كتب واصدارات

نظرية قراءة التراث عند محمد عابد الجابري للدكتور قادة جليد

إن التراث العربي والإسلامي يمثل موضوعاً أساسياً في فكر الفيلسوف والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، الذي كان له دور كبير في إعادة التفكير في هذا التراث وتحليله من خلال منظور نقدي وعقلاني. وعلى الرغم من التحديات المعرفية والمنهجية التي يواجهها الفكر العربي المعاصر، فقد استطاع الجابري أن يقدم مقاربة جديدة لفهم التراث العربي والإسلامي بعيداً عن التأويلات السطحية أو الجامدة. حيث تستند رؤية الجابري إلى فكرة أساسية مفادها أن التراث ليس مجرد ماضٍ ينبغي استعادته أو تكراره، بل هو حقل حيوي من المعارف التي تحتاج إلى إعادة قراءة نقدية تنطلق من الواقع المعاصر وتتفاعل مع متطلبات الحداثة. وبالتالي، يرى الجابري أن التراث يجب أن يُفهم ليس كمجموعة من النصوص الجامدة، بل كعملية من البناء المعرفي المستمر، وهو في ذلك لا يكتفي بنقد الموروث الفكري والحضاري العربي الإسلامي بل يسعى أيضاً إلى تحديد مواقع الخلل والقصور فيه، ويستشرف سبل الإصلاح والتجديد التي من شأنها فتح آفاق جديدة للفكر العربي.

يركز الجابري في مقاربته على ثلاث قضايا رئيسية: أولاً، كيفية قراءة التراث في سياق حوار بين العقل والواقع، وثانياً، دور العقل النقدي في قراءة التراث دون الانسياق وراء نزعات التقديس التي تعيق الفهم الصحيح، وأخيراً، مقاربة العلاقة بين التراث والحداثة في سياق إصلاح الفكر العربي الإسلامي. فالجابري يعتبر أن نقد التراث لا يعني هدمه أو إلغاءه، بل هو خطوة ضرورية نحو بناء أفق معرفي جديد يعترف بجوهر الفكر العربي وفي الوقت ذاته يتجاوز الجمود والانغلاق.

إن قراءة التراث عند الجابري لا تقتصر على دراسة النصوص وتفسيرها بشكل تقليدي، بل تتعداها إلى نقد المنهجيات التي سيطرت على الفهم العربي للتراث في العصور الحديثة. فمن خلال تقديمه لمسائل مثل "القراءة المعاصرة" و "إشكالية تبيئة المفاهيم "، يحاول الجابري تزويد الفكر العربي بأدوات جديدة لفهم ماضيه وتحقيق تفاعلٍ مثمر بين الماضي والحاضر.

لقد أسهمت أطروحات الجابري في إحداث تحول ملموس في كيفية تناول التراث في العالم العربي. وكان لهذا الفكر تأثير بالغ على العديد من المفكرين والباحثين الذين حاولوا تطوير رؤى جديدة لفهم العلاقة بين التراث والمعاصرة.

في كتاب جديد صدر عن ابن النديم و دار الروافد الثقافية-ناشرون، قدّم الأكاديمي الجزائري الدكتور قادة جليد  “نظرية قراءة التراث عند محمد عابد الجابري”، معرباً، وفق تقديمه: “ عن شرح وتوضيح نظرية الجابري التراثية أو نظريته في قراءة التراث (…) ثم أعطى المجال لنصوص الجابري لكي تعبر عن نفسها مباشرة وتدافع عن وجهة نظرها لأنه رأى أن الكثير من الباحثين يقوّلون الجابري أشياء لم يقلها ولم ينطق بها ولا تنسجم مع نسقه الفكري ومنطلقاته الفلسفية أو يأخذونها مجزأة من سياق عام أو يقرؤونها بأفكار مسبقة وأحكام جاهزة وتصنيفات إيديولوجية لذلك حاول قدر الإمكان وفي حدود إمكانياته المنهجية والمعرفية تقديم المصدر على المرجع”، استهل كتابه بــــ “مدخل منهجي لقراءة الجابري" ؛ فطرح جملة من المواضيع من التعريف بمشروع الجابري و مسائله وقضاياه وصولا إلى  التفكير مع أو ضد الجابري.

 عنوان “نظرية قراءة التراث عند محمد عابد الجابري: المنهج والرؤية”، الذي شكل محتويات الكتاب، الصادر سنة 2023 الطبعة الأولى، في 280 صفحة، قدمه الدكتور قادة جليد في خمسة فصول مع مقدمة وخاتمة، تنطلق من القراءة عند الجابري وتتراوح بين فلسفة الجابري وأنواع القراءة لديه ومستوياتها مرورا بنقد القراءات السائدة للتراث وانتهاءًا إلى خطوات المنهج وعناصر الرؤية في قراءة الجابري للتراث.

لقد تراكمت آلاف المقالات والمحاضرات والحلقات النقاشية والنقدية حول موضوع فكر محمد عابد الجابري، وأصبح من حق البعض أن يتساءل عن جدوى مواصلة الخوض فيه، وهذا رأي لكنه غير موفق؛ لأنه لا يقوم على تقييم موضوعي لمكانة هذا الفكر وجذوره و تفاصيله و آفاقه. التي تتميز بالحيوية النقدية فعلا؛ لكنها في الغالب يتم تكرارها ولا تضيف كثيرا الإضافات المنهجية و المعرفية، وهي في الجزء الأكبر منها إما تعامل عاطفي مع المفكر أو تحيز ثقافي في الغالب، لكن هذا الكتاب يتسم برصانة معرفية بفكر الجابري دراسة و تحقيقا و كذلك بقوة منهجية في التحليل و همة نقدية موضوعية للنهوض بالوعي الثقافي اللازم في التعامل مع التراث و قراءته و بناء فلسفة نقدية قادرة على تجاوز التحيزات و الإشكالات غير الواقعية الضاغطة على العقل العربي في تعامله مع تراثه...لذلك جدير بالقارئ العربي العودة إلى هذا الكتاب المميز و الموجه موجه بالدرجة الأولى للطلبة والباحثين، على أمل يضيف إضافة استراتيجية للمكتبة العربية و للدراسات الأكاديمية المرتبطة بموضوع التراث و الفكر و العقل العربية...

مقدمة المؤلف:

يتميز المفكر العربي الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله (2010-1936) عن سائر المفكرين العرب من أصحاب المشاريع الفكرية، بأنه المفكر والفيلسوف العربي الوحيد في نظرنا الذي مهد لمشروعه الفكري الكبير (نقد العقل العربي) بنظرية في قراءة التراث، موضوع هذا المشروع ولقد ساهمت هذه النظرية في الربط بين الجانب النظري والتطبيقي في نفس الوقت، فهو يُؤشكل ويُؤفهم يُنظرُ ويُفضّل ويستعرض المفاهيم لكن غير مفصولة عن المادة التي يدرسها أو النماذج المعرفية التي يختارها بوعي وإتقان، وهو بذلك يذكرنا بالفيلسوف والمؤرخ المغاربي الكبير عبد الرحمان ابن خلدون (1332-1406) الذي مهد لمشروعه في كتابة التاريخ بالمقدمة المشهورة التي اشتملت على الكثير من النظريات والمناهج المبتكرة، ولا عجب في ذلك، فإن الجابري يتصل منهجيا ومعرفيا وحضاريا بلحظة ابن خلدون كلحظة فارقة في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بشكل عام ويؤكد هذه اللحظة من خلال مسيرته البحثية والعلمية بضرورة إحياء الخلدونية واستمرار النظر فيها لأننا لم نخرج من الزمن الخلدوني بعد فالخلدونية اليوم هي عناوين الواقع نعيشه ولا نستطيع التحدث عنه لذلك كرس أطروحته الجامعية لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة لفكر ابن خلدون بعنوان» العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي». إن الجابري في بداية تأسيسه لنظريته التراثية مثل ابن خلدون تماما، فهو يريد أن يتملك موضوعه منهجيا ومعرفيا والسيطرة عليه قبل مناقشة أبعاده ويطرح الأسئلة المفصلية المهمة على غرار ما هو التراث وما هي مرجعيته في الفكر الإسلامي القديم والفكر العربي الحديث والمعاصر كيف نقرأ التراث وكيف نفهمه ونتعامل معه، وما هو المنهج الملائم لقراءته، وهل هناك منهج واحد أم مناهج متعددة، وهل للتراث وظيفة تاريخية في الحاضر وكيف يكون هذا الحضور وهذا التمثل كيف نجعل التراث معاصرا لنفسه ومعاصرا لنا في نفس الوقت؟

كل هذه الأسئلة الرئيسية والأسئلة الفرعية الأخرى ذات الإرتباط أجاب عليها الجابري في كتب مرتبطة منهجيا مع بعضها البعض لإبراز نظريته في قراءة التراث، إنه يحدد المفاهيم ويبيئها ويناقشها ويخضع موضوعاته للنقد المستمر ويفحصها تحت مجهر المنهج والرؤية.

لقد انشغل الجابري بالتراث فأصبح مهموما به، وكان السؤال الذي يؤرقه كيف نتحوّل من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث؟ فماذا أراد التراث من نفسه في الماضي وماذا يريده منا اليوم، وإذا كانت العودة إلى التراث تعني قراءته من جديد فما هي القراءة، وما هي أبعادها ومستوياتها، وماذا يعني الجابري بالقراءة الثلاثية ومستوياتها الثلاثة وهي المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي والوظيفة الإيديولوجية؟

وبودي وأنا أكتب هذه المقدمة أن أتقدم بملاحظتين أساسيتين:

أولا: إنني في هذا الكتاب لا أريد أن أعرض أو أناقش مشروع الجابري الفكري إلا في الإطار الذي يسمح لنا بشرح وتوضيح نظريته التراثية أو نظريته في قراءة التراث، أما نتائج المشروع وطموحه المعرفي والإيديولوجي وتقويم مقدماته ومناقشة آفاقه فقد قام بها مفكرون كبار على غرار على حرب وجورج طرابيشي وفتحي التريكي ومحمود أمين العالم وطه عبد الرحمان وغيرهم، وإن كنت لا أتفق معهم في الكثير من الاستنتاجات والأحكام لأنهم في طروحاتهم وسواء كان ذلك بطريقة واعية أو غير واعية تعاملوا مع الجابري كشخص يجب إزاحته من عرش الثقافة العربية المعاصرة ولم يتعاملوا مع الجابري الفيلسوف أو المفكر المستنير .

ثانيا: إن الفلسفة الحقيقية هي اشتغال على النصوص والنصوص الأصلية تحديدا لأن الفيلسوف لا ينتج إلا من خلال نص آخر، لذلك أعطينا المجال لنصوص الجابري لكي تعبر عن نفسها مباشرة وتدافع عن وجهة نظرها لأنني رأيت أن الكثير من الباحثين يقوّلون الجابري أشياء لم يقلها ولم ينطق بها ولا تنسجم مع نسقه الفكري ومنطلقاته الفلسفية أو يأخذونها مجزأة من سياق عام أو يقرؤونها بأفكار مسبقة وأحكام جاهزة وتصنيفات إيديولوجية لذلك حاولنا قدر الإمكان وفي حدود إمكانياتنا المنهجية والمعرفية تقديم المصدر على المرجع، لأن المرجع أحيانا يوجه القارئ نحو أفكار تقديم واستنتاجات لم يقلها النص ولا يحتملها، ومن هنا يكون المرجع حاجبا للنص لا مستكشفا ولا مستلهما . كما أن هذا البحث وهذا الكتاب موجه بالدرجة الأولى للطلبة والباحثين حيث لا يمكن الإستغناء عن النصوص الأصلية في تناول الإشكاليات الفكرية السائدة في الفكر العربي المعاصر والفكر الفلسفي بشكل عام.

يبقى أن أشير في الأخير أن الدكتور محمد عابد الجابري قد عاش إشكالية التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، الهوية والمغايرة ،كهم معرفي وثقافي وحضاري وانخرط فيه كمفكر عضوي ولم يتعامل مع التراث كإشكالية نظرية محايدة من أجل الترف الفكري أو كنظرة الأنثروبولوجي الذي يظل موضوعه ماثلا أمامه بإستمرار، لقد عايشه وكابده كتجربة حية ومعاشة على صعيد الوعي والوجدان والسلوك، إنه يجمع بين المعرفة النظرية والممارسة التطبيقية وكأنه يقول: إن الفلسفة التي لا تتخذ موقفا من الحاضر تبطل أن تكون فلسفة، ويدعونا من خلال قراءته للتراث إلى تحديث وتجديد فكرنا بمفاهيم حداثية وروح معاصرة وإذا كان المفكر الجزائري محمد أركون قد عرف الحداثة في كتابه الفكر الإسلامي نقد واجتهاد» بأنها «توتر للفكر أمام مشكلات المعرفة فإن هذا التوتر الفكري والنفسي هو الذي لازم محمد عابد الجابري وتجشم عناءه ومشقته ليفتح لنا طريقا مستنيرا نحو الماضي نبني بها جسورا لفهم حاضرنا ولاستشراف مستقبلنا لأن التراث عند الجابري يبقى الهوية الثقافية لشخصيتنا الحضارية العربية عبر التاريخ. وهل هناك أمة تفكر بتراث غيرها؟ وهل هناك أمة حققت نهضتها في التاريخ دون أن تنتظم في تراثها الخاص؟ كما أن إشكالية التراث والحداثة ظلت إشكالية مأزومة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، ظلت إشكالية متوترة لم ترتقي إلى مستوى النظرية، بمعنى لم يتم تجاوزها على مستوى الفكر ناهيك على مستوى الواقع فجاءت قراءة الجابري الجديدة بمنهجها ورؤيتها من أجل تخفيف حدة هذا التوتر وإزالة طابعه الإشكالي المأزوم والإرتقاء بهذه الإشكالية إلى مستوى النظرية المطبقة من خلال الممارسة والتطبيق لا من خلال التأمل النظري المجرد الذي يستغرق صاحبه في بناء صروحه الفلسفية المنفصلة عن الواقع والتاريخ. وهذا موضوع هذا الكتاب.

***

 

في المثقف اليوم