أقلام حرة

حميد علي القحطاني: مكتوب.. ولكن! كيف نعيد كتابة المصير بالوعي والأمل؟

في طريقٍ ممتد بين ملبورن وسيدني، وفي لحظةٍ من صمت السفر المليء بالتأمل، استوقفتنا تلة ترفل بالخضرة، متناثرة الأشجار، كأنها لوحة زاهية سكبتها يد فنان لا مرئي. تطلع إليها صديقي بدهشة قائلاً:” لا بد أن مزارعًا ماهرًا هندس هذا الجمال بعناية. “ لكنّ ما أحاط بها من عشوائية أنيقة، وهمسات الطبيعة الخفية، كان يوحي بأن ما نراه ليس إلا نسيجًا من الصدفة، نسجته الرياح والمطر والزمن، بعيدًا عن يد بشرية موجهة.

من تلك اللحظة، انبثق سؤال ظل يلازمني: هل نشكّل نحن مسارات حياتنا بإرادة حرة، أم أننا محض انعكاس لما يُحيط بنا من ظروف، وما يتخللنا من رواسب بيئية وتاريخية؟

انفتح النقاش بيني وبين صاحبي، فجادلت بأن معظم قراراتنا ليست قراراتنا في الحقيقة، بل هي تفاعلات تلقائية مع السياق، خُدع نسير في دهاليزها، نعتقد أنها اختيارات، وهي ليست إلا استجابات. وفي النهاية، حين نعود بذاكرتنا إلى ما ظننّاه خيارًا، نجد أنه شبيه بمنتج خرج من مصنع... له شكلٌ محكم، لكن ملامح التصميم جاءت من خارجه، لا من ذاته.

تذكرت في تلك اللحظة مسار حياة شقيقي أحمد، في العراق خلال ثمانينات القرن الماضي. لقد كان سليل مرحلة مضطربة، سكنت فيها السياسة في تفاصيل المعيشة، وتسللت إلى الذاكرة والعاطفة. عواصف تلك المرحلة حملته صغيرًا إلى حيث لم يخطط. مضى كما يمضي زورق في نهر مضطرب، يحاول بين الفينة والأخرى أن يُعدّل اتجاهه، لكن التيار كان دائمًا أقوى من المجداف.

البيئة تُنقش فينا قبل أن نملك قلماً نخطّ به مصيرنا

قبل أن يبلغ العاشرة، كانت روح أحمد تتشكل مثل الطين بين أيدي من حوله. في بيت الأسرة، غُرست فيه القيم الأولى. وفي المدرسة، تلقى بذور المعرفة. لكن التأثير الأعمق تسلل من مكان آخر... من عمه الذي خاض غمار السياسة في وجه نظام البعث، ومن صحبته إلى النجف وكربلاء وبغداد وسامراء، ومن حديث المناهضين للاستبداد والطغيان الحاكم انذاك وهم يهمسون عن الحرية والمساواة والعدالة.

في تلك الرحلات، التقى أحمد مثله الأعلى. لم يختره، بل اختير له. لم يكن يملك نضجًا يدرك به أبعاد ما يسمع، لكن الكلمات كانت كالنقش في حجر طري، تترك أثرًا لا يُمحى. تشكلت رؤيته للعالم، للخير والشر، للعدو والصديق، ولم يكن قد أكمل عقده الأول.

وهكذا، دون إرادة واعية، تسرّب القدر إلى داخله.

بدء في الثالثة عشرة، حُكم على أحمد بالسجن أكثر من أحد عشر عامًا، لا لأنه اختار مصيره، بل لأن المثل الأعلى الذي تشرّبه صبيًا ساقه إلى حيث لا رجعة. كانت قراراته انعكاسًا لقرارات اتُّخذت حوله، لا فيه. وهل يُطالب طفل لم يبلغ الرشد أن يتحمّل وزر اختيارات لم يخترها؟

في ذلك الزمن، لم تكن الأسرة مجرّد أم وأب، بل امتدت لتصبح قبيلة من القيم والرؤى، تصنع الطفل كما يُنحت تمثال من كتلة صخر. الكلمات التي سمعها، الوجوه التي رآها، الأحاديث التي دارت من حوله، كلها شاركت في تشكيل ملامحه النفسية والفكرية، دون أن يسأل: هل هذا أنا؟ أم هذا ما يريدونه لي أن أكون؟

وما بين الاختيار والتسيير، نُساق نحن بأحلامٍ ليست من صنعنا.

من هنا ينبثق السؤال المحوري: إلى أي مدى نملك حرية الإرادة، حقًا؟ حين ننظر في أعماقنا، نجد أن كثيرًا مما نظنه نحن هو في الواقع طبقات من مؤثرات سابقة: أسرة، ثقافة، تجربة، تعليم، ألم، وفرح... تتراكم فينا قبل أن نعي أنفسنا. وحين تبدأ إرادتنا بالتشكل، تكون تلك المؤثرات قد وضعت معالم الطريق.

لكن لا شك أن الوعي، حين ينضج، يمنحنا فرصة لإعادة النظر، لتفكيك ما غُرس فينا، وربما، لصنع مسارات مختلفة. ومع ذلك، تبقى البذرة الأولى، تظل حاضرة كظل طويل، لا نراه دائمًا، لكنه يسير معنا حيث نمضي.

إن قصة أحمد ليست استثناء، بل مرآة لأسئلة أكبر.هي تذكير بأن الإنسان كائن هشّ في مراحله الأولى، تكتبه البيئة كما تكتب الطبيعة خطوط التلال. وفي فهم هذا التداخل العميق بين الإرادة والظرف، تكمن بدايات الحكمة. فربما، حين نفهم هذه الجدلية، نستطيع أن نهيئ بيئات أكثر رحمة، أكثر مساواة وحرية، أكثر إنصافًا... لمن سيأتون بعدنا.

***

حميد علي القحطاني

في المثقف اليوم