اخترنا لكم
الفصل السادس والسبعون .. بين المعتزلة والحنابلة
وكذلك الهادف إلى تفكيك الصورة التقليدية المعقلنة سطحيا وظاهريا والتي يقدمها رجال الدين عنه بالأمس كما باليوم. نحن نعلم أن المأمون أراد فرض مقولة القرآن المخلوق بصفتها عقيدة رسمية للدولة: أي عقيدة ينبغي فرضها على موظفي الدولة وعلى جميع المرشحين لوظيفة إدارية فيها.
ولهذا السبب تم استجواب ثمانية وأربعين موظفا حكوميا. وقد تراجعوا جميعا عن مواقفهم السابقة المضادة لرأي المأمون ما عدا اربعة. وكان أشهرهم أحمد بن حنبل المتوفى سنة 855 ميلادية . فقد بقي مصرا على موقفه القائل بأن القرآن أزلي غير مخلوق على عكس ما تقول المعتزلة والخليفة ذاته.
وتعود شهرة ابن حنبل وأهميته إلى كونه زعيما لمعارضة شعبية جماهيرية أي العامة والغوغاء بحسب لغة ذلك الزمان . لقد تزعم هذه المعارضة الشعبية ضد سياسة النظام تحت شعار: لا شيء صادر عن الله مخلوق، والقرآن صادر عن الله ... وبالتالي فهو غير مخلوق. انه أزلي مثل الله ذاته.
وهذا هو الموقف الذي سيطر في الإسلام بعد موت المأمون والمعتصم والواثق: أي بعد موت الخلفاء الثلاثة المؤيدين لفكر المعتزلة. بدءا من المتوكل هزم المعتزلة أمام الحنابلة الذين حظوا بدعم الخليفة الجديد الكاره للفكر العقلاني والفلسفي.
وعلى هذا النحو طمست أطروحة المعتزلة عن القرآن تماما وذلك منذ ألف سنة وحتى هذه اللحظة. وأصبحت تدخل في دائرة اللامفكر فيه او حتى المستحيل التفكير فيه بالنسبة للوعي الإسلامي المعاصر. بمعنى آخر فإن ما كان ممكنا التفكير فيه قبل ألف سنة أو أكثر بل ومناقشته علنيا على رؤوس الأشهاد أصبح الآن ممنوعا منعا باتا.
وكل من يذكره مجرد ذكر يعرض نفسه لخطر التكفير والخروج من أمة الإسلام. على هذا النحو أصبحت مقولة المعتزلة تشكل التابو الأعظم أو المحرم الأعظم بالنسبة للوعي الإسلامي كله.
عندما ندرس عن كثب السيرة الشخصية لأولئك الذين عارضوا المأمون على المستوى اللاهوتي العقائدي نلاحظ انهم من أصل خراساني، تماما كأولئك الذين نزلوا الى الشارع للتمرد مع سهل ابن سلامة ضده. وبالتالي فالثورة ذات الطبيعة الاجتماعية والسياسية تداخلت مع الرفض العقائدي في المجال الديني.
وهنا نجد التمفصل الواضح بين اللاهوت والسياسة في الإسلام. فالذين ثاروا على المأمون سياسيا هم الذين ثاروا عليه دينيا وعقائديا ايضا عن طريق رفض مواقفه اللاهوتية القائلة بأن القرآن مخلوق. على هذا النحو حصل خلط بين البواعث الاجتماعية - السياسية والبواعث الدينية.
ولكن في موازاة هذا الخلط او في طياته راح يتشكل في مخيال الطبقات الشعبية دائرة للكفاءة الدينية متمايزة عن السلطة السياسية. وهذه الدائرة الدينية المستقلة بذاتها تشكلت او تبلورت بفضل عمل رجال الدين.
هنا ينبغي ان نتوقف لحظة لكي نوضح نقطة معينة. كثيرا ما يقدمون الحنابلة على أساس انهم التيار الذي ساهم اكثر من غيره داخل الاسلام السني في الخلط بين الروحي والزمني او بين الدين والسياسة.
ولكن الحقيقة هي أن ابن حنبل عندما رفض أمر الخليفة بخصوص مسألة عقائدية معينة كان قد رسم الحدود الفاصلة بين الدين والسياسة.
لقد حصر مسؤولية الخليفة بجهاز الدولة والمجال السياسي فقط وقال بان طاعته واجبة على الرعية فقط داخل هذا المجال الإداري والحكومي والسياسي. اما في المجال الديني فلا طاعة له ولا ينبغي ان يحشر نفسه فيه.
وذلك لان المعايير الدينية المحضة تقع تحت مسؤولية الأمة المستنيرة والمقادة من قبل علماء الدين المستقلين عن السلطة السياسية والمعترف بهم بصفتهم تلك من قبل الرأي العام. ضمن هذا التصور فإن من واجب الخليفة ان يحمي القانون الديني ويطبقه.
ولكن ليس من حقه ان يحدد مضمونه ويفرضه. ينتج عن ذلك أنه يمكن للمسلم أن يعصي أوامر السلطة بخصوص المسائل الدينية او العقائدية، ولكن لا يمكنه ان يتمرد على النظام لاسباب سياسية. هذه هي القاعدة التي سادت في ارض الاسلام، على الاقل الاسلام السني، على مدار التاريخ.
وهي تُترجم على ارض الواقع على النحو التالي: ينبغي على العلماء، أي رجال الدين، ان يخضعوا للسلطة السياسية. ينتج عن ذلك خلط بين الدين والسياسة من حيث المجريات العملية الواقعية للامور.
هذا في حين الفصل بينهما كان قد نُظّر له مبدئيا وحدد بشكل واضح نظريا وعمليا. ولكنه لم يُطبق. الشيء الذي طبق على مدار التاريخ هو الخلط بين الروحي والزمني، او بين الدين والسياسة. ولا يزال هذا الامر سائدا حتى اليوم.
ولذلك شاعت الأطروحة القائلة بان الاسلام على عكس المسيحية لا يفرق بين الدين والسياسة. وهي أطروحة يدعمها الاسلام السياسي والمستشرقون الغربيون في آن معا. وكنت قد بينت خطأها اكثر من مرة وقمت بتفكيكها او توضيحها كما أفعل الان.
وهنا يكمن أحد اسباب الخلاف بيني وبين المستشرقين الغربيين. لكن لنعد الى التاريخ. لقد تفاقمت الامور في هذا الاتجاه، أي اتجاه الخلط بين الدين والسياسة، بعد القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي. فبدءا من تلك اللحظة اصبحت المجتمعات الاسلامية محاطة بالخطر ومهددة داخليا وخارجيا.
ولهذا السبب فانها راحت تقبل بكل انواع السلطات القائمة والحكومات المتعاقبة حتى ولو كانت جائرة واستعبادية بشرط ان تفرض النظام في المجتمع وتحقق لها الأمان. وعلى هذا النحو خضع علماء الدين والأمة كلها لإرادة الحاكم دون مناقشة سواء أكان سلطانا ام أميرا ام أي شيء آخر.
نقصد بالاخطار الخارجية هنا تلك الناتجة عن الاتراك والمغول والحملات الصليبية ومعركة استرجاع اسبانيا من قبل المسيحيين وسقوط الاندلس. بدءا من تلك اللحظة توقفت الحركة الابداعية الرائعة للاسلام الكلاسيكي، اسلام العصر الذهبي، ودخلنا فيما يدعى بعصور الجمود الفكري والانحطاط الحضاري.
بقلم د. محمد أركون (باحث ومفكر جزائري)
الراية القطرية
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1100 الاثنين 06/07/2009)