اخترنا لكم
صناعة الجماهير التي تسمع ولا تسأل
وإذا كان البشر خلقوا أحراراً، فما الذي يجعل شخصاً واحداً يسيطر على جماعة واسعة، ويلقّنها الفارق بين المسموح والممنوع؟ يدور السؤالان حول ثلاث قضايا: سلطة الكلام المكتفية بذاته الذي يحوّل الواقع وما يجري فيه إلى طرف زهيد فقير الاعتبار، وهيبة المتكلّم التي تقنع المستمع بأن البشر يتساوون في بعض الأمور ولا يتساوون في الأمور كلها، وحظوظ الناس في الحياة، التي ترسل البعض إلى مدرسة تعلّمه القدرة على الكلام والإقناع، وتمنع الآخرين من التفكير والمساءلة وتقضي عليهم بالصمت والإذعان.
تُرجم إلى الفرنسية، في العام الماضي، كتاب الصحافي الأميركي والتر ليبمان: «جمهور الأشباح»، الذي صدر في الولايات المتحدة عام 1925. حظي الكتاب «القديم المولد» بتعليقات كثيرة، مرجعها سببان: نسب البعض ليبمان إلى «الليبرالية الجديدة»، ورأى في كتابه «مرشداً» لها، لأنه يوكل إلى «نخبة ممتازة» بناء رأي عام، يحوّل المجتمع إلى أكثرية مطيعة، تردّد ما تسمع، وتعتبر ما سمعت حقيقة لا شوائب فيها. دعا اللغوي نعوم تشومسكي، لاحقاً، هذه السياسة الإعلامية بـ «صناعة الإذعان»، التي تسحب من العقل وظيفته وتعيده صفحة بيضاء، يستطيع «أبطال الإعلام» أن يسطّروا فوقها ما يريدون.
يعمد ليبمان إلى مجاز مسرحي يساوي حال المواطن بحال «المتفرّج الأصم الجالس في الصف الأخير»، الذي يغلبه النعاس، حتى لو عرف أن ما يجري فوق المسرح بالغ الأهمية. يعرف المواطن أن الحياة الجماعية هي مرجع القرارات في السياسات الداخلية والخارجية، لكنه لا يستطيع أن يقنع نفسه بأنه معني بهذه القرارات، أو أنها معنية به. يعود السبب، الذي يجمع بين المعرفة واللامبالاة، إلى «اللامرئي»، الذي هو مجموعة من القضايا المتنوعة المعقدة، التي يعرف المواطن أنها مهمة وتتجاوز قدراته في آن. لذا فإن الحديث عن «رأي ديموقراطي عام» لا معنى، مثلما أن الكلام عن «اكثرية منتخبة ديموقراطياً» منقطع عن الواقع، طالما أن المواطنين عاجزون عن تلبية الشعارات المنسوبة إليهم. يلقي ليبمان اللوم على «المواطن - المتفرج»، ويرى في «الإرادة الجماعية» الفاعلية «مهمة مستحيلة»، مؤمناً بأن تحقيق هذا «الهدف النبيل» لا يختلف عن «حلم إنسان سمين في أن يصبح راقصاً تنشدّ إليه الأنظار». ينتهي بداهة إلى ثنائية: القائد والمقاد، فبعض الناس يتابع العرض المسرحي ولا يغفو، أو إلى ثنائية: النخبة والعامة، التي تفرض على الطرف الأول أن يضبط العلاقات الاجتماعية الواجب ضبطها، لأن «الجمهور السلبي» لا يختار مرشحاً ولا يضع برنامجاً، ولا يقوم بتعريف السياسة، أكثر مما يقوم بصنع سيارة أو يشارك في تمثيل مسرحية».
يستلزم تحقيق الديموقراطية، إذاً، تخفيف المهام الموكلة إليها، الذي يعني أن على «الجمهور الديموقراطي» أن يسير وراء ممثليه، الذين يعرفون معنى «المجتمع الديموقراطي» وغاياته. وهذا الجمهور، الذي يبدأ من «اللامنظور» ويعود إليه، يختار، أو ينتخب، «إشارات عامة»، بشراً لا يعرف ملامحهم تماماً، يشيرون إلى اتجاه مصالحه، وإلى الطريق، الذي لا يحسن السير فوقه إلا بدليل هو: «النخبة السياسية»، التي تفكر عن المجتمع، الذي يعرف ولا يريد التفكير. يظل الأمر على ما هو عليه أصابت النخبة أم أخطأت، لأن أحوال الجمهور، كما أحوال «الحقوق» بعامة، محصلة لتطور تجربة جماعية توجهها حاجات الضبط والتنظيم.
يعود السبب التالي للاهتمام بكتاب «جمهور الأشباح» إلى أطروحته الأساسية الملتبسة، التي تنقد الجمهور وتسوّغ تهميشه وقيادته، من ناحية، وتفصح عن زيف «الاختيار الديموقراطي»، من ناحية ثانية. تبدو الديموقراطية مثالاً جميلاً عالياً، تمنع عنه جماليته الباذخة إمكانية التحقق، في انتظار تطور ضروري يعيد صوغ النخبة والعامة معاً، كما لو كانت الديموقراطية نظام الحكم المثالي لزمن لم يأتِ بعد. وبسبب هذا، فإن ليبمان لا ينقد النخبة، التي تسوق «وراءها» جمهوراً معطوباً لا تحتاج إليه، بل ينقد «المبالغات الديموقراطية»، التي تمنع التعددية السياسية المجتمعية، وتفرض مكانها أحادية نخبوية ضرورية. تصدر عن هذه المبالغات التعابير الكبيرة مثل: الشعب، الأمة، البروليتاريا، وغيرها من المصطلحات الخطيرة ذات الجرس السحري، التي تفضي إلى أشكال مختلفة من الاستبداد. فهذه المصطلحات، التي تتحدث عما لا يُرى، تقنع الناخب بأنه امتداد لمرشحه وأن مرشحه امتداد له، وأن «افكار مرشحيه هي أفكاره، وأن أفعالهم هي أفعاله، وأنهم بفضل عمليات غامضة يشكّلون جزءاً منه». تنطوي الملاحظات، التي يسوط بها ليبمان جمهوراً شبحياً، على نقد جذري للمجتمع الديموقراطي، الذي ينتج جمهوراً لا دور له، ولكل مجتمع قائم على ثنائية: النخبة والعامة، التي تجعل إرادة البشر خارجهم، وتعيّن «الخارج النخبوي» ناطقاً بما يعرفه الجمهور ويريده، وبما لا يعرفه ولا يريده أيضاً.
انطلق ليبمان في نصه الذي يقبل بأكثر من تأويل، من واقع «جمهور أصم يميل إلى النوم»، معترفاً بنخبة «موضوعية». نقض الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير، في كتابه «المتفرّج المتحرر»، فكرة الجمهور العاجز وقال بمتفرّج يقظ، يفهم ما يريد، بسبب تساوي حظوظ البشر من الفهم والإدراك. ومع أن الفيلسوف قال بفكرته في كتاب سابق عنوانه: «الأساتذة الجهلة»، قبل ثلاثة عقود، فقد عاد إليها في سياق جديد، يتسم بتداعي الفضاء السياسي والديموقراطية. أدار حديثه، في كتابه الجديد، حول تراجع فاعلية الفن بعامة، وتراجع الفن المسيّس بخاصة. عزا الأمر إلى سببين متكاملين: عدم الاكتراث بالمعايير التي تميّز الفن الحقيقي من ممارسات تشبهه، تمتثل إلى التسويق والنزعة الاستهلاكية، واختلاط الحدود بين الفن الراقي والفن الفقير. دفعه هذان السببان إلى الكلام عن «اللاتمايز»، الذي يساوي أي شيء بأي شيء، وعن موقع يختلط فيه الفني بغير الفني. قال، في الحالين، بوضع جديد للفن، لا يقبل بالمعايير القديمة، ولا بالنظريات الفنية «القديمة»، التي تعاملت مع مواضيع فنية مغايرة. ومع أن رانسيير لا يميل إلى مقاربات ما بعد الحداثة، فقد انتهى إلى شك صريح في دور الفن اليوم ووظيفته النقدية.
اتكاء على مفهوم «اللاتمايز»، نقد رانسيير الإنتاج الفني. فهو يتحدث، في فصل عنوانه «الصورة المستبدة»، عن صناعة الصورة في وسائل الإعلام المسيطرة، خصوصاً التلفزيون، التي تقذف في وجه المتفرّج فيضاناً من الصور، تطمس كميّتها دلالتها، وتجعل من المرعب والرهيب أمراً عادياً. وواقع الأمر أن الصورة المقدمة «تختار وتصنّف ويتم التعليق عليها، من وجهة نظر المختصين، الذين يقترحون علينا ما يجب أن نفكر به». وحتى حينما تظهر هذه الصور ما هو مرعب ورهيب، فإن ما يتبقى للمتفرّج «كومة من الأجساد ننظر إليها ولا تنظر إلينا، وتصبح موضوعاً للكلام، من دون أن تعطي حق الكلام». ومع أن في كلام رانسيير، عن صناعة الصورة وتزييف الدلالة، ما يوحي بشيء قريب من خطاب ليبمان، فما يقول به مختلف، بمقادير محددة. فهو ينقد في «اللاتمايز» قصور المبدعين عن إنتاج فن يكشف عن الواقع الواقعي المحتجب وراء واقع زائف، واندفاعهم وراء قيم السوق، التي تساوي الإبداع بسهولة التسويق، كما لو كان السوق هو المرجع الفني الذي يحدّد القيم والمعايير.
أما النقد الأشد فيذهب إلى دعاة «الفن السياسي» الذي يفترض المتفرّجين مجرّد: «فقراء معتوهين ومستهلكين، يغرقون في فيض السلع والصور، الذي يعدهم بآمال كاذبة». يمثل هذا الافتراض إهانة للمتفرّج، القادر بذكائه دائماً على تمييز الزائف من الحقيقي، من دون أن يحتاج إلى مرشد ودليل. يبتعد رانسيير عن التصورات التقليدية للفن السياسي، التي قال بها بريشت وآرتو وغيرهما، مؤكداً أن فاعلية الفن تأتي من فن لا يقول بالفاعلية. بل إن ثقة رانسيير، غير المقنعة على أية حال، بقدرة المتفرّج وحده على الوعي الصحيح، تجعله يختصر الإبداع الفني إلى «موضوع حواري»، بمعنى ما، يحرّض النظر ويحض على المساءلة. وفي الحالات كلها، فإن دور «النخبة الصانعة»، الذي يقول به ليبمان، لا مكان له في خطاب رانسيير، لأنَّ هذا الدور يقفز فوق المبدأ الديموقراطي الجوهري، القائل بالمساواة وبتوزّع «الذكاء» على البشر جميعاً. وما القول بمتفرّج يحتاج إلى آخر يحرّره إلاّ تعبير عن وعي زائف، يدعم سيطرة سلعية، يدّعي نقدها والتنديد بها.
استولد ليبمان صناعة الإذعان من تصور سياسي قائم على ثنائية العامة والنخبة، ونقد رانسيير صناعة الصور في مجتمع يحكمه التسليع. يتضمن هذان الموقفان عناصر لنقد «سلطة الكلام»، في مجتمعات مغايرة، تستعيض عن السلع والسياسة بفن «الخطابة»، الذي شرطه عارف كامل وجمهور جاهل. ولعل «الريع الخطابي»، الذي يفترض جاهلاً أبدياً، هو الذي يبدع صناعة إذعان أخرى، لا سبيل إلى نقدها ولا إلى التنديد بالمراجع المشرفة عليها.
صحيفة الحياة
الثلاثاء, 23 يونيو 2009