مقاربات فنية وحضارية

كاظم شمهود: النظام والترتيب والعبث في الفن

يختلف المحللون وارباب النقد في مسالة المعالجات التنقنوية واللونية والمعايير والمفاهيم الجماليات الشكلية والمعنوية وفلسفتها في الفن.. يقول كانت من خلال كتابة – الحكم الجمالي – (بانه اذا اردنا ان نحصل على اشياء ممتعة ونسعى الى تعزيز الخير الاخلاقي فان الجمال مطلوب لنفسه... وبالتالي تاتي المتعة الجمالية من اللعبة بين الخيال وفهم الشيئ المدرك. فملكة الحكم تشكل في ترتيب ملكاتنا للمعرفة مصطلحا متوسطا بين الذهن والعقل...) وعرف كانت الجمال بانه التعبير عن الافكار الجمالية. وبهذا القول ابعد كانت المدارس الكلاسيكية التقليدية القديمة واقترب الى مفهوم المدارس الحديثة التي تعتمد في حقيقتها على المضامين المستترة وراء الاشكال.. كما اكد كانت ان الطبيعة تضع في بعض الناس موهبة خلق جميلة وان الجمال الفني هو نوع مستمد من الجمال الطبيعي..كما قال ان العبقرية موهبة لا يمكن تعلمها. وان العبقرية هي التي تضع قواعد الفن. والفن لا يمكن تسميته بالجمال الا اذا علمنا انه فن وانه ياخذ مظهر الطبيعة لنا وبالتالي كل شئ يناسب طبيعتنا، كل شئ متناغم مع روحنا...)3928 تايس

و حسب رائ كانت ان هناك علم موهبة (عبقرية) موجودة عند الانسان موروثة تحملها جينات الاجداد وتظهر الى السطح عندما تجد لها البيئة المناسبة. كما تصقل ويزال عنها الصدئ والغبار خلال مراحل التعليم . وهناك علم اكتسابي يتعلمه الشخص اثناء الدراسة في المراكز العلمية والاكاديميات الفنية وغيرها ولكنه اقل نبوغا من الاول.. كما يوجد هناك علم اخر يسمى - العلم اللدني - وهو عادة ما موجود عند المتصوفة الذين يرون ان احدهم يصل الى مرتبه عليا يطلع فيها على علم الغيب وهو لدن (انا هو وهو انا – الحلاج) (انا الحق – ابن العربي) . اما تفسير لدن عند المسلمين هو مختص بعلم الله وحده (ربنا اتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من امرنا رشدا) وهنا لدنك تعني من عندك.. لكن عند بعض الفرق الاسلامية ترى ان الله تعالى يمنح بعض اولياءه شئ من علمه وقدرته. وتسمى الكرامات. مثلما حدث مع موسى وعيسى – ع-.3929 دتلي

و نعود الان الى موضوعنا الرئيسي حيث ان بعض رواد الفن الحديث لهم أراء متنوعة في مسالة النظام في العمل الفني. يقول رينوار. ان الشئ الجميل لا يخضع لنظام ما، فالعين التي توصف بالجمال لا تكون منظمة تماما، والانف لا يكون جميلا اذا رسم فوق مركز الفم تماما. ولهذا فان الجمال اي كان يجد صفاته بالتنوع. اي يعني ان تدخل الفنان في تشكيلات العناصر الفنية واضافة مثالية لها قد تكون اكثر اثارة وجاذبية. هذا الرأئ يتوافق مع فكر الشاعر السريالي اندرية بروتون حيث يقول ان عرض تمثال في وضع طبيعي لا يثير اي اهتمام ودهشة ولكن لو قلبته اي يكون رأسه تحت وقدميه فوق حينئذ سيثير اهتمام الجمهور.. وقد قرات له كتابا -(اندريه بروتون -المعطيات الاساسية للحركة السريالية – ميشيل كاروج) – الواقع ان قراءته يجعل الفارئ في متاهات ليس لها ضفاف حيث نجد اكثر الشروح والافكار عبارة عن طروحات وتداخلات فلسفية غير مفهومة خاصة عندما يبحث عن النقطة الكونية وفناء الاضداد فيها، وكون العالم يرجع برمته اليها ولا يدركها.. وهي فلسفة لاهوتية روحية.. ومن المؤكد ان شاكر حسن ال سعيد الفنان الصوفي قد اطلع على هذا الكتاب وتاثر بهذه المفاهيم السريالية وبنى نظرية البعد الواحد ومفهوم النقطة عليها.3931 رينوار

وتعتبر العبثية جزءا من التيار الفكري السريالي على اعتبار هناك صراع بين العقلانية واللاعقلانية. كما تطرفت العبثية بالقول ان الحياة ليس لها معنى. وان الانسان وجوده عبثا ليس له معنى. وهذا الصراع القاءم بينهما يعود الى التناقضات الحاصلة في الحياة. وكان من زعماء هذا التيار الفكري البير كامو وروايته – الغريب - وصمويل بيكيت وروايته – في انتظار غودو - ومن الغريب ان الاثنين حصلا على جائزة نوبل للاداب؟. ويبدو ان المعايير في الحصول على جائزة نوبل لا تخضع الى الاخلاقيات الانسانية والقيم الجمالية. فقد منحت جائزة نوبل الى المجرم الصهيوني مناحيم بيغن وربما ستمنح مستقبلا الى نتن ياهو؟..  ويمكن ان نضع اعمال بعض الاتجاهات الفنية ضمن التيار العبثي مثل التلقائية والعفوية وبداية رسوم الطفولة الشخبطة. وكذلك اعمال جاكسون بولوك 1912 حيث احيانا يقوم بفرش القماش على الارض ويبدا يرش عليه الالوان بطريقة عفوية وتنقيطية او شخبطة عبثية. وكذلك نجدها عند الفنان الاسباني انتونيو تابيس. والرسام الروسي ميخائيل شيفال، حيث يعتبر البعض رسومه عبثية سريالية.3932 بولوك

ويعتقد رينوار ان اللانظام قد يكون معبرا عن ضروب الجمال ففي لوحته – المستحمات – كيف نجده يعبر عن التنوع في دقائق الضوء على الاشياء بحرية ورقة. مما يعطي تعبيرا نحو الحياة النابضة.. وعاش رينوار في بداية حياته عيشة بوهيمية عبثية قضى ايام شبابه متسكعا في طرقات حي مونمارتر. ولهذا فقد اطلق الحرية لغرائزه. وكان مولعا برسم نهود الحسان. فيقول (لو لم يبدع الخالق جمالا كهذا لما كنت مصورا..).

و كان رينوار يختار من بين عناصر التصوير اشكاله حسب حساسيته بالالوان و درجاتها. ولهذا استطاع من يتعقب مظاهر الاشياء في تنوعها واشكالها وحرية الاختيار ولم يتحدد بفكرة معينة. والجمال عند رينوار هو ذو ابعاد واقعية من خلال وحي الهاماته الجديدة النابعة من عواطفه وخياله الخلاق. حيث نجد في بعض لوحاته جسم المراة مليئ بالحياة كما هو في الواقع واحيانا يرسم الى جانب الموديل باقات زهور ويعكس الوانها على اشكاله..

ويبدو ان الانطباعيين ومنهم رينوار حرصوا على ابراز التوازن بين المظهر الطبيعي والشكل الانفعالي وحققوا تقدما علميا لاول مرة في تاريخ الفن العالمي.. ولهذا كف الانطباعيون عن اتخاذ الفن وسيله لعرض المشاكل الاجتماعية وركزوا على الرؤية الفنية العلمية والمتعة.

***

د. كاظم شمهود

في المثقف اليوم