أقلام حرة

علي الجنابي: المُتْحَفُ

لا ريبَ أنَّ الغارمَ الولهانَ بلسانِ الآباءِ والأجداد، لا يَرى فلاةَ الحياة إلّا بحدقاتِ لسانِ الضَّاد. ولقد زرتُ المُتحَفَ العِراقيَّ في بَغداد، لأستَنشقَ عبقَ الأمجَاد، ولأستَمتِعَ بألقِ الأسياد. ولقد أتحفتُ نفسي واستمتعتُ بزيارته بإسعَاد. وبينما أنا في بطنِ المُتحَفَ بإسهاد، إذ نادى في خاطري صوتُ مُناد؛
"إنَّ فتحَ الميمِ في كلمةِ "مَتحَف" هو فتحٌ خاطئٌ شائعٌ، لا فطنةَ فيهِ ولا فيهِ رَشاد، ولقد فَتَحَتهُ معاجمُ لغوية معاصرة للعِباد، كمعجمِ الرائد والوسيط واللغة العربية المعاصر، وأذاعَت به بلا اعتداد. ثمَّ هروَلَت من ورائها مؤسساتٌ ودوائرُ شتَّى بانقياد، وقد ظنُّوا بها معنىً لمستودعٍ للقىً أثرية من دهورٍ غابرة في الآماد". ونَسوا أن "مَدخَل" بفتحِ الميم هو مصدرٌ ميمي لفعلٍ ثلاثيٍّ "دَخَلَ"، بينما "مُدخَل" بضم الميم هو مصدرٌ ميميٌّ لفعلٍ رباعيٍّ "أدخَلَ"، وليسَ في لسانِ الضَّادِ اجتهاد، وليس فيهِ "قلْ كما تشاءُ يا أبا مُقداد، ودعِ الضَّبطَ ووالرَّبطَ وحسنَ السِّداد، لأنَّ لسانَ الأفرادِ على ما قالَ حتماً سوفَ يعتاد، فعلامَ الإنضباطُ بتَطَرفٍ والإرتباطُ بذي أوتاد".
كانَ ذلكَ هوَ الموجزُ، وإليكمُ تفصيلُ ما في الأنباءِ من حصاد:
إن "مُتْحَف" على وزن مُفعَل بضم الميم، وليس "مَتحَف" بفتحها، لأنَّهُ مصدرٌ ميمي ظرفي (مكان) من فعلٍ رباعيٍّ "أَتْحَفَ"، واسمُ مفعولهِ "مُتحَف"، ولأنهُ ما أتى من فعلٍ ثلاثيٍّ "تَحَفَ" وأصله "وَحَفَ" لأن تاءهُ مبدلة من واو. ونحنُ نعلمُ أنَّ المصدر الميمي من الفعلِ غير الثلاثي يُصاغُ كاسمِ مفعولهِ، على وزن فعلهِ المضارع، مع إبدال حرف المضارعة ميماً مضمومة، وفتح ما قبل الآخر، كقولنا؛ مُدخَل من أدخلَ، ومُلتقى ومُقام ومُنعطف، وفي التنزيل الحكيم: { رَّبِّ أدخِلنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ }.
ثمَّ إنَّا نعلمُ كذلكَ، إن كانتَ فاء الفعل الثلاثي واواً، فالمَفْعِل منه بكسر العين مطلقاً، أي سواء به المصدر أو الظرف نحو: وَعَدَ يَعِدُ مَوْعِدًا، (... وإذا الفا كان واواً بكسر مطلقا حصلا) كما قالَ "بَحْرَقُ" في كتاب" فتح الأقفال وحل الإشكال بشرح لامية الأفعال المشهور بالشرح الكبير" لجمال الدين محمد بن عمر المعروف ببَحْرَقَ (٨٦٩ - ٩٣٠ هـ) بتأصيلٍ رفيعٍ وتفصيلٍ بديع. وإذاً، فقد لزمَ أن يكونَ المصدر "مَتحِف" بفتح الميم وكسر الحاء وليس "مَتحَف" بفتح الميم والحاء كليهما، وذلكَ شائنٌ ولا يُقال، بل إنَّهم قالوا؛ مُفْعُل ومُفْعَل بضم الميم، مع ضم العين أو فتحها: " مُنْخُل ومُنْخَل " و" مُنْصُل ومُنْصَل " للسيف، وهذا مما يستعمل وأوله مضموم، ومما ضُمَّ من هذا الفن أوله " مُسْعُط " و" مُدْهُن " و" مُكْحُلة " ولا يقال فيه غير ذلك.
وقد جاء في معجم لسان العرب في معنى التُّحْفةِ: ما أَتْحَفْتَ به الرجلَ من البِرِّ واللُّطْف والنَّغَص، وكذلك التُّحَفة، بفتح الحاء، والجمع تُحَفٌ، وقد أَتْحَفَه بها واتَّحَفَه؛ قال ابن هَرْمةَ: واسْتَيْقَنَتْ أَنها مُثابِرةٌ * وأَنَّها بالنَّجاحِ مُتَّحِفَه قال صاحب العين: تاؤه مبدلة من واو إلا أَنَّها لازمةٌ لجميع تَصارِيف فعلها إلا في يَتَفَعل. يقال: أَتْحَفْتُ الرجل تُحْفةً وهو يَتَوَحَّفُ، وكأَنهم كرهوا لزوم البدل ههنا لاجتماع المِثْلين فردوه إلى الأَصل، فإن كان على ما ذهب إليه فهو من وَحَفَ، وقال الأَزهري: أَصل التُّحْفةِ وُحْفةٌ، وكذلك التُّهَمَةُ أَصلها وُهَمَةٌ، وكذلك التُّخَمةُ، ورجل تُكَلةٌ، والأَصل وُكَلة، وتُقاةٌ أَصلها وُقاةٌ، وتُراثٌ أَصله وُراثٌ.

إنتهت نشرةُ أخبارِ الضاد، وشكراً لحُسنِ إصغاءٍ جميلٍ متوقدٍ وقَّاد، وأظنُّ أنَّ ما في أنبائِيَ مِن حَصاد، هو خيرٌ وأفضلُ مِن أخبارٍ
هَوسٍ بازدياد، عن طغوةِ الحكَّامِ بتجبُّرٍ وعنادٍ بارتِداد، وعن غفوةِ "برلمانيينَ" سذَّجٍ أوغاد، وكذا عن أهلِ وترٍ وطَربِ لا يعرفونَ
ما العزَّةُ ولا قدحُ الزِّناد، هم ومَن يستثمِرُهُم من ورائهمُ من فاجرٍ قَوَّاد. بيدَ أنَّهُ لا تثريبَ ولا حرجَ من إنصاتٍ بإرصاد، لأخبارِ أهلِ الرياضةِ البريئةِ من كلِّ فساد، شرطَ أن تتشاغَلَ بأخبارِ بطولاتٍ كرويةٍ لما في أوربا وأمريكا من بلاد، وأن تتناقلَ أخبارَ بطولاتٍ عن دوراتِ "الأولمبياد"، لا أن تتناولَ أخبار مباراةٍ بينَ "الوكرةِ القطري" و"أم درمان" السُّوداني، ولبئسَ المضمارُ ذاكَ، ولبئسَ ما فيهِ جياد، ولا شكَّ أنَّ أخبارَهمُ أخبارٌ تُفَتِّتُ الأكبادَ، تُدهِنُ الوجهَ بالسَّواد، وقد تجلطُ الفؤاد. فحَذارِ حَذارِ يا أبا مُقداد، من انكبابٍ في تهي دُنيا على أخبارِ رياضاتِ العربِ بتفاعلٍ ووداد، وكفى مل ينتظرُكَ في الآخرة من سوءَ مُنقلَبٍ وبئسَ المهاد.

أمزحُ وحسب، وتحياتيَ الأخوية لكَ يا أبا مُقداد.
***
علي الجنابي

 

في المثقف اليوم