أقلام حرة
رافد القاضي: البيئة في العراق.. وطنٌ يُنهَك بين عطش الأرض وضجيج الإهمال
ليست البيئة في العراق مجرد إطار طبيعي للحياة، بل هي ذاكرة وطن، وجغرافيا حضارة، وسجلّ طويل من العلاقة المعقّدة بين الإنسان والأرض. فمنذ فجر التاريخ، شكّلت أرض الرافدين واحدة من أغنى البيئات الطبيعية في العالم؛ حيث الماء الوفير، والتربة الخصبة، والتنوّع الحيوي الذي جعل من العراق مهد الزراعة والاستقرار البشري. غير أن هذه الصورة المضيئة أخذت تتآكل عبر العقود، حتى باتت البيئة العراقية اليوم واحدة من أكثر البيئات هشاشة وتهديدًا في المنطقة.
- العراق.. من جنّة الأنهار إلى أزمة الماء:
كان دجلة والفرات شريانَي الحياة، لا يغذيان الأرض فقط، بل يمدّان المجتمع العراقي بالاستقرار والهوية. إلا أن العراق اليوم يواجه أزمة مائية غير مسبوقة، بسبب تراجع الإطلاقات المائية من دول المنبع، وسوء إدارة الموارد داخليًا، فضلًا عن التغير المناخي الذي زاد من حدّة الجفاف وقلّل من معدلات الأمطار. وقد انعكس هذا الشح المائي بشكل مباشر على الزراعة، فهجرت آلاف الأسر الريفية أراضيها، واتسعت رقعة التصحر، وتراجعت المساحات الخضراء التي كانت تشكّل خط الدفاع الأول ضد الغبار والعواصف الترابية.
- التصحر.. الزحف الصامت:
يُعدّ التصحر من أخطر التحديات البيئية في العراق، إذ تشير التقديرات إلى أن نسبًا كبيرة من الأراضي الزراعية مهددة بفقدان خصوبتها. فالإفراط في استخدام المياه الجوفية، وغياب التخطيط الزراعي، وقطع الأشجار، والرعي الجائر، كلها عوامل أسهمت في تحوّل مساحات واسعة إلى أراضٍ قاحلة. ولم يعد التصحر مجرد مشكلة بيئية، بل أصبح أزمة اجتماعية واقتصادية، دفعت بالكثير من سكان الريف إلى الهجرة نحو المدن، مما زاد من الضغط على الخدمات والبنى التحتية الحضرية.
- التلوث.. وجوه متعددة لأزمة واحدة:
يعاني العراق من أشكال متعددة من التلوث يأتي في مقدمتها تلوث الهواء الناتج عن حرق الوقود الرديء، والمولدات الأهلية وعوادم المركبات، فضلًا عن الغازات المنبعثة من الحقول النفطية. أما تلوث المياه، فيُعدّ الأخطر، إذ تُرمى كميات هائلة من المخلفات الصناعية ومياه الصرف الصحي غير المعالجة في الأنهار، ما أدى إلى تدهور نوعية المياه وانتشار الأمراض، خصوصًا في المحافظات الجنوبية.
ولا يقلّ تلوث التربة خطورة، حيث خلّفت الحروب المتعاقبة مخلّفات عسكرية ومواد سامة، إضافة إلى الاستخدام العشوائي للمبيدات الزراعية، ما أثّر سلبًا على سلامة الغذاء وصحة الإنسان.
- الأهوار.. ذاكرة الماء المهددة:
تمثّل الأهوار العراقية واحدة من أندر النظم البيئية في العالم، وقد كانت على مدى قرون موطنًا للتنوع الحيوي ومصدر رزق لآلاف العائلات. ورغم إدراجها على لائحة التراث العالمي، إلا أنها لا تزال تعاني من شح المياه، والتلوث، وضعف الدعم الحكومي. وجفاف الأهوار لا يعني فقدان نظام بيئي فحسب، بل ضياع نمط حياة وثقافة ضاربة في عمق التاريخ العراقي.
- التغير المناخي وأثره على العراق:
لم يعد التغير المناخي مفهومًا نظريًا في العراق، بل واقعًا ملموسًا يتمثل في ارتفاع درجات الحرارة، وتزايد العواصف الترابية، وتقلّب الفصول. وقد بات العراق من أكثر الدول تأثرًا بالتغير المناخي، رغم كونه من أقل الدول إسهامًا في مسبباته. هذه المفارقة تضع العراق أمام تحدٍ وجودي يتطلب سياسات بيئية عاجلة، تتجاوز الحلول المؤقتة والخطابات الإعلامية.
- مسؤولية الدولة والمجتمع:
تقع على عاتق الدولة مسؤولية كبرى في حماية البيئة، من خلال تشريع قوانين صارمة، وتفعيل الرقابة البيئية، والاستثمار في مشاريع معالجة المياه، والطاقة المتجددة، وإعادة التشجير. لكن الدولة وحدها لا تكفي؛ فالمجتمع شريك أساسي في هذه المعركة. إذ لا يمكن الحديث عن بيئة نظيفة في ظل ثقافة الاستهلاك المفرط، ورمي النفايات، والتعدي على المساحات الخضراء.
- الوعي البيئي.. طريق الخلاص:
إن بناء وعي بيئي في العراق لم يعد خيارًا ثقافيًا، بل ضرورة وطنية. يبدأ هذا الوعي من المدرسة، حيث يتعلم الطفل احترام الطبيعة، ويمرّ عبر الإعلام الذي يجب أن يتجاوز التناول الموسمي للبيئة، وصولًا إلى الفرد الذي يدرك أن الحفاظ على الماء والكهرباء، وزراعة شجرة، وعدم تلويث الشارع، أفعال بسيطة لكنها تصنع فرقًا كبيرًا.
ختاما إن البيئة العراقية اليوم تقف على مفترق طرق: إما أن تستعيد عافيتها بإرادة سياسية ووعي مجتمعي حقيقي، أو تواصل الانحدار نحو أزمات أعمق تمسّ الأمن الغذائي والصحي والاجتماعي فالعراق الذي علّم البشرية معنى الزراعة والحضارة يستحق بيئة تُصان لا تُستنزف، وتُحمى لا تُهمَل. والرهان الأكبر يبقى على الإنسان العراقي، القادر – إذا ما وعى خطورة اللحظة – أن يعيد التوازن بينه وبين أرضٍ طالما أعطته أكثر مما أخذت منه.
***
د. رافد حميد فرج القاضي







