أقلام حرة

سجاد مصطفى حمود: سقوط الهيبة العلمية.. خيانة النخبة وصمت الوعي الجمعي

لطالما كان التعليم حجر الزاوية في بناء الحضارات، والعلم بوابة الأمم إلى النهضة الفكرية والاجتماعية. غير أن هذه المكانة السامية التي حظي بها المعلم على مر العصور باتت اليوم موضع تآكلٍ وتراجع، ليس بفعل عوامل طبيعية، بل نتيجة انهيار منظومة القيم التي كانت تكرّس له الاحترام والتقدير. إنّ ظاهرة الاستخفاف بالمعلّم، وانحسار سلطة المعرفة أمام تمدد الفوضى، لا تمثل إشكالًا معزولًا، بل هي انعكاسٌ لأزمةٍ فكريةٍ أعمق تتجلى في صمت النخب الفكرية، وتخاذل المثقف، وتراجع دور الوعي الجمعي في صون المرجعيات العلمية والتربوية.
النكوص المعرفي المثقف بين التخاذل والانفصال عن الواقع
لطالما قدم المثقف نفسه باعتباره ضمير الأمة، وحارس الوعي، وحامل لواء التنوير في مواجهة الرداءة والجهل. ومع ذلك، نجد أن هذه الفئة، التي كان يُفترض أن تكون في طليعة الدفاع عن مكانة المعلّم، باتت في كثيرٍ من الأحيان منشغلةً بالتصورات النظرية، منعزلةً عن القضايا الحقيقية التي تمس جوهر العملية التربوية. فكيف يمكن تفسير هذا الانفصال الصارخ بين المنظّر والواقع؟ ولماذا يغيب صوت المثقف حين يتعرض أحد أعمدة الحضارة – المعلم – للإهانة والتقويض؟
إنّ السلوكيات الفوضوية التي تتجلى في بيئة الصفوف الدراسية ليست مجرد تصرفات فردية معزولة، بل هي انعكاسٌ لانحدارٍ أخلاقي وقيمي أوسع، يشترك في ترسيخه أولئك الذين يرون الجهل يتسلل إلى المؤسسات التعليمية دون أن يحركوا ساكنًا. فالمعلم الذي كان يُنظر إليه بوصفه رمزًا للهيبة بات اليوم هدفًا للسخرية، ولم يعد يمتلك سوى رفع صوته ليحظى بالإنصات، في مشهدٍ يعكس عمق الأزمة التي تعانيها المنظومة التعليمية والثقافية.
التاريخ لا يسجّل الصمت، لكنه يدينه
لطالما وثّقت كتب التاريخ سقوط الحضارات، محللةً أسباب الانهيار ومتتبعةً المسارات التي أفضت إلى ذلك. لكنّ ما لا يسجله التاريخ بالقدر ذاته هو الصمت الذي سبق هذا السقوط، والتخاذل الذي مهّد له. إنّ انهيار المؤسسات التربوية ليس مجرد نتيجة لتغيرات اجتماعية عابرة، بل هو عرضٌ من أعراض أزمةٍ فكريةٍ أعمق، قوامها تراجع دور المثقف في توجيه الرأي العام، وعزوف القارئ عن تحمّل مسؤوليته في الدفاع عن قِيَم المعرفة، وتحوّل المؤرخ إلى راصدٍ للانحطاط بدلًا من أن يكون صوتًا يُحذّر منه قبل وقوعه.
الحياد الأكاديمي بين الموضوعية والتواطؤ غير المباشر
إنّ الصمت الذي يحيط بهذه الأزمة لا يمكن اعتباره مجرد موقفٍ حيادي، بل هو في جوهره تواطؤٌ غير مباشر مع التدهور القيمي والمعرفي. فحين تتعرض أسس العملية التعليمية للاهتزاز، لا يكون الحياد الأكاديمي خيارًا مشروعًا، بل يصبح إشكاليةً في حد ذاته. فالمؤسسات العلمية والفكرية مطالَبةٌ اليوم ليس فقط بتوصيف هذه الظواهر، بل باتخاذ مواقف حاسمة إزاءها، والعمل على استعادة الدور الريادي للمعرفة في تشكيل وعي الأفراد والجماعات.
إنّ التحدي الحقيقي الذي يواجهنا لا يكمن فقط في كيفية النهوض بالمنظومة التعليمية، بل في منع انهيارها منذ البداية. فحين يفقد المجتمع احترامه لمعلميه، وحين يتراجع المثقف عن دوره في توجيه الفكر العام، وحين يتحوّل التاريخ إلى مجرد سجلٍ للخسائر دون أن يكون جرس إنذار، فإنّ السؤال الذي ينبغي طرحه ليس متى سقطت الأمم، بل لماذا سمح أبناؤها بسقوطها دون مقاومة؟
***
الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

في المثقف اليوم