اخترنا لكم
الفصل الخامس والسبعون ... التحرير الفكري لا يزال بعيداً
ونقصد بالمزاودة المحاكاتية هنا مزاودة الفرق الاسلامية علي بعضها البعض ومحاكاتها لبعضها البعض من حيث الارتباط بالاسلام. فهي في الوقت الذي تنافس بعضها بعضا بضراوة علي الاسلام تقلد بعضها بعضا أيضاً في هذه المزاودة. كل فرقة تحاول ان تظهر وكأنها أكثر إسلامية من الأخري. كل واحدة تريد ان تثبت انها تمثل الاسلام الصحيح القويم المستقيم وبقية الفرق علي ضلال وانحراف. وإذا ما استطاعت اقناع الجمهور المسلم بذلك فإن طريق السلطة يصبح مفتوحا أمامها. وعندئذ يمكنها ان تقلب النظام القائم وتحل محله كما فعل العباسيون مع الامويين مثلا. فقد تركزت دعايتهم علي الطعن بالمشروعية الدينية للامويين وبعد ان نجحوا في ذلك استطاعوا اسقاطهم سياسياً وتشكيل الدولة العباسية. وبالتالي فأنا لا أستطيع ان أسقطك سياسيا إلا بعد ان أسقطك دينيا. وينبغي العلم بهذا الصدد انه منذ بلورة نموذج المدينة علي يد النبي محمد صلي اللَّه عليه وسلم فإن المخيال الاجتماعي في المجتمعات العربية والاسلامية لا يمكن تحريكه وتجييشه إلا عن طريق شعارات ذات نكهة إسلامية قوية. نقصد بنموذج المدينة هنا ذلك النموذج الديني والفكري والاجتماعي والسياسي الناتج عن الخطاب القرآني بكل مبادئه وقيمه من جهة، وعن سلوك النبي وتصرفاته اليومية او ما يدعي بسنة النبي من جهة أخري. وعلي هذا النحو يمكن القول بأن "الاسلام" قد أصبح منخرطا داخل رؤيا جماعية ذات جوهر أسطوري، أي غير واقعي. لماذا أقول ذلك؟ لأن ما فعله النبي لا يمكن للبشر ان يفعلوه. هذا أولا. ثم لأن الرهانات السياسية والاجتماعية المتضمنة في هذه الشعارات المرفوعة تحيل الي تصورات لا يمكن تجسيدها علي أرض الواقع من أمثال: الدين الحق، او كتاب اللَّه، او سنة النبي، او وحدة الأمة، او العدالة الكاملة والنهائية، او حكم اللَّه. كل هذه أشياء مثالية جدا او أسطورية تفوق الواقع وتتعالي عليه وبالتالي فلا يمكن للبشر ان يحققوها علي أرضية الواقع. انها فوق طاقة البشر. وحدهم الانبياء يستطيعون ذلك. ولكن البشر يتوهمون امكانية تحقيقها مثلهم او علي أثرهم.. من هنا الطابع الاستلابي للوعي الإسلامي الحالي. فالمعارضات الاصولية تزاود أيضاً علي الانظمة وتتهمها بالخروج علي الدين او عدم تطبيق الشريعة تماما كما فعل العباسيون او العليّون او الخوارج مع الامويين سابقا. ولهذا السبب فإن الانظمة تنخرط في عملية ضخمة لبناء الجوامع من أجل المزاودة علي المعارضة وإثبات إسلاميتها. وهكذا نجد ان كل طرف يزاود علي الطرف الآخر إسلاميا. انظر ما يحصل في كل البلدان العربية والاسلامية حالياً. لكن لنعد الي الماضي البعيد ولنشرح صورة ما حدث. صحيح ان تطبيق نموذج المدينة بكل مثاليته علي ارض الواقع كان صعبا جدا ان لم يكن مستحيلا. ولكن رجال الدين قدموا عنه نسخة معقلنة نسبيا او ظاهريا. لقد قدموا صورة أكثر واقعية عن هذه العقائد الايمانية التي كانت قد جيشت الحركات الكبري للانتفاضات والثورات والاحتجاجات علي مدار تاريخ الاسلام. وهذه النسخة المعقلنة نسبيا او ظاهريا هي التي يستعيدها مرارا وتكرارا رجال الدين المسلمون بالامس كما باليوم ويفتخرون بها. وكذلك استعادها لفترة طويلة علماء الاسلاميات الكلاسيكية او ما كنا ندعوهم بالمستشرقين عن طريق نقلها الي اللغات الاجنبية. ولكن ذلك لم يعد كافيا بالطبع. ولهذا السبب نقول بأن علينا القيام ببحث علمي مزدوج يهدف الي تحقيق هدفين اثنين: أولا ينبغي ان نكشف النقاب عن الرؤيا الاسطورية التاريخية المؤبدة من قبل المخيال الاجتماعي المجبول بالموضوعات والقيم الدينية. ثانياً ينبغي ان نبرهن علي عدم صحة النسخة المعقلنة نسبيا او ظاهريا لرجال الدين المسلمين. كيف؟ عن طريق القيام بتفكيك الفكر الضمني الذي يرتكز عليه علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. عندئذ وعندئذ فقط يمكننا ان نفهم البعد النفسي الاجتماعي أساسا للمناقشات والصراعات التي دارت حول العلاقات الكائنة بين الدين والدولة والدنيا. نقصد بالرؤيا الاسطورية التاريخية هنا تلك الصورة المثالية العذبة التي شكلها المؤرخون المسلمون الاوائل عن بدايات الاسلام وشخصياته الكبري. لقد آن الأوان لتفكيك هذه الصورة التي تملأ علي المسلمين أقطار وعيهم من اجل احلال الصورة التاريخية الواقعية محلها. ولكن هذه العملية صعبة بل وحرجة جدا لأنها تصطدم بالمخيال الاجتماعي الراسخ الجذور في عقليتنا منذ مئات السنين. والجمهور الإسلامي ليس مستعدا لتقبل هذه العملية التفكيكية التحريرية حتي الآن. انه لا يزال غاطسا في التصورات الخرافية القديمة التي يغذيها الدعاة والشيوخ التقليديون علي مدار الساعة من خلال الفضائيات التلفزيونية. وبالتالي فمن سيستمع الي صوت المؤرخ الحديث او الفيلسوف النقدي في مثل هذه الظروف؟ لهذا السبب نقول بأن تحرير الوعي الإسلامي من الاستلاب العقلي المزمن لا يزال بعيدا.
بقلم: محمد اركون- باريس - خاص - الراية:
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1095 الاربعاء 01/07/2009)