أقلام حرة
غريب دوحي: القرابين.. ضحايا الأرض لآلهة السماء

يقول علماء النفس ان في الانسان غرائز خفية مكبوتة تجعله يشعر بالقلق الدائم وهذا السبب جعل الانسان البدائي يقدم القرابين البشرية للألهة والاصنام تقربا اليها لذلك اخذ (القربان) هذا الاسم لأنه يعني التقرب من الاله.
نشوء فكرة القربان
نشأت فكرة تقديم القرابين من اعتقاد الانسان الأول ان الكون تحكمه مجموعة قوى غير منظورة تمثل ظواهر الطبيعة سماها (الالهة) واطلق عليها تسمية (مجمع الالهة) وان مقرها في السماء وهي برئاسة الاله (آنو) كبير الالهة الذي تقول عنه الاساطير انه خلق السماء والأرض والانسان، لقد اثارت اعمال الانسان وكثرة ذنوبه غضب هذه الالهة فاتخذت قرارا بمعاقبته بالكوارث والامراض والحروب وقد ادرك الانسان سر هذه العقوبات فلجأ الى تقديم القرابين للآلهة بهدف الاسترضاء وطلب المغفرة والرحمة.
المسلسل التاريخي لتقديم القرابين
في بلاد الرافدين كان القربان أولا من البشر وبالتدريج تحول نحو الحيوان ليقدمه مذبوحا محروقا فداء لنفسه ويقول (فرويد) ان السومري بدا بأبنائه ثم احل محلهم الحيوان لأنه اكتشف ان الالهة سترضى بشخص واحد وهكذا حلت الفدية الحيوانية محل الفدية البشرية داخل المعبد وبأشراف مباشر من (الكاهن الأعظم) وصغار الكهنة الذين يشرفون على تقديم القرابين حيث ان كل مدينة تحتوي على معبد وكل معبد تكون فيه (دكة) هي عبارة عن مذبح لنحر القرابين من الابقار والمواشي التي تقدم الى المعبد كهدية للاله الذي يتوسط تمثاله الحجري في باحة المعبد .
وفي بابل كان يجري احتفال كبير في عيد رأس السنة البابلية (الاكيتو) يحضره الملك والكاهن الأعظم والكاهنة العظمى وقادة الجيش حيث تنحر القرابين في المعبد وتقام وليمة كبرى تسمى (المائدة القربانية) ويقدم فيها الطعام المكون من اللحم المشوي والخبز والعسل واللبن والبيرة، وبعد ان يتناول الجميع الطعام يرسل الذي يفضل منه الى الفقراء الجالسين في باب المعبد الذين ينتظرون ماتجود به ايدي الكهنة.
وفي مصر الفرعونية تجري نفس المراسيم داخل المعابد فتذبح القرابين وتقام الولائم بأشراف الكهنة كمعبد الكرنك ثم تقرأ التراتيل الدينية والادعية الخاصة بالاله (آمون) والاله (رع) وبعد ذلك يجري احتفال يتخلله الرقص على انغام الموسيقى. وفي مصر طقس اخر لا يوجد في العراق حيث يعتقد المصريون ان نهر النيل هو (اله) وعندما تقل مياهه يتصور المصريين انه غضب عليهم لذلك يجري اختيار فتاة جميلة من المدينة وتلقى في النهر كقربان له ليتم استرضاءه وسمي هذا الطقس ب(عروس النيل) ويعاد في كل عام.
ويأخذ الامر طابعا اخر في بلاد اليونان حيث يؤخذ (العبيد) أي اسرى الحروب الى المعبد وينحرون في مذبحه جماعات جماعات ويقدمون قربانا للاله (زيوس) كبير الالهة في اليونان ويسمى (اله السماء).
وفي روما جرت العادة ان يقدم الاب فلذة كبده (ابنه الأكبر) الى كبير الهة الرومان (جوبيتر) اله السماء قربانا مقابل رضى هذا الاله عنه أولا وثانيا ان يرشحه الى دخول (الفردوس) وهي كلمة رومانية تعني (الجنة)التي يقول عنها الرومان بانها بستان كبير فيها ما لذ وطاب من الطعام والشراب والنساء...والامر يكون هكذا في الهند والصين وفارس.
القربان في بلاد العرب
عرف العرب تقديم القرابين فقد ذكرت المصادر التاريخية ان (المنذر)ملك الحيرة في العراق اقدم عام 529م على ذبح (400) راهبة قربانا للنجم (فينوس) مما اثار الرعب في الدول المسيحية.
وقصة عبد المطلب ونذره معروفة وهي انه نذر اذا بلغ عدد أولاده الذكور عشرة ان ينحر احدهم قربانا لرب الكعبة وقد اقتبست القصة من كتاب (بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب) لمؤلفه (محمود شكري الآلوسي) اقتبستها مع الاختصار والتصرف يقول الآلوسي (.. انه لما استكمل أولاده العدد دعا الذي يعمل (القداح)أي ما نسميه اليوم (القرعة) فوقعت القرعة على (عبد الله) وهم ان يذبحه ولكن أبو طالب امسك يده ومنعه من ذبحه ثم اقترحت بني مخزوم الاحتكام الى كاهنة بني سعد التي اقترحت بدورها ان يحصر القداح بين عبد الله وعشرة من الابل وبعد 10 محاولات وقع القداح على الابل فاصبح عدد الابل التي يجب ان تقدم قرباناً مائة فتم التضحية بها بدلا من عبد الله ) ولذلك نسب الى النبي محمد قوله (انا ابن الذبيحين) أي النبي إسماعيل ووالده عبد الله .
ولايزال تقديم القرابين مستمرا في موسم الحج الى مكة حيث تنحر الملايين من الضحايا التي تسمى (الهدي) قرابينا لآله الكعبة، وفي البلدان الإسلامية تقدم القرابين الي العتبات الدينية والاضرحة والمقابر...
وهكذا ذهبت الملايين من القرابين الحيوانية والالاف من القرابين البشرية ضحايا لتلك الالهة القابعة في السماء والمتحصنة خلف اسوار الغيب.
***
غريب دوحي ناصر