أقلام حرة

محسن الأكرمين: حين يحتضر الماضي ولا يولد الحاضر

مَنْ منَّا يوما أحسَّ أن أجزاء من متاريس حياته العتية قد انفض عقدها بالتراخي والتشتيت. من منّا يحس أن زمنه في الماضي والحاضر والمستقبل قد سرقت منه عنوة، وبلا امتيازات أخرى آتية من لوح المجهول. من منّا يوما ما أحس بالفراغ وعناد التجويف الداخلي، وبات ضغط النيران الخاملة بلا لهب تشتعل قوة وتحتل منه أقساطا وفيرة من الذاكرة المتفحمة بالسواد والتفتيت.

حين نُفكر بالتأني مليا، قد يصيبنا التأسي حين نُمْسي نسترق أداة سمع اصطناعية عن أحداث يومنا الذي مرَّ ولم يعد، ونؤمن بلازمة: (لا يمكن أن تسبح في النهر مرتين !!!)، فنتحسس استرجاعا لذواتنا الغافلة، وقد تاهت في لُجِّ بحر بلا مجاديف ولا ألواح توجيه.

 الكل منَّا لا يضع للحياة سيناريو سهل ومطواع الفهم والتمثيل والإخراج، وحين نلامس الحياة بالتجريب والمناولة والمقايسة، نتعلم منها الكثير وقد نفقد السيطرة من الاختناقات اللامنتهية التي تصيبنا بالنوبات، ونطالب بسرعة الإنعاش الأكسوجيني النظيف. عندها تُعلمنا الحياة أن من الانتكاسة التعديل والقيام، ومنها قد نبني أحلامنا المرهفة بالدقة والتخطيط، ولما لا القدرة على مواجهة متاعب أخرى آتية بالتوافد، وقد لا تنتهي إلا بالموت وقتل الألم عينه.

جل المهام التي خضعنا فيها للتجريب مثل رؤوس اليتامى، قد تنتهي بالفشل وعذاب ضمير متحرك لن ينتهي اليوم ولا غدا. ورغم ذاك فقد تكون الحياة وفيرة بالتجارب الايجابية والمريحة، والتي تسهل لنا العبور نحو مهام بديلة حتى هي قد لا تنتهي إلا بنوعية متاعب مستحدثة... وفي حقيقة يوم مجهول لا تنتهي ساعاته إلا بمأتم تشييع الحياة. قد أستعير قول: كِليني لِهمّ أيتها الحياة المضنية في صُلب المتاعب والتعذيب...كِليني ودعيني متعبا... يا أيتها الحياة الآتية من عواصف نار جهنم، واتركي لي ليلا بالعطف حتى وأنا أقاسي فيه ألما من غياب نجومه الوضاءة.

مرات عديدة يصبح الماضي يحتضر ولا يأتيه الموت أبدا !!! وبعدها طواعية حين نلامس قبس نور فجر جديد نجد أن حاضرنا لن يولد في ذاك اليوم الذي لا يحصيه لا الزمان ولا المكان، غير تسميات التوليفة التي ألفنا في تعداد الزمن والمكان (الاثنين...) لتدقيق أين نحن؟ وما هي الساعات التي نعيش دقاتها المتسارعة؟

من المؤسف المضني أن يموت الزمن الماضي من ذاكرتنا، ومن تأريخ بيانات حياتنا المسكوت عنها مثل تاريخ الفقراء والصعاليك القدامى والجدد... لكن، الخوف المفزع له مبرراته العقلانية لا الحسية، خوفنا أن ينتفض الماضي من قبوره بحرب النهاية على الحاضر، ويعمل على قتل الحاضر حتى تحكمنا جميعا صورة الماضي، وبلا مناوشات آتية من المستقبل...

مرات عديدة، نبتعد عن الناس كرها، وعن ذواتنا اليائسة كرها، وقد يعيينا البكاء والتأسي عن تلك الذكريات مهما صغرت، ومهما استطال تاريخها بالتدقيق المريح. ذكريات تأتينا فجأة فتأبى الإقامة في مساحات شقة ذاكرتنا الضيقة والمغلقة بأقفال صندوق (دفنا الماضي)... حينها يضيع التعبير الكاشف عن الحقيقة،  ولن نقدر على ممارسة الكلام الفصيح ولا البليغ منه، ونبقى نحمل نذوب الآهات المتكاسلة، وقد نجد أن كل تاريخ الحياة يحتضر بالأعراض المرضية العضوية، والإسهال النفسي، والمستقبل يُبني عند شرفات عالية لا ندري منها ما يخفيه هذا المستقبل المستقيل...

هي الحياة التي توازي حفرة سحيقة الأبعاد وبلا عودة لدنيا مظاليم الحاضر... فحين لا نقدر على ضمان ولادة سلسة للحاضر، وبلا انتكاسات مضنية... فليكن علمنا الأكيد أن الحياة لغو ولعب وزينة... فمن منَّا لا يشفق على حياته؟ !!! ويطالب بنتيجة التعادل، وسلامة الروح والجسد من علامات مواجهة ومحاصرة الحاضر والمستقبل.

***

محسن الأكرمين

في المثقف اليوم