أقلام حرة

ندى صباح: حين يُصبح العمر وعيًا.. التغيّر طريقًا إلى الحكمة

الزمن والوعي: الطريق إلى الحكمة

يمر الإنسان عبر مراحل عمرية تتغير فيها خبراته ورؤاه، ليس فقط في الجسد، بل في وعيه العميق للذات والعالم، ومع مرور الزمن، تتبدل المواقف وتتعمق الإدراكات، ويصبح فهم الحياة أكثر شمولية، فهنا يظهر الدور الفلسفي للوعي بالتغيير المرتبط بالعمر، كطريق مباشر نحو اكتساب الحكمة.

أولًا: الوعي بالعمر.. حين نكبر في الداخل لا في السنوات

ليس التقدّم في العمر مجرّد حركة زمنية ميكانيكية، بل هو تحوّل في الوعي، يُعيد تشكيل نظرتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا. فالإنسان، منذ بداياته الأولى، يعيش بين صورتين: ما يظنه عن ذاته، وما تكشفه له الأيام عن تلك الذات. وكلما اتسعت المسافة بينهما، ازداد الوعي عمقًا. هنا يبدأ ما يمكن تسميته الوعي بالتغيير المرتبط بالعمر، وهو وعيٌ يفتح أبواب الحكمة لمن يمتلك شجاعة النظر في مرآة الزمن دون خوف.

قال سقراط: «اعرف نفسك»، وكأنّه كان يدعونا إلى إدراك أن معرفة الذات لا تحدث دفعة واحدة، بل تنمو معنا كما ينمو الجسد. فكل مرحلة عمرية تكشف وجهًا جديدًا من وعينا، وتعلّمنا كيف نفهم ما تغيّر فينا لا لايعده فقدًا، بل اكتسابًا لفهمٍ أعمق. أما أرسطو فكان يرى أن الحكمة هي «العلم بالأسباب الأولى»، أي إدراك ما وراء الظواهر من علل وغايات. ومع مرور الزمن، يكتسب الإنسان هذا المنظور الهادئ للأشياء، فلا يتعامل مع الأحداث كوقائع معزولة، بل كجزء من نسق أوسع للحياة والمعنى.

ويضيف هيغل بُعدًا جدليًا لهذا الفهم حين يقول إن الوعي يتطوّر عبر التناقضات. فالإنسان، كلما واجه صراعًا بين ما كان عليه وما أصبحه، نما وعيه، وتحوّل التناقض في داخله إلى طاقة فهم. أما شوبنهاور فيقدّم وجهًا أكثر تأمّلًا، إذ يرى أن الشيخوخة لا تمنحنا الحكمة تلقائيًا، لكنها تُهدّئ فينا انفعالات الشباب، وتجعلنا أكثر تسامحًا مع ضعفنا وضعف الآخرين، فيتجلّى فينا نوع من الرحمة الوجودية التي تشبه النضج الروحي.

أما نيتشه، فيقف عند الضد تمامًا، مؤكدًا أن الوعي بالتغيير لا يجب أن يقود إلى الاستسلام، بل إلى تجاوز الذات، لأن كل مرحلة من العمر ينبغي أن تكون انبعاثًا جديدًا للروح، لا انطفاءً لها. وهكذا، فإن من يعي تغيّره لا يذوي، بل يتجدّد، بمعنى انه رأى ان الألم والتأمل يصنعان فينا القوة والحكمة.

ثانيًا: من الوعي إلى الحكمة.. الزمن مرآة الداخل

الحكمة لا تولد من كثرة السنين بل من الوعي بما تصنعه السنين فينا. فالعمر كما يقول الفيلسوف الفرنسي مونتين، لا يعلّمنا شيئًا ما لم نتأمّل ما يحدث فينا أثناء مروره. إن من يعيش عمره بغير وعي يكرّر أخطاءه، ومن يتأمّلها بصدقٍ يتعلّم كيف يحوّل التجربة إلى بصيرة.

الوعي بالتغيير هو إذًا عملية فهم للذات في حركتها، والاعتراف بأننا لسنا الكائن نفسه في كل لحظة. وكلما زاد إدراكنا لذلك، اقتربنا من جوهر الحكمة: التصالح مع الزوال، دون أن نفقد الشغف بالوجود.

الخاتمة: الحكمة ثمرة الوعي لا السنين

ليس العمر ما يجعل الإنسان حكيمًا بل ما يفعله بوعيه أثناء مروره في الزمن. فالحكمة لا تسكن في عدد الأيام بل في نوع التجربة، ولا تُقاس بطول الحياة بل بعمقها. إن من يعي تغيّره لا يخشى الشيخوخة، بل يراها مرحلة صفاء، يتبدّى فيها المعنى الأصدق للوجود. فحين نفهم أن الزمن لا يسلبنا، بل يُعيدنا إلى جوهرنا، ندرك أن الوعي بالتغيير هو أرقى أشكال الحكمة، وأن النضج الحقيقي هو أن نكبر في فهمنا، لا في أعمارنا.

***

ندى صباح اسدالله

في المثقف اليوم