اخترنا لكم
ثوابت أقل... ومتغيرات أكثر
وهو "فلسفة عدم الاستقرار منظوراً إليه في ضوء التعقيد". وهذا ما أخذ يفرض نفسه في الحياة العامة، كما في الحقول الإعلامية الهائلة والواسعة في كل العالم، وإن بدرجات مختلفة اختلاف البلدان والحقول والمحاور. وظهر للعيان أن الكثير مما اعتبر "ثوابت"، راح يعيش اضطراباً وتأزماً، يجعلانه أكثر اقتراباً من المتغيرات: لقد انطلقت رياح التغيير العاصف، لتهب على العالم، فيبدو كأنه دخل مرحلة عصيبة وطريفة من انعدام الوزن.
وبتعبير عالم الاجتماع البريطاني "أنطوني جيدينز" في كتابه "نتائج الحداثة" الصادر عام 1990، "فإنه في نهاية القرن العشرين، يرى البعض أننا الآن على مشارف عهد جديد يتعين على العلوم الاجتماعية أن تستجيب له، لأنه يأخذنا إلى ما بعد الحداثة نفسها... وإن مختلف التعبيرات المقترحة عن ذلك تشير إلى أن هنالك (مرحلة سابقة توشك على الإنتهاء). وتعبر عن ذلك عبارات من قبل (ما بعد الحداثة) و(ما بعد المجتمع الصناعي) و(ما بعد الرأسمالية)".
بتلك الكيفية المأزومة والمتسارعة يبرز خطاب (المابعديات)، الذي يعلن نهاية المصطلح الجامع "عصر الحداثة" الغربية المديد. وبداية المصطلح الجامع الآخر "ما بعد الحداثة" فمن شأن هذا الأخير أن يحمل دلالات تفضي إلى القول بـ "استنفاد" مشروع الحداثة التاريخي، وبانحسار الثقة في مصداقيته، وسيفهم ذلك بمثابة دعوة إلى الكفّ عن الزعم بوجود نظرية أو نموذج نظري أو منظومة نظرية في المفاهيم والقيم يمكن الأخذ بها كمدخل لفهم ما يحدث راهناً. كتعبير عن الموقف الإجمالي، راحت "الثوابت" ذات العمر المديد تهتز بقوة، منتهية – تحت وطأة التحولات الكبرى ذات الطابع السلمي والآخر العسكري الملتهب – إلى حالة من التبخر والإنسياح، وظهر السؤال التالي الذي حمل طابعاً إشكالياً من حيث الوجود، ومأساوياً من حيث القيم: إذاً، هل كان ما حُزنا عليه طوال عهود مديدة وهماً، أو أن "صلاحيته" دخلت نهايتها؟
كان الموقف قاسياً فظّاً راح ضحاياه ممن تبنى الفكرة القومية أو النظرية الماركسية أو الأخرى الليبرالية إلخ... وممن آمن بالإسلام أو بالمسيحية إلخ ديناً، يعيشون تجربة بليغة قاسية جعلتهم يتشظون. وبالمقابل، بدا الوجود السوسيواجتماعي والنفسي الأخلاقي بوصفه حالة فظيعة من السقوط في انعدام الوزن. كيف يستمر أولئك في حيواتهم وسهام التشكيك الجارحة تخترق "ثوابتهم"؟ بل هنالك من نعرف من المؤمنين وغيرهم ممن أخذوا بنظرية أو إيديولوجيا أو اعتقاد ديني فقدوا توازنهم تحت وطأة التفكك الشخصي الذاتي، سواء كانوا عرباً أو أجانب، وربما لقلة من هؤلاء أو أولئك، كان ذلك بمثابة "عبرة ودرس" عميقين.
والإشكال الأعظم الآن هو ذلك الذي يواجه مجموعات أو فئات أومؤسسات أو نظماً سياسية عاشت وبنت "منجزاتها" على "منظومات نظرية وإيديولوجية"، اعتبرتها "خالدة أو ثابتة"، أو ذات أسس فطرية "طبيعية". والآن، تأتي مطالب التفكيك أو إعادة البنينة أو الإقصاء بالنسبة إلى المنظومات المذكورة، بعد أن أخذت تظهر بصيغ مهترئة يخدمها الإستبداد في الداخل والتواطؤ مع مرجعية غربية ما في الخارج. وهنا يتفاعل الموقف باتجاه حالة من "حيْص بيْص"، وتتصاعد محاولات خلط الأوراق من قبل النظم الاستبدادية، وصولاً إلى المطلب التالي، الذي تطرحه هذه الأخيرة بمثابته واحداً حاسماً من الحلول المقترحة للأزمة البنيوية المستحكمة بالبلد اقتصاداً وسياسة وقضاء وتعليماً إلخ: حذار أيها المواطنون من القوى الأصولية الظلامية. فثمة طريقان اثنان لا ثالث لهما: إما هذه القوى التدميرية، وإما نحن الذين نضمن سيراً حثيثاً نحو أهدافنا العليا، الوطنية أو القومية أو الليبرالية أو التشاركية السياسية أو المساواتية! ولا يُغفل قادة وحكام تلك النظم الأمنية تذكير شعوبهم أن تحقيق تلك الأهداف منوط – في مرحلتنا الراهنة – بشرطين إثنين، هما الفعل تحت مظلة "القائد العظيم" أو "الأب الرحيم" أولاً، والذّود عن حياض البلد والوطن عبر انطلاق مراوغ من مقولة المقاومة للعدو الصهيوني والبقاء في خط الممانعة ثانياً، الموجود طالما هم موجودون فوق.
على ذلك النحو، تتحول الدنيا، أو تطرح سؤال التحول والتغيير. ولكن أولئك رابضون في مواقعهم "حفاظاً على الثوابت". ومع أن الحفاظ على هذه الأخيرة يظل يمثل مهمة علمية معرفية ووطنية سياسية. إلا أن البقاء في هذه الدائرة والإحتماء بتاريخ محنّط دونما مساءلة له تهدف إلى قرائته نقدياً تاريخياً، سنفضي إلى الموت السريري البطئ. من هنا، جاء مطلب الإنخراط العلمي والسياسي في تلك القراءة، بوصفه واحداً من أهم مطالب إعادة النظر النقدية في ثوابتنا ومتغيراتنا.
............................ الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1095 الاربعاء 01/07/2009)