أقلام حرة

نهاد الحديثي: نحن ومواقع التواصل الاجتماعي

كنا نعيش في زماننا الجميل بعيد عن ثورات التكنولوجيا الحديثة والتواصل الاجتماعي، فهذه المواقع الاجتماعية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، بحاجة ماسة لأن تُمارس الكثير من الأدوار والعلاقات وتُقدم الكثير من الخدمات والمبادرات التي تُسهم في إحداث نهضة حقيقية للمجتمع بمختلف أفراده وفئاته وشرائحه، بيوتنا فقدت خصوصيتها وأسرارها، حتى صارت معظم البيوت من قوانينها أن لا تمتد يد إلى الطعام قبل اِلتقاط صورة للفيس بوك، وهناك أطباق تصنع لتصور في الإنستغرام فقط، وهناك ثياب تشترى لحصاد إعجابات وتعليقات رأس السنة، أو الأعياد الدينية، وهناك خلافات زوجية تناقش على الملأ، وصور مخلة يبدي رأيه فيها كل من هب ودب. وأنا لا أعرف حتى اللحظة ما المراد إيصاله من شخص أراد النوم فكتب منشورا قائلا "الأن سأنام".. الحمد لله أنه أخبرنا بذلك، كان العالم كله واقفا على أعصابه خشية ألا ينام، ولقد صار بإمكان هذا الكوكب أن يكمل حياته بعد أن اطمأن على نومه المبارك، ريثما يستيقظ جلالته ويطمئن على رصيد التفاعلات والتعليقات ويصور لنا فنجان قهوته مرفقا بكتاب، أغلب الظن أنه لن يفتحه، إذ من المحال أن تجتمع الثقافة والتفاهة في آن واحد.

بلا شك أن مواقع التواصل الاجتماعي لها فوائد عديدة في تقريب المسافات وخلق قنوات اتصال مع الأقارب والأصدقاء وزملاء العمل، لكن إذا كنت ممن يعشقون مواقع التواصل الاجتماعي بدرجة كبيرة ويستمتعون بنشر العديد من الصور الشخصية على مختلف المنصات التواصلية،تعتمد مواقع التواصل الاجتماعي بصفة عامة على المشاهدات والإعجابات لما ينشره المستخدم من صور وآراء شخصية. فمع الوقت يشعر المستخدم بسعادة لكونه محط إعجاب أو لأنه يلفت الانتباه بما ينشره. فالأمر لا يستغرق منه سوى ثوان معدودة في التقاط ونشر الصورة، فيما تأثيرها يستمر لساعات، وقد تحظى بإعجابات ومشاهدات لعدة أيام بعد نشرها، فقد أظهرت هذه الشبكات الإنسانية مكامن ومعالم الطفولة والبساطة والعفوية التي نتمتع بها، بل لقد حرضتنا على التمرد الجميل على كل تلك التقاليد والعادات والضغوطات والالتزامات التي سيّجت حياتنا بأسوار عالية تُقيدها ثقافات العيب والخجل والتردد. لقد أصبحنا نستمتع بمشاركة الأهل والأصدقاء بل حتى الغرباء في أطباقنا وأغانينا وملابسنا وأفلامنا ورحلاتنا وصورنا وكل تفاصيلنا الصغيرة والكبيرة، تماماً كما لو كنا نعيش زمننا الجميل الذي تاه منا.

منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، بدأت مجموعة من الشبكات الاجتماعية في الظهور، وكان موقع Classmates.com الذي وضعه المصمم راندي كونرادز مع زملائه في عام 1995 هو الركيزة الأولى لمواقع التواصل الاجتماعي، ثم تبعه موقع SixDegrees.com.

الذي أنشئ في عام 1997، ليبدأ عصر جديد أطلق عليه"ثورة الشبكات الاجتماعية" يتضمن مواقع التواصل الاجتماعي المعروفة والمدونات العامة والشخصية، يبدو أن أهمية وخطورة وتأثير الشبكات الاجتماعية والمنصات التفاعلية والتطبيقات الرقمية على مجمل الحياة العصرية بكل ما تحمله من تفاصيل إنسانية ومادية، لا يمكن اختزالها ببعض السلبيات والمخاطر والتأثيرات التي تنتج من سوء استخدام أو من قصور في فهم طبيعة ووظيفة تلك الأدوات التكنولوجية الرائعة، بل على العكس تماماً.

ورغم ما تحمله من بعض المخاطر والسلبيات، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي مثل إكس والفيس بوك وسناب شات وانستغرام وغيرها، تتمتع بملامح إيجابية مذهلة لا يمكن حصرها، لقد استطاعت هذه الشبكات الاجتماعية الرائعة أن تجعل هذا العالم أكثر انفتاحاً، لأنها لا تعترف بالحدود والحواجز والمسافات، فقد حولت العالم إلى شاشة كونية صغيرة جداً لا تزيد مساحتها عن عدة بوصات، مفتوحة على كل الفضاءات ومتصلة مع كل السماوات. كما ساعدت هذه المواقع على تنوع مصادر الأخبار، فبعد أن كانت وسائل الإعلام التقليدية كالصحف والتلفزيونات والإذاعات ووكالات الأنباء هي المصادر الوحيدة التي يُعتمد عليها في معرفة الأخبار والأحداث، ظهرت هذه المواقع والشبكات لتُغيّر الشكل والأسلوب وتؤسس لإعلام جديد عابر لكل القارات والعادات والقناعات. أيضاً، أصبح الإعلام الجديد بأذرعه القوية وتطبيقاته المذهلة، يُمارس دوراً رقابياً مهماً عبر ما يبث وينشر ويعرض لكل مكامن القصور والخلل في كل ملامح وتفاصيل حياتنا، إيجابيات وفوائد هذه المواقع والشبكات الاجتماعية الرائعة، كثيرة ومتنوعة ولكن أعظمها على الإطلاق هو قدرتها المذهلة على إخراج ذواتنا الحقيقية من بين تلك الجدران السميكة التي بنيناها حول أنفسنا كل تلك السنين الطويلة، ولكننا نعترف ــ ظهرت صفحات التواصل الاجتماعي المتعددة الأنواع والأشكال كمنجز حضاري عظيم، أفرزته العقول العملاقة المبدعة عبر التقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصال. وهي مجموعة المواقع الإلكترونية المتاحة على الشبكة العنكبوتية، والتي يستعملها الناس لغايات التواصل والتفاعل. ورغم أنها حققت أغراض التواصل السريع وغير المكلف بين الأصدقاء، وردمت القطيعة بين أفراد الأسر، واختزلت المسافات بين الشعوب، إلا أنها من ناحية أخرى أثّرت على العديد من المجالات الحياتية بشكل سلبي، بحيث سلبتنا مواقع التواصل الاجتماعي الدهشة لرؤية أشياء جديدة وجميلة، حتى أصبح كل ما نراه عاديا جدا، مواقع التواصل الاجتماعي، أكبر بكثير من كونها مجرد تطبيقات ووسائط لعرض الصور واليوميات، هي أهم من ذلك بكثير، هي الصورة التي نُريد أن نلتقطها لحياتنا بكل بساطتها وعفويتها.

***

نهاد الحديثي

في المثقف اليوم