أقلام حرة

عبد السلام فاروق: في ظلال الأهرام.. محنة المرايا المكسورة!

ما أقسى أن تحاصرك المرايا من كل جانب! مرآة تريك عظمة شاخصة تحدق في الزمن.. وأخرى تحولك إلى ظل يتلمس وجوده بين طيات البردي.. وبينهما تقف مصر الحائرة بين يقين الحجر، ووساوس الطين!

لقد صار "العبيد والفضائيون" صنعة فكرية رائجة في سوق التشكيك الحضاري. تغلف بالسينما، وتقدم في بودكاستات، كأنما التاريخ سيناريو يعاد كتابته بممحاة المنتصر.

تسألني: لماذا كل هذا الهوس بنفي العظمة المصرية؟ فأجيبك: لأن الأهرامات شاهد قتل على زيف أسطورة التفوق العرقي! بينما كان "بناة الأهرام" يوقعون أسماءهم على الجرانيت كـ "عمال أحرار" يأخذون الأجر والراحة.. كان العالم القديم يلهث وراءهم. ففي قرية "عمال الجيزة" وجدت عظام تثبت أنهم تلقوا علاجًا متقدمًا للكسور، بينما كان "مفكرو العبودية" اللاحقون يصلبون البشر على تلال آشور!

 لكن اللعبة الخفية.. هي تحويل المجد المصري إلى ساحة صراع هويات: مثل "الأفروسينتريك" الذين يريدون سرقة الضوء . وآخرون يبحثون عن فضائيين لأن عقولهم الصغيرة لا تحتمل حقيقة أن "الفلاح المصري" صانع المعجزات! وسط هذا الزحام المفتعل.. ننسى جوهر أن الحضارة وطن لا يورث بالدم، بل بالإرادة!

أما قصة زاهي حواس.. فهي فصل واحد من تراجيديا أكبر، فهو رجل واحد يدافع عن حجر شهد على حرية أجداده.. فيحاكم لأنه لم يقل: "بناة الأهرام عبيد!" وكأنما كلمة "حرية" في تاريخنا أصبح جريمة! والأمر الأعجب أن بعض بني جلدته انبروا يشهرون "سكاكين التشفي" كأن الهوية المصرية غنيمة يقتسمها المتحاربون!

في العمق.. نحن أمام محنتين: الأولى: أن أعداء الخارج يريدون هدم الأهرام معنوياً ليهزموا مصر الحاضرة. والثانية أن بعض أبناء الداخل صاروا "مقاولي هدم" مجاناً!

وليس غريباً أن تثير عظمة الأهرامات خيال البشر، لكن الغريب حقاً هو ذلك الإصرار على نزع الصفة الإنسانية عنها. فهل يعقل أن نصدق أن كائنات قادرة على عبور المجرات، جاءت إلى الأرض لتبني بالطرق البدائية نفسها التي كان يستخدمها المصريون؟

لنتأمل معاً تلك المطارق الحجرية التي عثر عليها في محاجر طرة، والتي لا تختلف كثيراً عن أدوات العصر الحجري. مقابر العمال في الجيزة، بما تحويه من بقايا بشرية تحمل علامات الإجهاد البدني، شاهدة على جهد بشري خالص. بردية مرمر التي تسجل بالتفصيل عملية نقل الحجارة، بتواضع السجلات الإدارية لا بزهو التقنيات الخارقة. أليست هذه الشواهد كافية لندرك أننا أمام إنجاز بشري بحت؟

الحضارة المصرية.. جسر بين القارات

أما أولئك الذين يحاولون اختطاف الحضارة المصرية ليجعلوها حكراً على إقليم أو عرق معين، فهم يغفلون حقيقة أساسية: لقد كانت مصر -وستبقى- ملتقى الحضارات. فالنقوش والتماثيل التي تركها المصريون لأنفسهم تظهرهم بملامح واضحة، لا هي أفريقية سوداء خالصة ولا آسيوية صرفة. كما أن الدراسات الحديثة تؤكد أن المصريين القدماء كانوا أقرب إلى شعوب الشرق الأدنى، مع ذلك التمازج الطبيعي الذي فرضه الموقع الجغرافي الفريد.

 شهادات من الماضي

لنستمع إلى ما يقوله لنا التاريخ بعيداً عن الضجيج: فهذه بردية تورين التي تسجل أسماء مائتي ملك قبل عصر الأسرات، تثبت أن المصريين كانوا يسجلون تاريخهم بدقة. وتلك هي مراكب الشمس المجمعة ببراعة من الأخشاب، تظهر مهارة صناعها في التعامل مع المواد المتاحة لهم. بينما المنحدرات الطينية في مدينة المنيا، التي تكشف عن هندسة عملية لا تحتاج إلى تفسيرات خارقة.

 دعوة للتأمل

ليس الهدف من هذا الحديث إنكار الإبداع الأفريقي أو التقليل من شأنه، ولا رفض حق الإنسان في التخيل العلمي. لكن الحضارة المصرية أكبر من أن تكون مجرد حلقة في صراع عرقي، أو مادة لقصص الخيال العلمي.

إنها إرث إنساني بكل ما تحمله الكلمة من معنى، صنعته أيادي بشرية عاشت على ضفاف هذا النيل العظيم، ورسمت بحبر الواقع لا بخرافة الأساطير. فبدلاً من محاولة اختطاف هذا المجد أو تفسيره تفسيرات واهية، أليس من الأجدى أن نقف أمامه باحترام، نتعلم من دروسه، ونستلهم قيمته الإنسانية الخالدة؟

لكن.. ما الجديد؟

ها هو عالم المصريات الأشهر ( زاهي حواس نفسه!) يجرؤ على قول كلمة الحق: "الأهرامات مصرية.. بناها أحرار".. فيحاصر بفخ "يوتيوبر" مدجج بجهل لامع.. وكأنه محاكمة لـ "جريرة" دفاعه عن هوية بلده!

وهنا المفارقة العجيبة: حتى خصومه المصريين.. انقضوا عليه كأنما انتظروا هذه الفرصة بفارغ الصبر! وكأن الهوية المصرية "كعكة" يقتسم لحمها عند أول سقطة!

يا أبناء مصر: إذا كنتم ستشهرون سكاكينكم في ظهر رجل – مهما اختلفتم معه – لأنه تجرأ وقال: إن الحضارة حضارتنا نحن .. فاعلموا أنكم تبيعون أرواحكم بثمن بخس في سوق "التفتيش عن العبيد"!

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم