أقلام حرة
عبد السلام فاروق: سوط من السماء
طالعتُ أوراق نتيجة عام 2025 فرأيت التوافق بين أيام الشهر الميلادي والهجري. ثم وقعت عيناي على مشاهد الحرائق في لوس انجلوس فتعجبت!
منذ يومين كنت أسمع تهديدات ترامب التي توعَّد فيها غزة، فيمن توعدهم، بمصير مؤلم إذا لم يتم الإفراج عن الأسري، رغم أن الوحيد الذي يؤخر صفقة التبادل هو نتنياهو!
هوليود كانت شعلة نشاط مليئة بمشاريع الأفلام والمسلسلات الجديدة فصارت في غمضة عين شعلة من اللهب! فكيف حدث هذا؟ وما الذي تغير في الولايات المتحدة الأمريكية بعد هذه الكارثة المهولة؟
جحيم لوس أنجلوس
طاف طائف في ذهني عندما وجدت التوافق بين أيام العام القمري والشمسي أن عام 2025 هو عام الترتيب، أي الانتظام والاصطفاف ووضع النقاط فوق الحروف التائهة! وهو انتظام لا دخل للإنسان فيه. بل هو ترتيب قادم من أعلي..
لا يمكن لترامب أو بايدن أو غيرهما من حكام الولايات المتحدة الأمريكية الظن بأن الكون بلا رب. لابد من آية تحدث فيتذكرا أنهما مجرد ذرات رمل في كون متسع هو مِلكٌ لله القاهر الجبار.
تكررَت الكوارث في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الأعوام الخمسة السابقة من حرائق وأوبئة وعواصف وأعاصير وزلازل فلم تتعظ. بل كانت في كل مرة تخرج علينا تصرخ بأنها قادرة على التحدي. وأي تحدي؟ إذا كانت مجرد نفخة ريح ممزوجة بجذوة لهب أبادت مدينة كاملة مثل لوس أنجلوس في غضون ساعات قليلة!
والذي حدث في ولاية كاليفورنيا وفي القلب منها لوس أنجلوس شيء مهول رهيب يفوق الوصف. بدأ الأمر ليلة الثلاثاء الماضي؛ عندما احترق أكثر من خمسة آلاف مبني في باسيفيك باليساديس كنتيجة لامتداد ألسنة حرائق الغابات المتاخمة للمنطقة، والتي أهاجتها رياح "سانتا آنا" العاتية، تلك الرياح الدفيئة الجافة القادمة بسرعة بلغت 150 كيلومتراً في الساعة، أسرع من سيارة سباق تنهب الطريق نهباً! رياح محملة باللهب وأمامها أشجار يابسة؛ فسرعان ما امتدت ألسنة النار بسرعة فاقت قدرة سيارات الإطفاء التي جن جنونها فانطلقت مسرعة من كل صوب، تحمل نحو 1400 رجل إطفاء أعيتهم الحيلة، فجاءت طائرات الهليكوبتر تلقي بحمولتها من سوائل الإطفاء بلا جدوى.
لم يكن بوسع عمدة لوس أنجلوس كارين باس، التي صارت مدينة منكوبة، إلا أن تخرج محذرةً جموع الأمريكيين بالمنطقة قائلة: (نتوقع أن ينتشر هذا الحريق بسرعة). وعلى الفور تمت الإجراءات الاحترازية من أجل تقليل الخسائر البشرية قدر الإمكان. فتم إخلاء أكثر من 150 ألف شخص، وتم قطع الكهرباء عن نحو 300 ألف شخص آخرين خوفاً من حدوث ماس كهربائي هنا أو هناك يزيد من بشاعة الفاجعة.
شوارع لوس انجلوس سرعان ما اكتظت بسيارات الهاربين الفارين من ألسنة الجحيم الزاحفة، والمستشفيات تم تفريغها من مرضاها على كراسي متحركة، المشهد الذي استدعي لذاكرة المراقبين مشاهد إخراج المرضي من مستشفيات غزة قسراً!
انقطع الاتصال عن نحو مائتي ألف شخص، وتوقفت حركة القطارات. وبدأت ألسنة اللهب تلتهم كل ما في طريقها من قصور وبنوك ومعابد وكنائس ومكتبات وحانات ومطاعم ومدارس دون تمييز بين مبانٍ فارهة أو متواضعة. كان تركيز رجال الإطفاء الأكبر منصباً على المناطق الأهم وبخاصة "هوليود هيلز" وعلى قمتها برز شعار هوليود الشهير ومن خلفه ارتفعت زهرة النار من خلف التل.
ورغم الفرار السريع بفضل الإنذار المبكر، توفي نحو 10 أشخاص بخلاف المفقودين! وفي غضون ساعات لا تزيد عن 24 ساعة كان الحريق قد امتد لمسافة تزيد عن خمسة آلاف فدان، وأجهز على نحو 1500 مبني، وتحولت هذه البقعة، وفقاً للأقمار الصناعية لكتلة من الجحيم، وكأنها ضُربت بأعتي أنواع القنابل الفتاكة! هذا التعبير جاء على لسان قائد شرطة لوس أنجلوس عندما شاهد المنظر الذي تناقلته وكالات الأنباء!
ألغي بايدن آخر زياراته الخارجية قبيل تسليم السلطة، وكانت زيارة لإيطاليا. كما قطعت رئيسة بلدية لوس أنجلوس زيارتها لإحدى الدول الإفريقية، وعادت لأمريكا تتابع ما يحدث. وكان أغلب الذين تضرروا جراء الكارثة من مشاهير الفن والسياسة والاقتصاد، ومنهم نائبة الرئيس الأمريكي "كامالا هاريس" نفسها؛ تلك التي فقدت منزلها الفخم على شاطئ ماليبو.
وممن أخلي مواقعه، وكالة "ناسا" الفضائية، التي ركضت نحوها النيران! وكذلك جامعة كاليفورنيا. وبات الأمر جنونياً عند كل المراقبين والمتضررين، ومنهم فنانون من نجوم هوليود، أولئك الذين كان لبعضهم تصريحات إعلامية حضَّت على قتل الفلسطينيين صغاراً وكباراً، مدنيين ومقاتلين. فإذا بهؤلاء الفنانين عندما رأوا عذاباً يمسهم مساً، إذا بهم يخرجون على الإعلام يذرفون الدموع!!
إسرائيل السبب
لعنة نتنياهو حلت على سماء ثاني أغني مدينة أمريكية..
آخر استفتاءات إسرائيل أكدت أن 6% فقط من الإسرائيليين عارضوا وقف إطلاق النار في غزة! أي أنه لم يبقَ حول نتنياهو إلا قلة من اليمنيين شديدي التطرف ممن يشجعون استمرار حربهم الشعواء! وبات المجتمع الإسرائيلي مقتنعاً أنه اصطدم بصخرة غزة العنيدة، وأن المجال لم يعد متاحاً لتحقيق النصر المطلق الذي بشَّرهم به نتنياهو وزمرته في الحكومة اليمينية المتعطشة للدماء، وهو نصر كاذب واهم ليست له شواهد على الأرض..
الفترة الأخيرة شهدت انهياراً كبيراً للجيش الإسرائيلي على كل الأصعدة: تهرب الضباط والجنود الإسرائيليين من العودة للخدمة العسكرية، عمليات نوعية في مناطق عديدة أسقطت جنوداً كثيرين من صفوف الجيش الإسرائيلي، تغيراً في أسلوب المقاومة وصل إلى حد الهجوم المباشر على مواقع قيادة فرعية وإسقاط قادتها بأسلحة بيضاء بسيطة!
الغريب في الأمر أن كراهية وبغض الجيش الإسرائيلي وأفراده ازدادت لدي شعوب العالَم بأسره؛ خصوصاً بعد الإدانة التاريخية من جانب المحكمة الجنائية الدولية لنتيناهو ووزير دفاعه، وصارت تلك الإدانة تلاحق جنود الجيش الإسرائيلي في مختلف دول العالم: هناك 160 محامي في دولة تشيلي قاموا برفع دعوي قضائية ضد أحد هؤلاء الجنود فقبضت السلطات عليه تمهيداً لمحاكمته أو تسليمه للمحاكم الدولية. وجندي آخر في دولة تايلاند وُجد مقتولاً في ظروف غامضة، وجنود آخرين استطاعوا الفرار سريعاً قبل ساعات من تهديدات وشيكة في هذه الدولة أو تلك. حوادث وأنباء تكررت في وسائل الإعلام العالمية خلال الفترة الأخيرة. لم يعد هناك مكان آمن لجنود الجيش الإسرائيلي وضباطه. ولم تعد حجة "العداء للسامية" تنطلي على أحد. هذا تغير دراماتيكي حاد في نظرة العالَم لإسرائيل. بل وفى نظرة يهود الداخل ضد اليمين المتطرف الإسرائيلي.
هذا هو السر الذي يدفع نتنياهو للاستمرار في الهروب للأمام باستمرار؛ إذ لو توقفت الحرب فسرعان ما سيصبح هو وحزبه في مواجهة هدير الشعب الإسرائيلي، والقضايا التي تلاحقه شخصياً في الداخل والخارج.
وكما تسبب نتنياهو في إلحاق الضرر العظيم بإسرائيل، فإنه تسبب في إلحاق ضرر مماثل للولايات المتحدة الأمريكية ولرئيسها الحالي بايدن، واللاحق ترامب. فالأول حدثت في نهاية ولايته أعظم وأعتى كارثة طبيعية في تاريخ أمريكا، والثاني ستبدأ ولايته وهو يعاني ضرراً اقتصادياً كارثياً؛ إذ بلغت قيمة الخسائر المباشرة لحريق لوس أنجلوس ما وصل في أكثر التقديرات إلى نحو 57 مليار دولار. والأكثر من هذا أن عائدات لوس أنجلوس من السياحة والإنتاج الفني وموائد القمار، الذي يبلغ نحو 3.2 تريليون دولار سنوياً سوف يتأجل لأجل غير مسمي. كارثة اقتصادية مهولة تواجه البيت الأبيض.
كل هذا حدث في أيام قلائل. فكأني بتلك الكارثة أتمثل قول الحق في آياته: (فأكثروا فيها الفساد. فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد).
***
د. عبد السلام فاروق