اخترنا لكم
علم نفس الاعتقاد والمعتقدين
مبدأ الاعتقاد: "إن الذي لا يعرف كيف يملي إرادته على الأشياء يضع فيها على الأقل معنى: أي يعتقد أن ثمة إرادة فيها". بهذه الحكمة المختصرة، يشرح نيتشه بإسهاب فهمه للآلية النفسية لفعل "الاعتقاد". فالشخص الذي لا يستطيع استخدام الأشياء وفق ارادته الخاصة، أي لا يستطيع أن يضع فيها معنى لصالحه، يعتقد أن في هذه الأشياء معنى لا يفهمه، كإرادة الله أو ما شابه. وعلى هذا الأساس يفسر الإنسان كل شيء وفق هذا المفهوم للعالم، بمعنى أنه يجب أن يكون في كل شيء غاية أو قوة تحركه، وذلك كي يفهم أن لبعض الأفعال إرادة ما تسببها، كما يملي هو إرادته على أشياء بعينها.
لكن: ما فائدة الاعتقاد عمليا؟ يقول نيتشه بسخرية بليغة: "تحمي الاعتقادات حتى من الزكام. هل أصيبت امرأة تعرف أنها ترتدي ثيابا جميلة بالزكام يوما؟ افترض أنها تكاد لاترتدي ثيابا". بمعنى أن ملابسها عارية للغاية. إن الإنسان بحاجة "نفسيا" إلى الاعتقاد لحاجته إلى الحماية: فالاعتقاد يحمي. وخوف المرء على اعتقاداته ليس ذا منشأ موضوعي، بل ذاتي. فالاعتقاد هو الأساس الذي تقوم عليه "ذاتية" أمان الفرد، وحين يهز واحدنا هذا الاعتقاد عن طريق كشف مدى زيفه مثلا، فهو لا يهز الاعتقاد وحده، بل يهز ذاتية الأمان المرتكزة عليه. وحين يستخدم نيتشه، عدو المرأة الشهير، النساء كأنموذج للتدليل على أصحاب الاعتقادات السهلة، فذلك لمعرفته مدى عاطفية المرأة في تبني قناعة وربما: تبديلها. لذلك، يقول: "إني أشك بالنظم وأتحاشاها. فالرغبة بنظام نقص في الكمال".
ثمة مسألة هامة جدا في النقد النيتشوي لعلم نفس الاعتقاد: الفرق الشاسع بين ماهو حقيقي وما "يعتقد" بأنه حقيقي. وهو يرى أنه، في أديان الشرق، تحتل مسألة "ما يعتقد" أنه حقيقي اهمية عظمى. في حين تصادفنا اللامبالاة المطلقة في شأن الأمر الحقيقي. لكن الحقيقة من جهة، و"الاعتقاد" أن شيئا حقيقي من جهة أخرى، عالمان مختلفا الأهمية بالكامل، بل شبه متضادين، ويصل إليهما المرء بطرق مختلفة أساسا. ولتفسير الكلام السابق، يضرب نيتشه المثال التالي:
"إذا كانت ثمة سعادة في "الاعتقاد" بأن الذات مفدية من الإثم، فليس من الضروري أن يكون الإنسان آثما أولا، بل مايهم هو أن "يعتقد" أن ذاته آثمة: "الاعتقاد" هو الضروري، وهكذا تتم الإساءة إلى سمعة العقل والمعرفة، وتصبح الطريق إلى الحقيقة محرمة. هنا يلعب الأمل دورا بارزا كمحرض على الحياة اقوى من أي مثال آخر عن السعادة التي تحدث فعليا. ويعزز المعانون، على نحو خاص، بأمل لايمكن دحضه بأية حقيقة واقعية - الأمل بالماوراء".
مقولة أخرى يشير إليها نيتشه في نقده "لعلم نفس الاعتقاد" هي "البرهان بالإمكانية" - فماذا يعني ذلك؟
يضرب نيتشه مثالا شهيرا يتعلق بتأكيد رجال الدين بأن "الاعتقاد يبارك" هو حقيقة لا ريب فيها. لكن هذه المباركة ليست مبرهنة بل موعودة ليس إلا. والمباركة هنا مشروطة بالاعتقاد: سوف يصبح المرء مباركا لأنه يعتقد. لكن ما يعد به رجل الدين المعتقدين يتعذر الوصول إليه على اي جهاز ضبط موجود فعلا، فكيف يبرهن على ذلك إذن؟ إنه "البرهان بالإمكان": أي: مجرد "اعتقاد" آخر يقول إن النتيجة التي يعد بها المرء ذاته من "الاعتقاد"، لن تخفق في الظهور. وإذا ما وضعنا الكلام السابق في صيغة مختصرة، نقول: أعتقد أن الاعتقاد يبارك - فهو "بالتالي" حقيقة. لكن هذه الـ"بالتالي" ستكون السخافة بعينها كمعيار للحقيقة.
وإذا ما افترضنا أن حقيقة أن الاعتقاد يبارك تعتبر مبرهنة: هل هذا يعني أن المباركة - بتقنية أدق: السرور - ستعتبر برهانا على الحقيقة يوما؟ إطلاقا: لأن اقوى مشاعر الارتياب بالحقيقة تتملكنا عندما تدخل أحاسيس السرور في الإجابة عن سؤال: ماهي الحقيقة؟.
الحقيقة: إن البرهان بالسرور هو برهان عن السرور ليس إلا. ومتى أثبت أن الأحكام الحقيقية "تسر" أكثر من الأحكام المزيفة؟ إن خدمة الحقيقة هي الخدمة الأقسى - يجب أن نحارب لأجلها. وماذا يعني أن يكون المرء نزيها في الأمور الفكرية؟ إنه يعني أن يكون قاسيا على قلبه، محتقرا للمشاعر الناعمة، أن يجعل كل "نعم" و"لا" مسألة ضمير.
الاعتقاد يصنع بركة: إنه "بالتالي" يكذب.
لكن: كيف يمكن أن نفهم مقولة "الاعتقاد يصنع بركة"؟ يقول نيتشه: إن زيادة سريعة لمشفى المجانين تقدم شرحا مسهبا لمثل هذه الأمور.
فالعالم الداخلي الإنسان المتدين، يشبه للغاية العالم الداخلي للمنهكين والمفرطي الإثارة، لكنه يرفض أن يقوم بزيارة كهذه رجل دين، لأنه ينكر، بالغريزة، أن المرض مرض.
لايقف المرء عند حدود رجال الدين، بل يتعداه إلى الفلاسفة. فهؤلاء، برأيه، عدا الشكوكيين منهم، يعتبرون المشاعر براهين، والاعتقاد معيارا للحقيقة. وقد حاول كانط إعطاء هذا الشكل للتفسخ، هذا العوز للضمير العقلاني، طابعا علميا عبر مفهوم "العقل العملي"، لكنه بذلك صمم عقلا مخصصا لحالة يفترض فيها أنه على الإنسان أن لا يقلق على العقل: أي حين تجعل الأخلاقية، الطلب الفائق"أنت سوف" ذاتها مسموعة.
إن ذوقا جماليا، برأي نيتشه، هو الذي اعمى الجنس البشري لفترة طويلة فعلا، وهكذا فقد رغب باثر منظراتي عن الحقيقة، ورغب بشكل خاص ان يقدم رجل المعرفة انطباعا قويا على الحواس.
"الاعتقاد يبارك" يعني، برأي نيتشه، أن صاحب "اعتقاد" كهذا، مرض. ويختار الكنيسة (والمسيحية) كمثال على الدين الذي يسعى إلى إمراض الناس "باعتقاداته" بغية السيطرة عليهم: فالإمراض هو الهدف الخفي لإجراء الفداء في الكنيسة. وكل عرف الكفارة والفداء المسيحي هو جنون دائري مغو بطريقة منهجية. والإنسان المعتقد، المتدين، كما ترغب به الكنيسة هو المتفسخ الأنموذجي. فالحالات العليا التي ألصقتها المسيحية على الجنس البشري، بوصفها الأكثر قيمة هي أشكال صرع - فقد قدست الكنيسة المجانين والدجالين العظماء لأجل الله الأعظم. والمرء بالتالي ليهتدي إلى المسيحية - يجب أن يكون مريضا كفاية كي يفعل ذلك.
يقول نيتشه إن ثمة خطأ شائعا بين رجال الدين، يكمن في اعتقادهم أن من لديه اعتقاد "أو إيمان" صحيح، فإنه سينتج عن ذلك أفعال صحيحة. لكن الحقيقة أن الاعتقاد لا يحرك سوى التفكير أو المخيلة، مثلا: إذا اراد أحدهم لعب كرة المضرب، فإنه لا يكفي إطلاقا "اعتقاده" أنه لاعب جيد، بل يجب أن يمارس هذه اللعبة كثيرا حتى يعتاد على الحركات الخاصة بها. فالاعتقاد الصحيح بأي شيء يأتي عن الأقل بعد إتقان تنفيده بشكل مقبول. وهذا الخطأ - الاعتقاد أن الاعتقاد "أو أخاه الإيمان" يجب أن يكون قبل الأفعال - هو سبب وجود مؤمنين كثيرين لا يستطيعون العمل حسب إيمانهم، أي ليست لديهم الخبرة الكافية او التدريب اللازم لفعل الخير حسب "اعتقادهم" الديني.
وهكذا، فنيتشه يفضل الاعتقاد بالخرافات على الاعتقاد الديني. فالاعتقاد بالخرافة مرتبط بالذات الفردية، بمعنى أنه نتيجة لتفكير فرداني، وحتى لو كانت النتيجة خاطئة، فإنها على الأقل نتيجة تفكير يمارسه الفرد بذاته، ودون اعتماد على الرأي العام. لذلك فاعتقاد كهذا إشارة إلى تزايد الاهتمام بالتفكير الذاتي. يقول نيتشه: "المعتقدات بالخرافات، قياسا إلى المتدين، هو دائما أكثر "شخصانية" وهكذا ايضا يكون المجتمع الخرافي، اي يوجد فيه الكثير من الفردانيين ومن اللذة في الفردانية. من وجهة نظر كهذه، تظهر الخرافة أكثر تقدما من الإيمان، وبإشارة إلى ذلك، يصبح العقل أكثر استقلالية ويريد حقه".
لايتوقف رفض نيتشه عند حدود الأنظمة الدينية واعتقاداتها، بل يتعدى ذلك إلى سائر الأنظمة الفلسفية. لأنه "في كل فلسفة هنالك مرحلة تخطو فيها "قناعة" الفيلسوف داخل المشهد"، "تظهر لرجل العلم في رحلاته المتواضعة والمرهقة، والتي غالبا ماتكون رحلات عبر الصحراء، تلك السريات المتلألئة التي تدعي "الأنظمة الفلسفية": مع قوة خادعة آسرة تظهر أن كل المعضلات وأعذب جرعة من ماء الحياة الحقيقي قريبان من متناول اليد، فيفرح قلبه، ويبدو للرحالة المرهق أن شفتيه ستمسان لتو هدف كل مثابرة الحياة العميلة وأحزانها، فيضغطهما بالتالي إلى الأمام طوعيا. من دون ريب، ثمة طبائع أخرى، والتي تقف، كما لو أنها مربكة بالوهم الجميل: تبتلعها الصحراء وهي ميتة بالنسبة للعلم. طبائع أخرى ايضا، والتي اختيرت من قبل هذا العزاء الذاتي، تزداد شكاستها وتلعن الطعم المالح الذي تخلفه هذه الأشباح ورائها في الفم والذي يؤدي إلى عطش عنيف - جون أن يقترب المرء خطوة واحدة من أي نوع الينابيع".
***
د. نبيل فياض