أقلام حرة

علي الطائي: الكساحُ العقليّ..!!

العراقُ، البلدُ الذي يطفو على بحرٍ من الحضاراتِ والمعرفةِ، يحتلُّ اليومَ موقعًا متقدمًا عالميًا في عددِ منابرِ الوعظِ الدينيِّ. ومع ذلك، يواجهُ العراقيُّ أسئلةً مصيريةً حول واقعِهِ وتقدمِهِ، بل ويعاني من حالةٍ فكريةٍ قد توصفُ بالركودِ أو حتى "الكساحِ العقليِّ". فهل يمكنُ أن يكونَ هذا الكمُّ الهائلُ من الخطابِ الوعظيِّ قد تحوَّلَ من عنصرِ نهضةٍ إلى عاملِ شللٍ فكريٍّ؟

التناقض بين الوعظ والواقع

يفترضُ أن تكونَ كثرةُ المنابرِ الدينيةِ دليلًا على زيادةِ الوعيِ الأخلاقيِّ والاجتماعيِّ، ولكنَّ الواقعَ يشيرُ إلى عكسِ ذلك. فالعراقُ يعاني من أزماتٍ سياسيةٍ، فسادٍ متفشٍ، انهيارٍ في البنيةِ التحتيةِ، وضعفٍ في التعليمِ، فضلًا عن فقدانِ بوصلةِ التفكيرِ النقديِّ. وهنا يكمنُ السؤالُ الجوهريُّ: إذا كان هناك هذا الكمُّ الهائلُ من الوعظِ، فلماذا لم ينعكسْ إيجابًا على الواقعِ العراقيِّ؟

 الكساحُ العقليُّ: ظاهرةٌ أم صناعةٌ؟

الكساحُ، طبيًّا، هو مرضٌ ناتجٌ عن نقصِ فيتاميناتٍ ضروريةٍ لنموِّ العظامِ. وبالمقابلِ، فإنَّ الكساحَ العقليَّ هو نقصٌ في "الفيتاميناتِ الفكريةِ" التي تغذِّي العقلَ: التساؤلِ، النقدِ، البحثِ، والتجديدِ. في العراقِ، يواجهُ الفردُ طوفانًا من الخطابِ الوعظيِّ الذي لا يركزُ على التنميةِ البشريةِ بقدْرِ ما يرسِّخُ مفاهيمَ الطاعةِ المطلقةِ، الخضوعِ، وتقبُّلِ الواقعِ كما هو، مما يخلقُ عقليةً تستهلكُ الأفكارَ بدلَ أن تنتجَها.

هذا النمطُ من التفكيرِ لم يأتِ صدفةً، بل هو نتاجُ عواملَ متراكمةٍ:

التعليمُ التلقينيُّ الذي يقتلُ روحَ التساؤلِ.

الخطابُ الدينيُّ الموجَّهُ الذي يركزُ على الشعائرِ دونَ القيمِ الفكريةِ العميقةِ.

السياسةُ الطائفيةُ التي تستثمرُ في تغييبِ الوعيِ.

الإعلامُ المنحازُ الذي يكرِّسُ ثقافةَ التبعيةِ بدلَ الاستقلالِ الفكريِّ.

هل من مخرجٍ؟

العقلُ العراقيُّ ليسَ عاجزًا بطبيعتِهِ، لكنه يعاني من بيئةٍ فكريةٍ غيرِ صحيةٍ. وكما يحتاجُ الجسدُ المصابُ بالكساحِ إلى علاجٍ، فإنَّ علاجَ العقلِ يبدأ بإعادةِ الاعتبارِ للمعرفةِ النقديةِ، وإحياءِ الثقافةِ القائمةِ على التساؤلِ بدلاً من التلقينِ، وتحويلِ المنابرِ من أدواتِ وعظٍ إلى مناراتِ تفكيرٍ حرٍّ.

ربما يكونُ العراقُ الأغنى بمنابرِهِ، لكنه يحتاجُ إلى منبرٍ واحدٍ فقط، يقولُ للعراقيِّ: فكِّرْ، لا تتبعْ، بل ابحثْ، لا تردِّدْ، بل ناقشْ. حينها فقط، سينتعشُ العقلُ العراقيُّ، ويفردُ جناحيهِ من جديدٍ.

***

بقلم: د. علي الطائي

22-2-2025

في المثقف اليوم