أقلام حرة
نهاد الحديثي: المثقّف كسر القالب وحَمَلَ الحقيقة
يقول اللفيلسوف الأميركي المعاصر، نعوم تشومسكي، وهو المُناهض لسياسة الإدارة الأميركية الخارجية، بأن "المثقّف هو من حَمَلَ الحقيقة في وجه القوّة"، لتربطه بمواقف الكثير من المثقّفين الغربيين والعرب، على خلفيّة الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023، والتي أظهرت حَجْماً من التخاذل، وحَجْماً من الثقافة المُعلّبة وفق إرادة السلطات السياسية وروايتها الرسمية؛ وكلّ من حاول الخروج عن هذه الرواية تمّ تكميمه أو تحجيمه وإلغاؤه تماماً,, فلسطين عوّدتنا أن تكشف الأقنعة؛ ليس أقنعة الأعداء، لأنهم مكشوفون أمام الجميع، ولكن أقنعة كثير من المثقّفين الذين دجّلوا على الناس بدجل المعرفة، لكنهم سقطوا بصخب كبير في اختبار الحرب على غزة. فالمعرفة مهما كانت ساطعة الجمال، ومُغرية في بُعدها العقلي، لكنها تصبح دجلاً وشعوذة حينما يحملها مثقّف مُنبطح للمحتل، أو مُلتوٍ تحت رداء سلطة مُطبّعة، أو مُتعاونة، أو جبانة، خوفاً على منصبه أو موقعه، أو حتى منبره المعرفي، أو خوفاً على نمط حياته المُترف، من أن يصبح مظهراً من مظاهر شَظَف الحياة,, والشعوذة الأخرى باسم الثقافة تأتي من مثقّفي البترودولار، خاصة أولئك الذين امتهنوا الثقافة كوظيفة. فبقدَر ما يصنعون ثقافة مُموّلة تفيد مُموّليهم، بقدَر ما ترتفع قيمتهم السوقيّة كسلعة، جعلت منها فلسطين سلعة بخسة تُباع بأزهد الأسعار في سوق النخّاسين,
أما مُثقّفو الفتنة والفرقة، فأولئك الذين امتطوا شعارات دينية ومذهبية، والتي ترى بنظّاراتهم الضيّقة الغبيّة الإقصائية، وكأنّ الله خلقهم وكسر القالب؛ وهم لا يختلفون كثيراً عن الفكرة الصهيونية اليهودية المرتكزة على فكرة "شعب الله المختار"؛ وهؤلاء أشدّ خطراً على الامة من غيرهم، ويتبعهم السذّج البسطاء، وما أكثرهم ,, بالمقابل، يجب على المثقّف (المشتبك) أن يُحقّق أوّلاً عدالته النفسيّة التي تخلق لديه حالة الإنصاف حتى للعدوّ بذاته. فحتى تُحقّق العدالة عليك كمثقّف أن تُنصف عدوّك من نفسك، فتُحقّق الإنصاف النفسي أوّلاً لتستطيع تحقيق العدالة في الخارج؛ فالإنصاف عيْن العدل.
ونتساءل ///
* ما دور المثقف في هذا العالم الذي يتقدم ويشكل تكتلات علمية وفكرية؟ ما قوة المثقف في محاربة الأفكار الدخيلة؟ وأين دوره الفكري في التحليل والقراءة وصناعة الوعي الاجتماعي والثقافي ورسم خارطة المستقبل التي يتمنى أن يكون عليها مجتمعه دون تحيز أو مبالغة بل بآراء مبنية على دراسات ميدانية حقيقية؟ فكيف يمكن أن نغير الواقع دون تحليله وفهمه واستقرائه والوصول للإنسان العادي؟ المثقف قد يكون أستاذاً جامعياً، أو مفكراً، أو باحثاً وغيره، هو حامل شعلة التغيير لقيادة الفكر وبناء الوطن، وعليه أن يتمتع بقدرات تجعله يتواصل مع أفراد المجتمع بطريقة سهلة وحسب مستوياته وقدراتهم الفكرية، وأن يوصل أفكاراً لهم بطريقة بسيطة وجذابة من أجل إحداث التغيير فيهم، فالمثقف لديه رسالة يصنعها وينشرها وهو مؤثر في مجتمعه فهو مرآته. لذلك يجب أن يمارس دوره الحقيقي في صناعة الرأي المحايد حسب خبرته وبعيداً عن المحسوبيات والتحيزات، فلابد أن يكون الواقع السعودي مادة أولية للاشتغال بها وإعادة تشكيل كل ما حولنا، وفهمه بشكل صحيح، فنحن لا نرغب بواقع مزيف، فهذا يعقّد الواقع ولا يساعد على استشراف المستقبل، والقراءات السطحية لا تثمر إلا السطحية، نريد الفعل الفكري للمثقف لا التنديد والشجب والتذمر، نريد مشاريع فكرية تؤسس لواقع قوي واضح وتستشرف المستقبل الذي لا نعلم عنه شيئاً لدينا لننشر الوعي ولنصل للإنسان العادي
* المثقّف في كلّ حالاته، وأينما يكون، في أي جغرافيا، لا بدّ له أن يشتبك مع واقعه المعاصر، ومع تاريخه وهويّته، وأن يكون اشتباكه مؤثّراً في تغيير واقعه للأفضل والأكثر عدلاً. فالمثقّف عين المجتمع الساهرة، وهو من أُسُس الفعل المقاوم بكلّ أشكاله، وهو رأس الاشتباك في ميدان المجتمع، عسكرياً، وثقافياً، وفكرياً، واجتماعياً؛ فهو خادم لهذا المجتمع وليس سيّداً عليه؛ وهو جسْر الوصل بين هموم الناس ومؤسسات السلطة؛ لكنه جسْر وصْل لا جسْر وصولي لمصالحه، بل وصْل لمصالح الناس ووضعها على سكّة العدالة والمعرفة الحقّ. ، ودور المثقف وسط كل هذا يأتي من خلال المساهمة بأفكاره عبر الكتب والبحوث والإبداع لبناء وتنمية الوطن والاستفادة من كل التقنيات الموجودة لتحصين الوطن من الأفكار السامة عن طريق التوجه للشباب لاستثمار إمكاناتهم وأفكارهم من أجل أن يتبنوا مشاريع ثقافية تنويرية تسهم في بناء المجتمع، فالمثقف بعمقه المعرفي ورؤيته لتغيير المجتمع للأفضل بأفكاره وسلوكه يصبح أحد الأعمدة التي يُتكأ عليها للنهوض بالمجتمع.
***
نهاد الحديثي