أقلام حرة

علي علي: سلبياتنا (منا وبينا)

بين أحداث تمر مرور الكرام، وأخرى تحز في النفوس وتدمي القلوب وتخدش الخواطر، وثالثة تثير الاستهجان والامتعاض، ورابعة تدعو الى الانتفاض والتمرد، وخامسة وعاشرة وعشرين… حتى تعجز الأصابع عن عدها، ويضيق بها قوسان إن أردنا حصرها بينهما، يقضي العراقيون أعمارهم، ويشطبون سنوات من حياتهم، ويعدون العدة لأخريات وهم غير واثقين أن القادم من أعمارهم يبشر بخير، لا لقنوط تسرب الى نفوسهم، ولا لتشاؤم تطبعوا به من جراء ما صادفهم، بل لأن أسلوب إدارة بعض الولاة والحكام الذين تعاقبوا على حكم بلاد مابين النهرين، لم يكن بالمستوى المطلوب ولا نصف المطلوب، بل هو أحيانا يكون بعيدا عن كل ما مطلوب، في حين كان حريا بهم أن يتميزوا ويتفردوا في نهجهم الإداري، لاسيما أن منجم الخيرات اللامنقطعة واللامعدودة تحت تصرفهم، بما يعكس على شعوب البلاد مقومات السعادة والعيش الهني والرفاه والازدهار.

ولعلي لا أبالغ إن قلت أن نسبة سيئي الإدارة باستغلال هذه الثروات، كانت أضعافا مضاعفة عن الجيدين فيها، فمنهم من بددها وضيعها في حوائجه الخاصة، ومنهم من أحاط نفسه بزبانية سراق وفاسدين، فراحوا يعبّون منها جيوبهم وجيوب عوائلهم وخواصهم، وخزنة البلاد تئن تحت بسط أيديهم على مفاتيحها، ومنهم من سخرها في خوض حروب ومهالك، مع دول قريبة أو بعيدة، أتت على الزرع والضرع والأخضر واليابس، حيث يزجون البلاد وشعبها كل حين في (كونة) هنا أو غزوة هناك، غاضين نظرهم واهتمامهم عن المصالح العليا، ضاربين عرض الحائط مواكبة تطور أمم العالم. والطامة الكبرى -والطامات كثر- أن اللاحقين من السلاطين لم يتعظوا من أخطاء الأولين في سوء الأدارة، بل تمادوا في غيهم دون حسيب ورقيب، وهم يدّعون أن مسيرتهم حافلة بالنجاحات بقيادتهم الحكيمة، ورياستهم السليمة، وكياستهم في التعامل مع أقرانهم ونظرائهم في الخلق، ممن يجاورونهم مكانا أو من هم بعيدون عنهم. وبتراكم هذه السلبيات تولّدت خبرة لدى الشعوب على مدى عصور، بمصداقية حكامهم والقائمين على إدارة دفة سفينتهم، دون الحاجة الى محلل او خبير او منظّر او قارئة فنجان.

ولا يخفي أن بلادنا تزخر بالخيرات في باطن أرضها، وكذا الحال على سطحها ومائها وسمائها وموقعها، غير أن إرث سوء إدارتها وتحييد المصلحة العليا، مازالا يمثلان السمة الغالبة لبعض من يتبوأون الصفوف العليا في القيادة، وهذا ما يسهّل تدخل جهات خارجية متصيدة في عكر المياه، بشأن البلاد الداخلي لأغراض دنيئة شتى، وكناتج حتمي لهذه السياسة، نرى اتساع رقعة الخلافات ومساحة الاختلافات يوما بعد يوم، وتتتالى النزاعات وتتوالى الاحتدامات بتصعيد لا يخبو أواره يوما، إلا ليضطرم أياما وشهورا وسنوات، وتتنوع المكائد والمصائد التي ينصبها بعض ساسة البلد لبعضهم، بدل أن يكون: "بعضهم لبعض ظهيرا" حيث سايروا الطوفان القادم على البلاد، وأسهموا في الخراب والتخلف في جوانب عديدة من مفاصل البلاد.

ولم تعد هذه السياسة خفية على فكر المواطن، بل باتت حيثياتها معلومة لديه، وأدرك أن ما تصادفه بلاده من أحداث سيئة، لم تأتِ من المريخ أو من زحل، فهي بين موروثة ومفبركة، وبين مصطنعة ومتعمدة، وبين مستوردة ومحلية، وبين همزة لمزة، وبتحصيل حاصل سلبياتنا (منا وبينا). كذلك هي أحداث منها لا يتشرف مؤرخ بتدوينها، ولا تستحق من الأجيال استذكارها فيما بعد، ومنها تطبع في سجل الذكريات وتنقش يومياتها بالتفصيل الدقيق، وكلها بمجملها محزنة حدا يتجاوز البكاء والنحيب والعويل، وليس أمام المواطن غير اجترار ردود الأفعال ذاتها كل جيل، وصار بديهيا لديه استنساخ المتوارث منها، وترجمته إلى ردود محدثة بطريقة: (Copy Paste).

***

علي علي

في المثقف اليوم