والروايات عن النبي والأئمة، تتعلق بمحددات أو مسوغات الشرعية السياسية. كان من هؤلاء الشيخ فضل الله نوري، الذي ساند فكرة السلطة المطلقة غير المقيدة من باب أن السلطة السياسية "سلطة إلهية بحتة"، وأن "أصْلَيْ المساواة والحرية مُخرِّبان لركن القانون الإلهي القويم. إذ إن الإسلام يقوم على العبودية لا على الحرية، وأحكامه تقوم على تفريق النقائض لا على المساواة، فما تؤدي إليه المساواة هو أن تحترم الفرقة الضالة والطائفة الإمامية على نهر واحد"
مقابل تنظيرات مؤيدي المستبدة، كتب الشيخ النائيني كتاباً بعنوان: "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" لتأييد موقف المشروطة. عمد النائيني إلى تسويغ الحكم السياسي في غيبة الإمام الثاني عشر، لا لجهة تأسيس شرعية للحكم السياسي في غيبة الإمام، بل لجهة الضرورة بإقامة المصالح العامة وحفظ بيضة الدين، اللتين لا يستقيم أمرهما إلا بسلطة سياسية. فالنائيني احتفظ بمبدأ عدم جواز "أن يشغل مقام الإمامة (السلطة العامة) إلا إمام معصوم"، ما يعني أن كل سلطة تمارس من قبل غير الإمام المعصوم تكون مغتصبة وغير شرعية. لكنه رأى في الوقت نفسه ضرورة إقامة السلطة السياسية التي يتسبب غيابها في ضياع مصالح المسلمين بل ضياع الدين نفسه. ما يعني جواز إقامة السلطة بحكم أن الضرورات تبيح المحذورات. بالتالي جمع النائيني بين السلطة الواجب أو الجائز إقامتها بحكم الضرورة، وبين عدم شرعية أية سلطة في غيبة الإمام.
لم يستطع النائيني حل مشكلة الشرعية السياسية في زماننا، وبقيت السلطة بنظره جائزة بحكم الضرورة من جهة وغير شرعية لكونها مغتصبة من جهة أخرى. بالتالي ظلت شرعية السلطة مأزقاً محرجاً للشيعة في القرن العشرين، حيث لم يستطيعوا تصور سلطة شرعية غير سلطة الإمام المعصوم، الذي هو غائب، ولا يمكنه التصدي العلني للسلطة لأسباب مجهولة.
في أواخر القن العشرين عمدت شخصيتان فقهيتان إلى التنظير الفقهي للتخلص من هذا المأزق:
أولهما الإمام الخميني، الذي اعتبر أن الإمام المعصوم عَيَّن ونصَّب الفقيه الجامع للشرائط ليحل مكانه في غيبته بعد أن فوَّض إليه كل صلاحياته الممنوحة له من الله التي هي عين صلاحيات النبي أيضاً. هو اقتراح يضفي شرعية دينية على الفعل السياسي في غيبة الإمام، فلا يعود فعل اغتصاب لسلطة الإمام، بل تجسيداً وتحييناً لها، ليصبح الحكم السياسي بنظر الخميني في الغيبة واجباً وشرعياً في آن.
استطاع الخميني حل شرعية الفعل السياسي في زمن الغيبة، لكنه ألغى بالكامل الشرعية الشعبية أو المجتمعية. أي ألغى أي اعتبار للتمثيل الشعبي والإقرار الفردي والقبول المجتمعي بالسلطة الآمرة، بحكم أن مصدر السلطة هو الله، ولا خيار لأحد سوى القبول والرضا بها لأنها جاءت من الله. ما يجعل العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة طاعة، لا تقتصر على الظاهر فحسب وإنما تستدعي الخضوع الطوعي والانصياع القلبي والباطني لأنها بمثابة الطاعة لله.
هذا يعني أن ولاية الفقيه وقعت في مأزق خطير، وهو إنشاء تقابل حاد بين إرادة الله بصفتها أساس شرعية أية سلطة، وبين حرية الفرد الحديث والمعاصر الذي بات يرى أن السياسة جزء من حريته وتدبيره لأمور نفسه. فالحرية أصبحت في زماننا بحسب قول هيغل حرية سياسية لا مجرد حرية شخصية، أي حرية تكون مساحة تحققها المجال السياسي العام.
لذلك، وبدلا من أن تكون السلطة وديعة بحسب جون لوك أو تجسيداً للإرادة العامة بحسب روسو أو فن وصناعة وابتكار بشري بحسب هوبس، باتت طاعة السلطة، وفق ولاية الفقيه، اختباراً إيمانياً وحاجة خلاص أبدي وضرورة دينية بحكم كونها من مختصات حاكمية الله وولايته. هو مأزق بات مصدر عطبها، ومنبع تشظيها وتفجرها، لأنها تختزن بداخلها نقيضين لا يمكن الجمع أو التوفيق أو حتى تعطيل التوتر والصراع بينهما: بين طاعة إكراهية مفروضة على الناس لصالح الفقيه الحاكم صُوِّرَت هذه الطاعة بأنها طاعة لله من جهة، وبين إرادة إنسانية ترى حريتها شرطاً مُحدِّداً لأي نشاط حياتي أو فعل سلوكي أو مدى وجودي.
ثانيهما الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي انطلق من فكرتين تأسيسيتين: أولهما أن السلطة السياسية ليست من ضرورات الإمامة. بالتالي هي خارجة تخصصاً ولا يملك الإمام المعصوم أن يعين أو ينصب أحداً ولياً أو حاكما سياسياً، لأنها ليست من مختصاته أو صلاحياته. ثانيهما أن السلطة والتدبير السياسي هما منطقة فراغ في الدين، أي إن الدين أخلى نفسه منها، ولم يدرجها ضمن دائرته، بالتالي لم ينص على كيفية تدبيرها وتنظيمها وإدارتها ومقومات شرعيتها. ما يدل على أن الدين تركها في منطقة المباحات التي لا يوجد فيها موقفٌ محددٌ للدين، لا سلباً ولا إيجاباً.
مع انتفاء أي تعيين أو تنصيب يتعلق بالسلطة السياسية لأية جهة أو جماعة أو شخص، بات الناس متساوون في درجة الإكراه والحرية، بحيث لا يملك أحد أية سلطة على أحد. بالتالي بات الأصل الأول والبديهي في شرعية السلطة هو : "عدم سلطة أحد على أحد". هو أصل يترجم بأن الفرد يملك زمام أمره، ولا تأخذ أية سلطة شرعيتها إلا بالقبول والرضا الطوعي من الأفراد. ولما كانت السلطة السياسية شأناً متجمعياً لا فردياً فحسب، أي هي جزء من نظام علاقات الافراد داخل المجتمع، فإن الولاية، أي صلاحية الأمر والتدبير الشرعيين، تكون للأمة Nation بصفتها كياناً جامعاً للأفراد وناظماً لعلاقاتهم ومدبراً لشؤونهم. مع شمس الدين، باتت السلطة السياسية من ملحقات الحرية الفردية وآثارها تتقوم بالمبادرة والابتكار، بعدما كانت تكليفاً دينياً تتقوم بالطاعة والإكراه.
مع شمس الدين تحررت السلطة من المذهب الشيعي ومن الدين معاً، ونجح أيضاً في إخراج السلطة من سطوة مؤسسات الدين ورموزه، ما فتح الباب واسعاً على مدنية الحكم وديمقراطية بل علمانية السلطة. بالتالي فكك ثنائية الولاء المتناقضة التي خلقتها نظرية ولاية الفقيه للشيعة المنتشرين خارج إيران، الذين يفرض عليهم وجودهم الموضوعي ومكانهم الثقافي الانتماء إلى بلدهم والولاء لدولتهم، مقابل ولاية الفقيه التي تلزم المتدين الشيعي أينما كان بطاعة الولي الفقيه والولاء الحصري له.
صحيح أن شمس الدين لم يقدم نظرية في طبيعة السلطة وحقيقتها، أو في آلياتها ومسوغات إكراهاتها وحالات قسرها ووجوه ممارستها للعنف المشروع، لكن شمس الدين نظَّر كفقيه ليخرج السياسة من سلطة النص الديني، ويحرر النص الديني من تحكماتها، ويصورها منطقة ابتكار وحرية إنسانيتين.
بين ولاية الفقيه وولاية الأمة على نفسها، بات الشيعة أمام مفترق طرق مصيري وجليل.
***
د. وجيه قانصو
عن موقع المدون في يوم الأحد 2022/12/25