أقلام حرة
محمد سعد: تلبانة.. حين كانت الجلسات تصنع الوعي وتؤسس الوجاهة...!

لا أحب مجالسة الأشخاص الذين يضعونني في حالة دفاع دائم. أولئك الذين يجعلونني مضطرًا إلى تبرير أفكاري ومقاصدي، والوقوف حارسًا على أبواب نفسي، كأنني في محكمة دائمة. أهرب منهم كلما تحولت الأحاديث إلى محاكمة للذوق أو النوايا أو حتى الأحلام.
لكنني، كلما مرت بي لحظة راهنة، تذكرت الماضي بكل تفاصيله. تذكرت قرية تلبانة حين كانت الحكايات تُروى في العصاري، لا على وسائل التواصل. كانت طفولتنا تتفتح في حضرة الكبار، في تلك الجلسات العتيقة التي سبقت صعود "النواطير" المتصدرين للمشهد في أيامنا هذه. جلسات كانت تُدار في جرن العمدة، الحاج أحمد عبد المنعم خفاجي، الذي كان يُشعل سيجارته ويضبط الإيقاع بابتسامة عريضة، وكأننا في مشهد من روايات نجيب محفوظ، ننتقل بين القاع والحرافيش و"صرصرة على النيل"، لكن على طُرُح الكنب وقش الأرز وسلالم البيت، حيث يتجاور وجهاء القرية وأبناؤها من مختلف الأطياف.
كان مجلس العمدة بمثابة برلمان شعبي، تُعرض فيه الخلافات وتُحل النزاعات، تُوزّع فيه الصحف، وتُناقش فيه مقالات الرأي كما لو كنا في ندوة فكرية. كنت حينها طالبًا في الجامعة، أتناول جريدة "الأهرام" وأتبادلها مع المرحوم الحاج /محمد السعيد علي، أحد الرعيل الأول لجماعة الإخوان، وأحد الذين صدرت ضدهم أحكام في قضايا عام 1965. يطلب مني بصوت خافت قراءة مقال فهمي هويدي، فيبتسم العمدة ويوصي بقراءة أحمد عبد المعطي حجازي، وسيد أحمد، وأمين العالم... دون أي دراسة أكاديمية، عرفوا طريق الفكر بالفطرة، بالموهبة، وبالقراءة.
تلك كانت جلسات العصر، أما بعد صلاة العشاء، فكان المكان ينتقل إلى منزل الشيخ صالح قورة، صاحب الكاريزما والوجاهة، الفلاح الفصيح. هناك، في المندرة والبرندة، كانت تُصاغ التحولات الكبرى في القرية؛ من بناء مجمع المعاهد الأزهرية، إلى الإعداد لاستحقاقات المجالس المحلية والشعب والشورى.
كان ذلك زمنًا يشبه زمن الرُشد، حيث يحضر العزم مع وضوح الرؤية، لا عبث المرشحين العشوائيين في أيامنا. ولعل أكثر الجلسات التي سكنت الذاكرة، تلك التي جمعت المرحومين: الأستاذ محمد عقل، أحد رموز التيار الناصري وعضو مجلس الشعب السابق، واللواء حسن خالد حماد، صاحب التاريخ العسكري والصداقة المتينة مع عقل، رغم اختلاف المواقع والانتماءات.
في تلك الجلسة، التي تزامنت مع انتخابات الثمانينيات بنظام القائمة النسبية، والمرشح في قائمة تحالف حزب العمل مع جماعة الأخوان/المهندس المرحوم خالد حماد ... دار النقاش حول موقع المهندس خالد حماد في القائمة. اعترض البعض على أن رقمه في القائمة (الرابع) ضعيف، بينما وقف الأستاذ/ محمد عقل ليشرح المعادلة ببساطة العالم: بأن النظام يتطلب تمثيل 50% عمال وفلاحين، وأن الرقمين الثاني والرابع في القائمة أكثر حظًا من الأول والثالث، نظرًا للتركيبة الداخلية لقائمة الحزب الوطني، حيث تُمنح الأفضلية أحيانًا للعناصر المحسوبة على الفئات على حساب تمثيل العمال والفلاحين.
خرجنا من تلك الليلة – نحن الصغار والكبار – نُعجب بذلك الحضور العقلي والسياسي، وبمشهد يحتشد فيه الناس في شارع الشيخ صالح من أنصار الجبهتين، دون أن يتحول الخلاف إلى عداوة.
بل إن المحبة بقيت حتى آخر الأيام، حين زار اللواء حسن خالد صديقه محمد عقل في مرضه الأخير، برفقة المرحوم عادل فتوح. كانت زيارة مليئة بالعِتاب النبيل، لأنه لم يكن يعلم أن عقل قد عاد إلى البلد، بعد أن ظل يتصل على هاتف الشقة في القاهرة. كان عتابًا يحمل نُبل الأيام الماضية، وتأكيدًا على أن الخلافات لم تكن يومًا خصومات.
تلك الوقائع نحتاجها اليوم، في زمن اختلطت فيه السياسة بالهزل، وتحوّل كل شارع إلى مسرح للمرشحين، إلا شارعنا، الذي ينتظر الهبوط الاضطراري لمرشح قادم بـ"باراشوت" فوق سطح مسجد الخفاجية وحارة الطبالة، لتصدح الفرقة الموسيقية بنشيد "يا أهلاً بالمعارك".
أي زمن هذا الذي نعيشه...؟
وأي زمن ذاك الذي كان...؟
فرقٌ شاسع بين جلسة تصنع الوعي، وجلسة تصطنع الوجاهة؛ بين رجال كانت لهم مواقف، وآخرين لا يملكون سوى اللهاث وراء موقع، دون فهم للموضع. وهذه هي خلاصة النظرية التي وضعها أستاذي الشهيد/ جمال حمدان في موسوعته العبقرية عن "الشخصية المصرية"، حين ميّز بين من يعرف "موضعه" في التاريخ والجغرافيا، ومن يسعى فقط إلى "موقع" في الصورة....!!
***
محمد سعد عبد اللطيف – كاتب وباحث مصري