أقلام حرة
عبد الحسين شعبان: الثقافة مزهرة من بغداد إلى بغداد

منذ وقت مبكّر عرف المثقفون العراقيون الغربة، مثلما عرفوا الاغتراب، والغربة هي ابتعاد فيزيولوجي عن المكان، أما الاغتراب فهو نتيجة وضع الفرد في البناء الاجتماعي ووعيه لهذا الوضع وسلوكه كمغترب وفقًا للخيارات المتاحة.
والكثير من المثقفين العراقيين عاشوا حالات اغتراب في الوطن قبل غربتهم، والاغتراب يمكن أن يكون اجتماعيًا أو سياسيًا أو عاطفيًا، وما تشكّله تلك الاغترابات من عزلة نفسية وروحية، ومع الغربة المكانية تزداد الحالة عمقًا ومأساويةً.
عاش العديد من المثقفين العراقيين أكثر من ثلث عمرهم البيولوجي وأكثر من نصف عمرهم الإبداعي في المنفى، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض المثقفين مثل الجواهري ومظفر النواب ومحمود صبري وبلند الحيدري ومصطفى جمال الدين وعبد الوهاب البياتي وهادي العلوي وسعدي يوسف وغائب طعمة فرمان ومحمد مكيّة ومحمد كامل عارف وقيس الزبيدي وناهدة الرمّاح ورفعت الجادرجي وزينب وسلام خيّاط وضياء العزّاوي وفاضل العزّاوي وسالمة صالح وغيرهم.
أستطيع القول إن الغالبية الساحقة من المثقفين عاشت حالات اغتراب كبيرة وغربة في الآن، وإن كانت الأخيرة أقل وطأة، وكنت قد سألت الجواهري الكبير: وماذا كان هناك يا أبا فرات في براغ؟ هل زمهرير المنفى أم فردوس الحريّة؟ (وكان قد عاش فيها 7 سنوات عجاف على حدّ تعبيره).
وبعد أن سحب نفسًا عميقًا من سيجارته أجاب: الاثنان معًا، أي والله. وبالفعل فالمنفى على الرغم من قسوته أعطانا أشياء كثيرة من بينها الحريّة، فضلّا عن الاطلاع على ثقافات شعوب وأمم أخرى وعادات وتقاليد ولغات وأجناس وأعراق ساهمت في رفد ثقافاتنا العربية - الإسلامية.
الكاتب العبد الفقير عاش في عدد من المنافي في ثلاث قارات: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وأقام في عشرات البلدان، وتنقّل بين عشرات البيوت والمنازل والشقق، وعانى واغتنى في الآن بالكثير مما شاهده واختلط به وترافق معه.
ربما لوعة الغياب والبعد عن الوطن والحنين إليه ظلّت تلازمه لدرجة أن الوطن عاش في قلبه، ولكن من بقي في الوطن، وإن لم يشعر بالغربة المكانية فقد عاش الاغتراب الحقيقي، وذلك ما عاناه الغالبية الساحقة من المثقفين الذين تعرّضوا للاستلاب والعسف والاستبداد والمحاربة بالرزق وشحّ حريّة التعبير والرقابة، فضلّا عن الحروب العبثية المستمرة، والحصار الدولي الجائر، والاحتلال البغيض، ثم الفوضى والمحاصصة والفساد والإرهاب بجميع أشكاله.
يمكن القول أن معاناة مثقفي الداخل كانت مركّبة ومزدوجة في الميادين الإبداعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية، وهي معاناة تفوق الوصف. إنها بشكل مكثّف معاناة الثقافة العراقية برمّتها، ورافدها الأساسي ثقافة الذين عاشوا وهم يرون الوطن يتآكل أمامهم ويتشظّى، ويحرمون هم وعوائلهم من أبسط حقوق العيش الكريم. وتلك المعاناة وإن تمايزت في فتراتها، لكنها طبعت ما يزيد عن خمسة عقود من الزمن.
وغالبّا ما نتساءل، أين المثقفون من الشأن العام؟
والسؤال ليس عراقيّا أو عربيّا فحسب، بل إنه سؤال كوني، حيث ترى النخب الثقافية والفكرية بعيدة عن الوظيفة العامة والسياسة بشكل خاص، ففي حين كان حضورهم فاعلًا ومؤثرًا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم، أخذ هذا الدور يتراجع منذ ستينيات القرن الماضي، حيث ترى الأحزاب تكاد تكون شبه خالية من المثقفين، وإن رأيت هؤلاء هناك فسيكون دورهم هامشيًا يزينون خطاب الأيديولوجيا، ويحرقون البخور ويجمّلون الرأي السياسي.
بكلام آخر هذه القلة من المثقفين لا تستطيع التعبير عن رأيها بحريّة بقدر تعبيرها عن رأي إدارات الأحزاب وتجاذبات السياسة الضيقة الحزبوية. وهكذا لأسباب موضوعية وذاتية، أصبحت الغالبية الساحقة من المثقفين خارج الساحة، ومن بقي فيها لا دور يُذكر له.
في خمسينيات القرن الماضي كان المثقف العراقي هو الأولوية عند الأحزاب، حيث انطلقت موجة ثقافية جديدة في جميع المجالات، في الشعر والرسم والنحت والموسيقى والغناء والمسرح والسينما والعمارة، وفي السياسة لعب المثقفون الدور الأبرز، وكان من كتب بيان جبهة الاتحاد الوطني (آذار/ مارس 1957) الطيب الذكر الدكتور إبراهيم كبّة وبموافقة الأحزاب الأربعة المؤسسة لتلك الجبهة العتيدة.
إن قوة المثقفين تكمن في أفكارهم وإبداعهم وقدرتهم على التجرد، والثقافة حسب الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون سلطة، وعلى المثقف ألّا يتخلى عن سلطته، والمقصود إبداعه، تحت أي مبرر أو مسوّغ.
ثقافة المثقف تعني إبداعه، وهذا الأخير يعني قيمه الجمالية، تلك التي لا تقبل منه أن يكون حاشية مثلما لا ينبغي أن يكون فوقيًا ومتعاليًا عن المساهمة في التعبير عن مشاكل مجتمعه وهموم بلده وتطلعات شعبه.
وإذا تمكن المثقف من تجسير الفجوة بينه وبين أصحاب القرار، ستعود الفائدة على الثقافة والتنمية ومستقبل البلاد ككل، لكن الأمر لا يعود إليه، بل إلى أصحاب القرار أولًا، حيث لابد أن تتولّد لديهم تلك القناعة لأعلاء شأن المثقف واحترام خصوصيته وفردانيته.
على المثقف أيضًا عدم الانتظار، بل ينبغي له أن يقوم بمبادرات وتواصل مع مجتمعه، ويتحوّل إلى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، فهو معني بقضايا الناس من أصغرها حتى أعقدها، فهل يستطيع مثقف حقيقي أن يرى مشاهد الدمار والقتل والإبادة اليومية في غزّة وأن يدفن رأسه في الرمال مثل النعامة؟
ذلك هو المثقف الكوني بمفهوم إدوارد سعيد، وهو الوجه الآخر للمثقف العضوي بمواصفات غرامشي، خصوصًا حين يتماهى مع مجتمعه.
لا بدّ من مساهمة فاعلة نقدية وإيجابية للمثقفين، كلّ من موقعه، لإعلاء قيم السلام والتسامح والمساواة والحق والعدل، تلك هي مواصفات التصالح مع النفس وجمال الروح، فمن امتلك سلطة الجمال تبقى روحه نظيفة.
***
عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي
...................
- نص الكلمة التي ألقاها د. شعبان في افتتاح مؤتمر المثقفين العراقيين الذي انعقد في بغداد في 8 - 11 تشرين الأول / أكتوبر 2025.